د. بن لحمام بوجمعة
يمكن النظر إلى وجود فئة من المواطنين – الموظفين خاصة وغيرهم – لا تتمكن من اقتناء سكن بسبب أن لها تحفظات حيال التمويل البنكي بصيغه المتداولة ، باعتباره أحد الإشكالات الاجتماعية الأساسية ، رغم ما يراد له من أن يظل مسكوتا عنه ، وخارج أي نقاش اجتماعي تفرضه أهمية الموضوع في ذاته ؛ فالسكن ، وحتى بعيدا عن تكييفه في سياقات القضية التي نطرحها ، هو حق أساسي للأفراد تقره جميع المواثيق والعهود الدولية في مجال حقوق الإنسان . ثم إن ما تطرحه القضية من تساؤلات ، هو حتما ، يتجاوز دائرة الاجتماعي إلى ما له ارتباط وامتداد ضمن مجال الديمقراطية والمساواة السياسية بين المواطنين ، وبالمسؤولية الحقوقية التي تتحملها الهيئات والمؤسسات التابعة لقطاعات الوظيفة العمومية ، وغيرها ، في تهييئ السكن لموظفيها أو المساعدة في ذلك ، وفق صيغ تستجيب لقناعات الجميع ؛ وليس لفئة دون فئة.
إن الحصيلة الواقعية للنظام ، أو السياسة الإسكانية المتبعة – من منظور القضية التي نطرحها – هي وجود فئتين من المواطنين ؛ فئة تستفيد – لعدم وجود عوائق أمام ولوجها إلى خدمات القطاع – من مختلف العروض العقارية (وحدة سكنية : شقة …/ المنزل المنفرد / المنزل المزدوج / المنزل المنفصل جزئيا… إلخ) ومستوياتها (سكن اجتماعي / سكن اقتصادي / سكن راق… إلخ) ، وفئة أخرى غير قادرة على الولوج إلى أي من هذه العروض بسبب أنها لا تجد طريقة أخرى للتمويل والأداء تلائم توجهاتها وقناعاتها. وفي واقع الأمر ، فإن هذا الوضع المزمن والمكرس ، في مجال هو من أكثر المجالات أهمية في حياة الناس ، إن لم نقل أهمها على الإطلاق ، لحساسيته الإنسانية ، وارتباطه بواحد من أهم الحقوق الأساسية للإنسان ، لينطوي على تعارض كامل مع روح الديمقراطية والمساواة المفترض قيامها بين المواطنين ؛ إذ يقع معه إقصاء فئة وإهمال حقوقها بطريقة ليس أكثر منها قسوة ، وإمعانا في قهر الناس ، بل ووجدا عليهم أنهم اختاروا السير في طريق مختلف لا يرضي المتحكمين في هذا القطاع.
إن هذه الفئة من المواطنين ، وهي في أتون معاناتها متعددة الوجوه مع السكن ، لتجد أن كل الجهات ، المعنية بحل مشاكلها ، قد خذلتها ؛ بل الأحرى أنها تكاد لا تهتم ، قليل اهتمام – ولو من باب النفاق الإجتماعي – بوضعها ، أو تشغل نفسها بأية مبادرات قد تخفف من حدة هذه الأزمة المزمنة التي تعانيها ، بل إنها لتعتقد أن ثمة نية مبيتة ، وتصميما ثابتا ، أن وضعها تجري إطالة أمده بما يجعلها أخيرا ترضخ للأمر الواقع. ومن وجهة نظرها كذلك أنها لا قيمة لانتمائها الذي لم يكن جديرا بأن يدفع المسؤولين إلى مراعاة ظروفها في هذا الموضوع شديد الأهمية. هذه فضلا عما صار بمثابة الاعتقاد لدى البعض ، من هذه الفئة ، أن المبدأ الذي يحدد موقفهم في القضية ، هو محل رفض وعداء من أطراف متعددة ، فينتج عن مجمل الوضع حالة من عدم الثقة ، ومن التوجس ، ومن تسمم الأجواء ، وهو ما يتنافى تماما مع ما يفترض سيادته بين فئات المجتمع الواحد من مظاهر الألفة والوفاق والتعاون والتكافل وعدم الاستغلال… وغيرها.
والواقع أن فئة تنزلق إلى مثل هذا الموقف قد يكون لها كل العذر ما دام أنها تضار ، دون جميع الفئات ، في حق أساسي من حقوقها ، رغم أنها ، في أغلبها ، تمتلك إمكانيات قد تفوق غيرها ، تسمح لها واقعيا أن لا تكون في هذا الوضع القاهر والمهين ؛ فضمن هذه الفئة تجد تجارا متوسطين ، وتجد أساتذة من جميع المستويات – بما في ذلك الحائزين على شهادة الدكتوراه – وتجد أطباء حديثي التعيين . بل ، وبالجملة ، تجد مختلف الموظفين من كافة قطاعات الوظيفة العمومية . هذا إضافة إلى أنك تجد أفرادا آخرين مختلفين ، ليسوا موظفين ، يمتلكون إمكانيات مادية قد تكون مهمة لكنها غير كافية لشراء السكن الأدنى المتاح. فكيف يتصور أن لا يملك هؤلاء سكنا ؟ كيف يتصور أن لا يمتلك موظف قد يكون كبيرا ؛ أستاذ من أعلى سلم مثلا ، وبأعلى شهادة وهي الدكتوراه ، سكنا ، فيظل في الأغلب الأعم يعاني من الكراء ؛ من إهانات واستفزازات وجشع مالكي الشقق والدور ، دون أن يجد من يقف إلى جانبه ، ويمنحه هذا العون اليسير بتدليل الأداء الذي يقدر عليه ، والذي يحتاجه للخروج من أزمته. وإن هذه لهي الحال بالنسبة لعموم هذه الفئة.
وإنها ، في حقيقة الأمر، لحالة اجتماعية شديدة السوء ، تقف شاهدا على ما يمكن أن يتردى فيه مجتمع من القسوة واللامبالاة والأنانية تجاه بعض أفراده : فهذه الحال قائمة منذ عقود ، وينسحق تحت عجلاتها الطاحنة ، وتحت قهرها ، الكثيرون ، أمام عيون وقلوب ، بل على الأصح ، أنياب المجتمع !! وقد يحتج البعض ممن هم مسؤولون عن هذه الوضعية – بشكل مباشر أو غير مباشر – أنهم لا مسؤولية لهم عن مجمل الوضع ، وأن هناك حلا يجري به العمل ، وهو حل وطريقة يتعامل بها في العالم أجمع. غير أن أحدا من هؤلاء لا يجهل أن هذا الحل المقترح ترفضه ، بشكل قاطع ، هذه الفئة من المواطنين الذين يؤمنون بأن الربا حرام ، مستحبين في ذلك لأمر إلهي نؤمن جميعا – كمسلمين – أنه يجب الإمتثال له وتطبيقه . ثم هل هؤلاء عاجزون فعلا عن أي حل مناسب لهذه الفئة إذا أرادوه !! ولذلك فالمسؤولية الحقوقية والأخلاقية ثابتة في حقهم ، ولا يمكنهم ، تحت أي مبرر، أن يتنصلوا منها ؛ فإنه لا يمكن تجريد الناس من حقوقهم الدستورية بسبب من قناعاتهم الدينية !!
وإذن ، فإن أزمة هذه الفئة في المجتمع ، ووضعها الإشكالي المزمن ، لا تتحمل المسؤولية عنه بحال من الأحوال ، هذه الفئة ، لأن كل ما تفعله هو أنها تستجيب لحكم ديني بتحريم الربا ، ورد في القرآن الكريم في آيات منها : “وأحل الله البيع وحرم الربا” الآية. وقوله جل وعلا : “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين” الآية. كما ورد قطعي الثبوت والدلالة في أكثر من حديث للرسول صلى الله عليه وسلم ، من ذلك ما ثبت عن عبد الله بن حنظلة من قوله صلى الله عليه وسلم : ” درهم ربا يأكله الرجل أشد عند الله إثما من ست وثلاثين زنية ” ، وأيضا ما رواه عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” الربا ثلاث وسبعون بابا ، أيسرها أن ينكح الرجل أمه ” ، واعتبره كذلك صلى الله عليه وسلم ضمن السبع الموبقات ، وهي كبائر المعاصي التي توبق صاحبها في النار ، وذلك في الحديث المعروف : ” اجتنبوا السبع الموبقات ، قيل : يا رسول الله وما هي ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المؤمنات الغافلات” . إن كل هذه النصوص وغيرها ، مما ورد في تحريم الربا ، يجب أن يجعل موقف هذه الفئة مفهوما ومتقبلا ؛ بل ويجب أن ينظر إليه بالكثير من التقدير والتنويه ، لأن إنسانا يحترم خالقه ويمتثل لأمره ، ويحاول أن يكون مسلما صالحا وتقيا – وفي موقف الربا تحديدا يحاول أن يكون غير آكل لأموال الغير بالظلم واستغلال ظروفهم وحاجتهم – لهو إنسان فيه خير ، كما وأنه مواطن صالح يستحق كل خير..
وارتباطا بالسياق الأصلي أعلاه ، فإن المسؤولية في هذا الوضع المتأزم للسكن ، لدى هذه الفئة من المواطنين ، تقع على كل الأطراف الأخرى المتدخلة في هذا الموضوع ، وهي ثلاثة : الدولة ، الأبناك ، وشركات العقار.
فالدولة – حكومة ومعارضة – وبرغم ما تبذل من جهود في سبيل النهوض بتحديات القطاع العقاري ، إلا أنه لم يكن يعنيها ، وعلى مدى هذا الوقت الطويل – منذ الاستقلال وإلى اليوم – أن تجد حلا لمشكل هذه الفئة الذي نطرحه في هذا المقال. والحال أننا في بلد إسلامي ، وكان يفترض أن مثل هذا المشكل الفريد يجد اهتماما من مسؤوليه ، لكن ذلك لم يتم مطلقا ، إلا أن نستثني مبادرة – فيما نعلم على الأقل – لحزب العدالة والتنمية ، أيام كان في المعارضة ، قام بها بعض المهتمين بالمجال الاقتصادي من قيادييه ، وتكللت بما يسمى بالمنتوج الإسلامي في الأبناك / أو السلفات البديلة ، والذي كان حلا غير ناجح تماما ، وذلك لأسباب نذكرها في سياقها من هذا المقال. إن الدولة على العموم ، اهتمت بكل المشكلات في العقار ما عدا هذا المشكل ، الذي لم يكن يدور لها بخلد رغم كونه مشكلا أساسيا ، لم تتوان دول عديدة في العالم غير مسلمة أن تحله بأن توفر للمعنيين به أبناكا إسلامية / تشاركية داخل ترابها واقتصادها. ونحن لا نقلل من شأن الجهود التي تبذلها الدولة في القطاع من قبيل محاولاتها الهامة لتخفيف غلاء الأسعار ، ومواجهة المجموعات النافذة في القطاع ، وتيسير السكن الاجتماعي للفقراء ، وتجاوز نقص مواد البناء – وخاصة الإسمنت – وجلب المستثمرين الأجانب ، والقضاء على أحياء الصفيح ، وغيرها.. لكن السؤال الذي لا يجوز تجاهله هو لماذا تجد الدولة المبررات والمسوغات القانونية والحقوقية والاجتماعية للاهتمام بكل هذه المشكلات ، بينما لا تجد دافعا ، مطلقا ، لمعالجة مشكل هذه الفئة ؛ الذي يؤول إلى حق أساسي من حقوق الإنسان . ثم أليست المساواة والديمقراطية أسبابا كافية تحمل المسؤولين على النظر في مشكل هذه الفئة ، وإيجاد حل ملائم له ؟ أم أن هذه الفئة يجب قهرها وإرغامها على القبول بحل لا يتوافق مع إيمانها ودينها ؛ فهي لا يجوز لها أن تخرج عن إجماع المجتمع في التعامل بالربا. كذلك لا بد أن نسجل أنه حصل تراجع فيما كانت تتحمله جهات ، رسمية وخاصة ، مثل الوزارات ومؤسسات القطاع الخاص وغيرها ؛ من المسؤولية عن توفير السكن للمنتمين لها ، أو المساعدة في ذلك . فلذلك نجد الآن أن وزارة التربية الوطنية مثلا لا تقوم بأي مسعى مطلقا لأن تجد حلا بالنسبة لأكثر موظفيها ، وخاصة المعلمين والأساتذة ، الذي لا يتعاملون مع الأبناك الربوية – وهم قد يفوق عددهم ثلث الكتلة العاملة بها – فتوفر لهم ، بطريقة من الطرق ، وضمن أي تنسيق مكيف مع الجهات المتدخلة في القطاع ، مساكن يؤدون ثمنها . ومعلوم أن الوزارة تتحكم في الأمر بأرقام التأجير ، وبكون هؤلاء موظفين لديها ؛ فلا خشية من مجمل الأمر. وإننا ، ونحن نطرح هذا المشكل الذي كان مزمنا ، وشديدا في آثاره السلبية على فئة مخصوصة من المواطنين ، ودور الدولة فيه ، لا يمكن أن نتجاهل التطورات الإيجابية الأخيرة ، بما كان من تقديم مشروع لإنشاء أبناك إسلامية / تشاركية ، صادقت عليه الدولة ، وهو الآن أمل الآلاف – إن لم نرفع العدد إلى ملايين معدودة حقيقة من المغاربة – ينتظرون تحققه . فهل تفي الدولة بوعدها في أجله الذي قالت إنه أكتوبر من السنة الجارية ؟ .. وهل يكون المشروع في مستوى الإنتظارات فيحل مشكل هذه الفئة ؟
أما مؤسسة محمد السادس فإنها ، وعلى ما تقوم به من دور مهم في الدعم الاجتماعي للموظفين ، في هذا المجال ، كما في غيره حقيقة ، إلا أنها لا تفعل شيئا في هذه القضية بالذات. ولقد وجهت لها رسائل ونداءات في الموضوع ، لكن يظهر أنها لا تجد ، إلى الآن ، ما يقنعها بالتحرك لحل أزمة هذه الفئة ، وأكثرها موظفون ، كما وضحت قبل حين : أي أنها معنية بحل مشاكلهم. وإن هذا الموقف مؤسف في حقيقة الأمر ؛ فإنه إن كان من مجال يحتاج فيه الموظف دعما حقيقيا ، وهو أهم ما يحتاج إليه على الإطلاق ؛ فلا قيمة لشيء بعد إذا غاب هذا الدعم ، فهو مجال العقار ليمتلك سكنا ينقذه من الكراء ومعاناته ، ويحفظ كرامته وكرامة أسرته ، ويوفرعليه استنزاف راتبه ونهبه من مؤسسات أخرى لا ترحمه.
وفيما يتصل بموقف الأبناك ، في هذه القضية ، فإنه كان موقفا شديد السلبية. والواقع أن أحدا لم يكن لينتظر أن يأتي حل هذه الأزمة من الأبناك ، رغم أنها معنية أكثر من غيرها بحله.
إن موقف هذه المؤسسات المالية كان منذ البداية ضد أية مبادرة تبحث حله خارج صيغ الأداء الربوي. بل إن هذه الأبناك حاربت بكل إمكانياتها ونفوذها المالي ، سرا وعلانية ، كي لا تدخل الأبناك الإسلامية إلى المغرب. ولقد كان دليلا على مدى حربها وشراستها في الموضوع أنها عندما ناضلت جهات حكومية معارضة ، قبل سنوات ، ولسنوات ، من أجل الأبناك الاسلامية / التشاركية ، وقفت هذه الأبناك في وجهها وقفة شديدة ومعادية بدرجة ملفتة ، فلم تسمح بغير “حل” هو أسوأ مما كان قائما من وضع الأزمة قبل ؛ تمثل في ما اصطلح عليه بالمنتوج الإسلامي Produit Islamique أو السلفات البديلة ، والتي ترتفع معها تكلفة الأداء بما يزيد عن الضعفين قياسا إلى الأداء بالصيغة الربوية المعهودة . ولقد كان واضحا بالنسبة للجهات التي كانت تعمل عليه ، كما بالنسبة للمتتبعين للقضية من رجال الاقتصاد وغيرهم ، أن هذا الحل لم يكن غير محاولة لإفشال هذه التجربة ، وللإيحاء ، لعموم الناس ، أن الأبناك الإسلامية ، وصيغها المقترحة ، لا فائدة منها ، وأن خيرا منها ما تقترحه الأبناك التقليدية التي تكلف أقل !!
