محمد بوبكري
لقد قادني التفكير في الشخص المسلوب الإرادة، الذي يوجد على رأس الاتحاد الاشتراكي، إلى استنتاج أن فكره وممارسته تطبعهما الواحدية والسلطوية اللتان تنكران الاختلاف صراحة، وترفضان مطلقا الآخر داخل الحزب وخارجه فكريا وسياسيا، حيث استولى هذا الرجل على كل السلطات الحزبية، وجعله أداة لخدمة مصالحه الخاصة وتلبية مختلف رغباته، ما أفقده الشرعية الديمقراطية التي طالما افتخر بها محاولا إيهام الناس أنه وصل إلى “زعامة” الحزب بأسلوب ديمقراطي، لكن الأمر كان في الواقع عكس ذلك، حيث جنَّد أتباعه للتلاعب بأصوات المؤتمرين لصالحه، فتوهم أنه يمتلك شرعية مطلقة تجيز له محاربة الآخر وإلغاءه…
إن رفض الاعتراف بالاختلاف في الرأي داخل الكيان الحزبي، ونفي الصراع الفكري الذي يمكن أن يحدث بين أعضائه وبين مختلف مكوناته هو عامل من بين العوامل الأساسية التي تحول دون تكوين الحزب بمفهومه الحديث، إذ لا يسمح ذلك بممارسة الإنسان للسياسة بشكل مستقل يؤهله لتنمية ذاته وحزبه ومجتمعه في آن واحد. فلا يمكن أن يكون هناك حزب بدون اعتراف بالآخر داخله وخارجه، إذ بدون ذلك لن تكون هناك دولة حديثة قائمة على التعددية…
إذا كانت السلطة بمفهومها الحديث داخل الحزب والدولة تتميز بكونها موزعة بين عدة مؤسسات وأجهزة… فإن احتكار هذا الشخص للسلطة داخل الحزب وتركيزها في يده يؤدي إلى تعطيل عمل آليات توزيع السلطة بين مختلف المؤسسات بهدف الحيلولة دون التداول على المسؤولية الحزبية وإعادة توزيعها باستمرار.
ونظرًا لكون هذا الرجل يتخذ الشعبوية عقيدة ومنهجا في العمل السياسي، فإن ذلك يعني إقامته لنظام شمولي داخل الحزب لا يحتكر فيه السلطة والنفوذ فحسب، بل يستولي به على قراره وماليته وممتلكاته مٌنَصِّبا نفسه الممثل الشرعي له بلا منازع ليتصرف فيه كما يشاء، ويفعل باسمه ما يريد، ويبقى على رأس أجهزته ومؤسساته…
كما يعتقد هذا الشخص أنه ليست هناك حدود لسلطته على الحزب، إذ يريد إقامة تطابق بين سلطته وسلطات الحزب تجسيدا للقول المشهور “أنا الحزب والحزب أنا”. وهذا ما ينجم عنه عدم الفصل بين المِلكية الخاصة لهذا الرجل ومالية الحزب وممتلكاته ككل، ما جعله يتصرف في إعلام الحزب وماليته وممتلكاته بدون قيود، معتبرا إياها جزءا من ثروته الخاصـة التي لا تكف عن التراكم نتيجة استفادته من الريع وتوظيف موقعه السياسي بشكل غير مشروع تحقيقا لذلك. ولا يقتصر التصرف في مالية الحزب وممتلكاته… على هذا الرجل وحده، بل يستفيد منها بعض أفراد حاشيته… نتيجة لسلوك هذا الرجل، صار بعض المناضلين والمحللين يتحدثون عن بروز ظاهرة خصخصة الاتحاد الاشتراكي…
لقد وصل هذا الشخص إلى المسؤولية الحزبية عن طريق التحايل والتزوير مُدَّعيا رغبته في إنجاز مهمة تاريخية هدفها بناء حزب حداثي ديمقراطي لتحديث المجتمع والدولة ودمقرطتهما. فجعل من ذلك مصدرا لشرعيته الكاذبة، واتخذ منه ذريعة للاستيلاء على كل السلطات الحزبية وإقامة نظام سلطوي لا يعترف بالاختلاف ولا بالتعددية ويستبعد فكرة توزيع السلطة والتداول على المسؤولية بشكل ديمقراطي، إذ أصبح لا يؤمن بالانتخاب الديمقراطي، وصار يلجأ في الغالب إلى تعيين المسؤولين الإقليميين ضدا على إرادة المناضلين، وذلك سعيا لضمان أصوات قد تمكنه من الاستمرار على رأس الحزب مستقبلا…
