العرب والمسلمون وجنون السلطة

العرب والمسلمون وجنون السلطة

- ‎فيرأي
265
0

محمد بوبكري
تختلف منظومات القِيَّم باختلاف ثقافات المجتمعات وأوضاعها. وأقصد بذلك القِيَّم كما يعيشها الإنسان في الواقع. وتفيدنا دروس تاريخ مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن السلطة التي تنهض على القوة والنفوذ والمال هي القيمة التي تحرك هذه المجتمعات وتوجِّهها في كافة مجالات حياتها، كما أنها تتحكم في سلوك الناس، إذ إن ما يمنح الإنسان السلطة والجاه ويؤدي إلى مراكمة الثروة هو ما يستحق التضحية من أجله بكل شيء، كما أن كل ما يتعارض مع هذه القيمة الأساس ويعوقها يلزم القضاء المبرم عليه لأن السلطة والمال في المجتمع العربي الإسلامي هي قيمة أساسية، بل إنها قيمة القٍيَّم التي تعلو ولا يٌعلى عليها…
لقد أدى حُبٌّ السلطة والوجاهة إلى حروب طاحنة عبر تاريخ هذه المنطقة، حيث حكم العرب الأندلس لمدة ثمانية قرون، لكنها ضاعت منهم نهائيا بسبب الصراع على السلطة الذي سيطر هناك على العرب والمسلمين عبر كل الأجيال، فَسَهٌل على الأسبان القيام بملاحقتهم ومحقهم وطردهم من القارة الأوروبية…
إضافة إلى ذلك، لقد كانت التغيرات السياسية التي عرفها تاريخ مجتمعات هذه المنطقة ناجمة أساسا عن النزاع على السلطة من أجل إحلال زعيم محلَّ زعيم آخر، ما حال دون حدوث ثورة ثقافية واجتماعية في التاريخ العربي تؤدي إلى تحوٌّل عميق في المجتمع والدولة، فصار الحاكمون هم الأهم، ولا قيمة لغيرهم. لذلك لم يشهد التاريخ العربي الإسلامي أي تغيير نوعي يشمل البنية العميقة للمجتمع والسلطة، ما أعاق تحديثهما ودمقرطتهما منذ عقود طويلة، فباتت النزعة السلطوية تخترق جميع العلاقات الاجتماعية داخل كل مؤسسات المجتمع…
نتيجة لذلك، يٌعَدٌّ اختلال منظومة القيَّم بهذه المجتمعات سببا في ما أصابها من بلاء، حيث يقتضي الازدهار والتقدم الاقتناع بقيَّم الحق وحب العلم والعمل، وبزوغ الفردية، وامتلاك روح المبادرة، والاعتراف بالخطإ والتعامل معه بواقعية… لكن الثقافة العربية لا تعطي عموما أهمية لهذه القِيَّم الحضارية وغيرها من القيم الأخرى، بل إنها تٌركِّز اهتمامها على السلطة والنفوذ والمال… ولا تأخذ بعين الاعتبار أن السلطة في المجتمعات الديمقراطية هي وسيلة وليست غاية، حيث إنها ليست مقصودة لذاتها ولا هي أعلى قيمة، وإنما هي تابعة. أما في الثقافة العربية فإن السلطة هي القيمة الأساس التي تنهض عليها كل القيم الأخرى، أضف إلى ذلك أن الحصول عليها لا يقتضي الكفاءة والنزاهة والإخلاص… وإنما يتم بالإغراء أو التسلط. وهذا ما يعوق انخراط المجتمع العربي الإسلامي في تكوين إنسان عادل حٌرّ وبناء حضارة تساير روح العصر وتمكِّن من الانخراط في الحضارة العالمية عبر الإسهام فيها…
وللتدليل على ذلك، فما كادت دول هذه المنطقة من أن تحصل على استقلالها حتى صار أهلها أشدًّ تشتتا وأكثر انقساما، فأصبح لهم اثنتان وعشرون دولة، وذلك بالرغم من أن عدد السكان ضئيل جدا في بعض هذه الدويلات حتى أنها عاجزة عن تلبية العدد الكافي من الموظفين الذي تحتاج إليه سفاراتها بالخارج. وهذا ما دفع البعض إلى استنتاج فكرة مفادها أنه لو أن العرب والمسلمين هم الذين اكتشفوا القارة الأمريكية واستقروا بها، لانقسمت إلى مائة دويلة أو أكثر بدلا من كونها اليوم دولة واحدة تبسط هيمنتها على العالم كله… كما أن الصين تتميز بالاتحاد والتماسك منذ زمن بعيد جدا بالرغم من أنها تضم خُمُسَ سكان العالم وتوجد بها مئات الأديان والمذاهب والأعراق واللغات…