ومنذ ذلك الوقت ، وإلى يوم الناس هذا ، فإن هذه الأبناك لم تأل جهدا ، ولم تدخر من وسيلة ممكنة ، حتى لا تنجح تجربة الأبناك الإسلامية / التشاركية ، التي تمثل أمل هذه الفئات العريضة من المغاربة التي لا تتعامل بالربا ، أو التي أنهكها التعامل مع النظام الربوي فعادت عنه ، تبحث عن بديل أرحم. إن موقف هذه الأبناك هو موقف غير إنساني بالمرة ، وهي لا يهمها ، أو يقلقها ، أن تقف في وجه الفقراء والمحرومين ، وفي وجه الممتثلين لحكم الربا من المواطنين ، وتريد أن تستبقيهم في وضع القهر والأزمة الذي يعانونه ، لتستنزف جيوبهم وأرزاقهم ، وتفرض عليهم حلولها ، التي لن تستفيد منها غيرها. أنظر الآن إلى التعليقات على الأخبار المبشرة بقرب ميلاد الأبناك الإسلامية بالمغرب ، لتقف على حجم حالة المعاناة والاختناق التي كان يحتملها الناس في هذا الأمر ؛ إن هناك قدرا من الإستبشار والترقب الفرح لم يرافق موضوعا سابقا. لقد كانت حالة قاهرة وغير إنسانية تقف الأبناك متفرجة ، بل متشفية ، وهو الأصدق ، على مكابدات ومقاساة الرازحين تحت نيرها. لقد كان أحرى بهذه المؤسسات أن تسعى لإيجاد حل لم يكن ليعجزها من قبيل أن تسمح بوجود أبناك بديلة لا تتعامل بالربا ، أو أن تبادر هي بإنشاء أبناك تابعة لها تعتمد النظام الإسلامي. ولقد جرى هذا الأمر ببلدان لا صلة لها بالإسلام كاليابان وبريطانيا وغيرها كثير ، فكيف يكون صعبا ومستحيلا في بلد إسلامي كبلدنا ؟ هل النظام البنكي الربوي عتيد ومتجذر ومكرس ببلدنا إلى هذا الحد ، بحيث لا يمكن الخروج عنه ؟ !!
إن حقيقة الموقف ، في النهاية ، أن هذه الأبناك لا إرادة لها البتة لتنهج نهجا مختلفا ؛ وهو ما يعرفه الجميع ، ولذلك فليس لها أن تحاول تبرير موقفها ، أو أن تنأى به عن هذا الضلوع الآثم في تكريس معاناة الناس ، والمسؤولية عن ذلك ، بما تتخذه من نهج غير ديمقراطي ، وما تتورط فيه من استغلال غير شرعي لعوز الناس ، وحاجتهم القاهرة ، في هذا المجال شديد الحساسية.
أما شركات العقار ، فلم يكن موقفها ، هي الأخرى ، بأفضل حال من موقف الأبناك. فإنها لم يكن مما يعنيها ، على الإطلاق ، أن تفكر ، مجرد التفكير ، في هذا الأمر . ولذلك فهي عندما أمنت الجانب المالي – باتفاق مع الأبناك – لم يبق لها من هاجس سوى زيادة هوامش الربح في الاستثمارات والمشاريع المختلفة التي تنخرط فيها ، وسوى خفض تكلفة مواد البناء ، والترويج والتسويق.. إلخ. إن هذه الشركات كالضحى والعمران وأليانس دارنا والشعبي وغيرها لم تطرح يوما ، فيما نعلم ، وبشكل رسمي ، عروضا عقارية لم تفوض الجانب المالي الأدائي فيها إلى الأبناك ، كما وأنها لم تفكر مرة أن تجد حلا لهذه الفئة من المواطنين – وهي واسعة جدا – يخفف من أزمتها في السكن. والواقع أن هذه الشركات لا يمكن أن تقع عليها أية مسؤولية قانونية في الموضوع ، وليست ملزمة منطقيا أن تجد حلا لهذه الفئة. إن هذه الشركات هي شركات تستثمر في البناء والتسويق والترويج ويهمها أن تكسب فورا من استثمارها.
لكن ، يمكن القول إن هذه الشركات ، ومن منطلق إنساني ووطني ، كان يمكنها أن تسهم ، بطريقة من الطرق ، في إيجاد حلول ما لهذا المشكل المزمن ، خاصة وهي قد راكمت أرباحا كبيرة باحتكارها لسوق العقار في البلد منذ عقود . وإننا لنتساءل أي شيء يمنع من أمر كهذا !! ولقد كانت هناك مبادرات مهمة ، وإن كانت محدودة التأثير ، لمنعشين عقاريين – أفراد – وجهوها لهذه الفئة تحديدا ، وعيا منهم بأزمتها ، ومحاولة منهم للتخفيف عنها والوقوف إلى جانبها. إن أحدا – مؤسسات و أفرادا – لا يجهل هذا المشكل ، لكن الجميع يرفض الإسهام في حله ، ويصر على تجاهله حتى صار بمثابة الطابو. والحال أن هذا الموضوع يرتبط بواحد من الحقوق الأساسية للإنسان ، كما ينطوي على مطالب يمكن التعامل معها بدوافع أخلاقية وإنسانية. إن موقف التجاهل والرفض ، في هذه القضية ، هو كمن يصم آذانه ويغلق عينيه كي لا تصل إليه نداءات الناس ومعاناتهم. وإلا فإن المسؤولية القانونية والأخلاقية ثابتة في حق كل من هذه الأطراف التي ذكرناها.
ولن تخلو ساحة طرف أبدا مهما كانت مبرراته أو وضعه في القضية ، مادام أن الفئة المتضررة هم مواطنون ، كاملو المواطنة ، تجمعهم ببقية أبناء بلدهم كل الروابط والوشائج التي تجمع أي مواطن مغربي بأخيه المغربي ، هذا فضلا عما لهم من حقوق دستورية قانونية ثابتة في الموضوع ؛ ثم ألا يكفي ما يقرره ديننا من أننا مسؤولون عن بعضنا البعض مهما نحسب أننا لا مسؤولية علينا ؛ لأن المجتمع المسلم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، هذا فضلا عن ثبوت المسؤولية ثبوتا مباشرا في حق من هم متدخلون مباشرون في القضية. لقد كان الفاروق يتحسب ويشفق –كل الإشفاق – من أن يقف موقفا يحاسب فيه على بغلة عثرت بعيدا عن مركز الخلافة لم يسو لها الطريق !! الآن لم يعد الإنسان ، أو آلامه ومعاناته ، بل وضياع حقوقه ، مما يهم الناس ، والمسؤولين خاصة ، أو يدفعهم للالتزام ، وبذل الموقف المطلوب قانونيا وأخلاقيا. وإننا ونحن نتحدث بهذا المنطق الديني ، ونحتج به ، لا يغيب عنا أن الكثيرين في مجتمعنا لم يعد يرضيهم أن يكونوا مسلمين !! وهم يعلنون ذلك على الملأ ، ولكن يهمنا موقف شركات العقار – والأطراف الأخرى – الذي نجد حياله نوعا من الخشية أن يكون هذا المنطق –لا قدر الله – مما لم يعد يأبه له ، أو يدخله في حسابه ، وهو في دوامة التنافس المادي المحموم على الأسواق وصفقاتها ومشاريعها..