إضافة إلى ذلك، لقد تمادى هذا الرجل في السعي إلى مسخ الحزب عبر السعي إلى ضرب الذاكرة الجماعية للاتحاد الاشتراكي من خلال العمل على محو أسماء شهداء الحزب ورموزه وتاريخه النضالي ومقراته التاريخية من ذاكرة الشباب المغربي والمغاربة في آن واحد. وللتدليل على ذلك، فقد قام بنزع صور شهداء الحزب ورموزه المعلقة على جدران مقراته الأساسية وتعويضها بصوره وسط بلطجيته التي يَدفَع لها، وكأن التاريخ بدأ معه. ولم يتوقف عند هذا الحدِّ، بل إنه لا يتردد في جلساته الليلية مع شلة من حاشيته عن ممارسة التفسير البوليسي للتاريخ، وشتم كل شهداء الحزب ورموزه ومثقفيه وأطره وكبار مناضليه، ممارسا ضدهم نفس الدعاية المغرضة التي حاول أعداؤه يائسين ممارستها ضدهم، ساعيا من وراء ذلك إلى تقديم نفسه بكونه أفضل منهم وأكثر ديمقراطية منهم جميعا!!!. أضف إلى ذلك أن هذا الشخص يرفض باستمرار الزيارة السنوية لقبر كل من المرحومين عبد الرحيم وعمر بنجلون وغيرهما من شهداء الحزب ورموزه… لأنه كلما شاهد صورهم أو ذُكرت أمامه أسماؤهم وتضحياتهم الجسام وإنتاجاتهم، شعر بفشله وخزيه… لذلك نجده يحاول يائسا أن يُنَصِّب نفسه “زعيما” عبر تحريف التاريخ وبدون أي عطاء فكري ولا سياسي ولا نضال ولا تضحية، إذ كل ما يهمه هو الاستفادة من الريع، بل إن حياته هي الريع ذاته.
يعني ذلك أن هذا الرجل لا ينتمي إلى الاتحاد الاشتراكي فكرا وممارسة، بل إنه يناهض حزبه من داخله وينسفه، ما جعله يفشل في إنجاز مخططاته الخطيرة، فأصبح اليوم يعيش في عزلة تامة ستنتهي به وحيدا غريبا…
لقد أفضت الشعبوية بهذا الرجل إلى الرغبة في جعل الحزب كيانا موحدا ومتجانسا… الأمر الذي جعله يرفض الاختلاف ويحارب الآخر داخل الحزب بغية القضاء المبرم عليه. لذلك نجده لا يتردد في إقصاء مثقفي الحزب وأطره وتجميد عضويتهم والتشطيب عليهم وطردهم، ما يدل على رغبته الجامحة في قتل كل الذين يختلفون معه ويواجهون تعسفه، ويرفضون سيطرته على الأجهزة الحزبية للحيلولة دون تحقيقه لرغباته التحكٌّمية التي تروم خدمة مصالحه الحاصة…
يخبرنا التاريخ أن الشعبوية ترفض الديمقراطية لكونها تنهض على الاعتراف بالآخر وحماية كل حقوقه من أي تعسف… وتواجه شعبوية هذا الشخص الديمقراطية لأنه يعتبرها خطيرة على سلطته ونفوذه داخل الحزب… كما يدَّعي أن الاختلاف وحرية التعبير يؤديان إلى تفكيك كيان الحزب… لكن لا يحركه، في الواقع، لاستخدام هذا الخطاب الكاذب سوى مصالحه التي لا يمكن خدمتها إلا عن طريق ممارسة الاستبداد.
لقد تسبب هذا الرجل المستبد في تشوهات وعاهات كثيرة للحزب، فخلق فراغا سياسيا وتنظيميا تجسد في مسخه للاتحاد فكريا وسياسيا وتنظيميا، ودكِّ تنظيماته الشبيبية والنسائية وقطاعاته التي تشتغل في الواجهة النقابية… ما قاده إلى فشل ذريع في الانتخابات الجماعية لم يسبق للحزب أن عرفه. لقد أخرج هذا المستبد الاتحاد الاشتراكي من المدن، ما يعني رفض الفئات الوسطى لأكاذيبه ومؤامراته… وإذا كانت هذه الفئات تاريخيا هي الحاملة للفكر الاتحادي، فإن معاقبتها له انتخابيا وسياسيا وتنظيميا تعني أنها وضعته علنا خارج دائرة الفكر الاشتراكي الديمقراطي، إذ إنها اكتشفت خيانته له… ولم يعد أمامه من اختيار سوى الاعتذار والاستقالة، حيث لا يستطيع الغربال إخفاء الشمس…