تبعا لذلك، يبدو لي أن قابلية التشرذم والتفتت خاصية عربية إسلامية، وذلك راجع إلى رسوخ جنون الصراع على السلطة والنفوذ والوجاهة في الثقافة العربية، ما يفسر ما يعرفه العرب والمسلمون اليوم من حروب إبادة قد تؤدي إلى اندثار كياناتهم… كما أنه يكشف أنانيتهم وانغلاقهم المفرطين، ويعري عدم قدرتهم على تطوير آلية لمراجعة الأفكار وتغيير الأوضاع، ويؤكد غياب إرادة العمل على بزوغ الذات… وهذا ما نجم عنه ارتهان اتجاهات الناس ومصائرهم بولاءات ونزوات أصحاب النفوذ والوجاهة والمال… نتيجة ذلك، صار العرب يقدمون أسوأ صورة عن أنفسهم…
وهذا ما يفسر انغلاقهم ورفضهم لأي انفتاح أو تلاقح مع الآخر، لأن ما يحدث اليوم في هذه المنطقة ليس نتيجة تفكير ورويَّة، وإنما هو نتاج الحروب الطاحنة التي تنشب بقرار شخصي من الزعامات، حيث إن الناس في هذه المجتمعات لا يفعلون سوى السير خلف زعمائهم سواء كان كان في ذلك خيرا أو شرا لهم.
تؤكد هذه الحقيقة التاريخية أن الإنسان العربي المسلم لا فردية له، وإنما هو جزء من قطيع قَبَلِي أو طائفي، وأن قرارات الشيخ أو الزعيم مرهونة بمصالحه الخاصة، حيث إنه لا يستجيب غالبا للحق أو يرفضه عن قناعة ناجمة عن قيامه بالبحث والتقصي، بل إنه يختار السِّلم أو الحرب تلبية لرغباته الجامحة، أو خوفا من الآخر.. لذلك يلاحظ دارسو التاريخ العربي الإسلامي أن الأقدر على شراء الزعامات القبلية والطائفية هو الذي يستطيع أن يضم القبائل والطوائف إلى صفوفه، ما جعل الزعيم القَبَلي أو الطائفي يوصف بأنه الرجل الذي إذا غضب، غضب له مائة ألف فارس، حيث لا يٌسأل عن سبب غضبه، وإنما يندفع الجميع وراءه إلى الموت لمحاربة من وما يُغضبه.
وإذا كانت الدّول المتقدمة قد تخلَّصت من البنيات العقلية والاجتماعية التي تفرز هذه الولاءات القَبَلِية والطائفية وقِيَّمها التي تعوق التحديث والبناء الديمقراطي، فإن المجتمعات العربية الإسلامية ما تزال غارقة في أوحالها، بل إن ما يٌسمى الآن بظاهرة التحزٌّب فيها هي مجرد استمرار لظاهرة الولاءات القبلية والطائفية التي تطمس الفرد والفردية وترهن مصيره برغبات واتجاهات قلَّة قليلة من الأفراد يسيرون بأتباعهم نحو الهلاك.
تبعا لذلك، يبدو أن حٌبَّ السلطة والمال حبا جمّا هو ما يفسر، في الأغلب الأعم، ما يعيشه العرب والمسلمون من تخلف وحروب طاحنة، الأمر الذي لا يُمْكِنٌ التخلص منه وممارسة القطيعة معه بانتشار التعليم وبناء المدارس والجامعات فقط، وإنما يقتضي ذلك في البداية إحداث ثورة فكرية وقِيمِيَّة تجعل الناس يحسون بالمسؤولية، وتمكِّنهم من القدرة على فحص الأفكار والمواقف والأوضاع وتحليلها، ومراجعة ذواتهم بتلقائية، وبناء معارفهم الخاصة، والاقتناع بالحق والصدق، وممارسة الوضوح والشفافية، واحترام بعضهم البعض، وحب العلم والعمل… ما يؤهلهم لمعرفة العوائق الذاتية والموضوعية للبناء والتقدم، وتوفير الشروط الضرورية لبناء حضاري سليم وشامل…

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت