يحق للسيد بنكيران، رئيس الحكومة والأمين العام لحزب “العدالة والتنمية” ذي المرجعية الإسلامية، أن يطرب كيفما يشاء، انتشاء بما حققه “فرسانه” من فتوحات، وبما أذاقوه لألد “الأعداء” من هزيمة نكراء، ممن يتهمهم بالإلحاد والفساد والاتجار في المخدرات.
ذلك أنه مباشرة بعد الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات الجماعية والجهوية، التي عرفها المغرب يوم: 4 شتنبر 2015، خرج مزهوا أمام الكاميرات، يتباهى باكتساحه كبريات المدن واحتلاله الصدارة في الانتخابات الجهوية، والمرتبة الثالثة في الانتخابات الجماعية، غير مبال بسيطرة المعارضة على ثماني جهات من أصل 12.
وبما أن هذه الانتخابات، تجري لأول مرة تحت إشراف رئيس الحكومة، وتعد هي الأولى من نوعها في تاريخ المغرب، وستؤسس لجهوية موسعة من شأنها بعث رسائل خاصة للمنتظم الدولي وتعميق الممارسة الديمقراطية المحلية، وتدعيم اللامركزية واللاتمركز في تحقيق تنمية مندمجة ومتضامنة. وبناء على ما يتمتع به بلدنا من تقدير عالمي لجهوده الإصلاحية واستقراره الأمني، فمن الطبيعي أن تتميز بمتابعة واسعة من قبل الصحافة الأجنبية والمغربية، وبمشاركة 41 هيئة وطنية ودولية لتتبع سير العمليات الانتخابية، بعدما تمت تعبئة حوالي 4000 ملاحظ منهم 76 ملاحظا دوليا.
وتكمن أهمية هذه الاستحقاقات، ليس باعتبارها محطة انتخابية حاسمة، تخضع لمقتضيات دستور يمنح الجماعات والجهات مزيدا من السلط والاستقلالية، للرفع من جودة خدماتها وتكريس دورها في النهوض الأمثل بالتنمية البشرية، ولا في اعتماد الاقتراع المباشر والمزدوج بواسطة نفس ورقة التصويت الفريدة، بل أيضا في كونها تمر في سياق محيط إقليمي ملتهب، وأن ملك البلاد محمد السادس أرادها في خطابه السامي، بمناسبة الذكرى الثانية والستين لثورة الملك والشعب المجيدة، أن تجسد ثورة أخرى بنساء ورجال جدد، تتوفر فيهم معايير الكفاءة العلمية والنزاهة والمواطنة الصادقة…
بيد أن إشادة الرجل بشفافية الانتخابات ونزاهتها، واعتبار التصويت لفائدة حزبه استفتاء تأكيديا على رضى الناخبين عن عمله الحكومي، لا يمكنهما حجب ما تعرضت إليه الديمقراطية من محاولات اغتيال، فضلا عما عرفته الحملة الانتخابية من مظاهر العنف اللفظي، كان هو أحد أبطاله البارزين، ناهيكم عن العنف الجسدي وسوء التنظيم وتدفق المال السياسي، وتوزيع أكياس الدقيق، واستمرار الدعاية بالشوارع وداخل المساجد منذ صلاة الفجر خلال يوم الاقتراع، الذي يتزامن مع يوم الجمعة…
وقد أفادت تقارير مراقبين بعودة الأساليب البائدة، وامتدت الخروقات إلى حد اقتحام مكاتب التصويت، والمس بسرية التصويت أمام حياد سلبي للسلطات. هذا، دون إغفال ما أحدثه الاختفاء غير المبرر لأسماء بعض الناخبين من اللوائح الانتخابية العامة، وتعويض بطاقة الناخب بالبطاقة الوطنية في اللحظات الأخيرة من الحملة، من ارتباك شديد أمام غياب حواسيب للإرشاد بمراكز التصويت، كما لوحظ تهميش الأشخاص في وضعية إعاقة…
نعم يحق له التفاخر ب”النصر المبين”، سيما أن ما كان ينتظره من تصويت عقابي، تحول بقدرة قادر إلى مكافأة كبرى، لم يكن يتوقعها حتى أكبر المتفائلين برمز “المصباح”، ومن حقه الادعاء بأن المغاربة ردوا التحية بأحسن منها. ويحق له التذكير بقصة “الصرار والنملة”، الرامية إلى ترسيخ روح الجد والمثابرة في أذهان الناشئة، بدل التراخي وإغفال ما قد يخفيه المستقبل من شدائد. وليتشبه ب”النملة”، بحكم تغلغله في المجتمع وانكبابه المتواصل على حشد الأنصار والمؤيدين في البيوت والمساجد والمدارس والجامعات والأسواق، وتمويل الجمعيات والتعاونيات وإحكام قبضته على مفاصل الإدارات والمؤسسات، من خلال تثبيت كوادر حزبه في المناصب السامية، وتشبيه معارضيه ب”الصراصير” لانشغالهم باللهو والمعارك الحزبية الداخلية المنهكة، ما أدى إلى مخاطبتهم يوما ساخرا، بأنه سينام وسيفوز بالانتخابات دون عناء، إذا ما استمروا على نفس الوضع من التفكك والوهن…
ويحق له التفاخر بدهائه، الذي استطاع بفضله جر المعارضة إلى صراعات مفتعلة في جلسات المساءلة الشهرية بالبرلمان وخارجه، ودفعها إلى رفع مذكرة “تظلمية” لملك البلاد بخصوص استغلاله لاسمه في لقاءاته التواصلية، عوض اهتمامها بقضايا المواطنين الجوهرية وتدهور أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، مما أثار سخط واستياء الكثيرين، من عدم قدرتها والنقابات الموالية لها على التصدي لقراراته الجائرة وسوء تدبيره للشأن العام، وجعلهم يساهمون مضطرين في تقوية موقعه إلى حين ظهور من يحمل مشروعا بديلا، وإلا كيف يمكن تفسير ما حصل عليه حزبه من نتائج “مذهلة”، علما أنه لم يعمل إلا على توسيع دائرة الفقر والأمية، وضرب القدرة الشرائية للطبقات المسحوقة والمتوسطة، عبر تحرير أثمان المحروقات وما نجم عنها من زيادات متوالية في أسعار المواد الأساسية، ارتفاع نسبة العاطلين والهجوم على الأطباء ونساء ورجال التعليم والموظفين، وقمع المعطلين وتجميد الأجور وإغلاق قنوات الحوار الاجتماعي، والإجهاز على المكتسبات والتضييق على الحريات، والسعي إلى إصلاح نظام التقاعد على حساب الأجراء والموظفين …
من حقه الاطمئنان على منصبه ومستقبل حزبه، لما يتوفر عليه من كتلة انتخابية منضبطة، وتنظيم حزبي قوي ومتماسك، وأذرع دعوية وطلابية ونقابية وجمعوية وتعاونيات وجمعيات خيرية كثيرة… لكن، لا يحق له مطالبة قادة المعارضة بالاستقالة، فالديمقراطية حسب أرسطو هي “القبول بأن تكون مرة حاكما وأخرى محكوما” والأهم أنه لا يحق له توظيف الدين سياسويا وإيهام الناس بأن حزبه هدية من الله، جاء ليقودهم نحو طريق الصلاح والفلاح، واعتبار خصومه السياسيين مجرد تماسيح وعفاريت، يمثلون قوى الشر والفساد والاتجار في المخدرات. ومن غير “المعقول” أخلاقيا وسياسيا رفع شعارات مضللة وتوزيع وعود كاذبة، والإساءة إلى المؤسسات الدستورية والإسهام في تدني الخطاب السياسي. ثم متى كان السياسي معصوما من الخطأ أو معينا من الله؟ أليس الدين لله والوطن للجميع؟
ترى هل أفلح الناخبون في تحكيم ضمائرهم وأحسنوا الاختيار بحرية؟ وهل بمقدور النخبة المنتخبة رفع التحديات وكسب رهانات التنمية، وترجمة البرامج إلى حقائق ملموسة، والتدبير الجيد للشأن المحلي والجهوي، والارتقاء بمستوى الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والصحية والبيئية والثقافية والرياضية…؟ فلننتظر إلى ما بعد تشكيل المجالس البلدية والإقليمية والجهوية، لنرى طبيعة ردها ومدى قدرتها على تحمل مسؤولياتها، وعدم خذلان الناخبين وإجهاض آمالهم وأحلامهم …
وبعيدا عن منطق “الحروب” وما شاب الانتخابات من اختلالات، يمكن تجاوزها مستقبلا إذا ما توفرت الإرادة السياسية، فإن المغرب هو الفائز الأكبر في هذا التمرين الديمقراطي، الذي يعتبر لبنة أساسية في بناء ديمقراطيتنا الناشئة وتعزيز أسس الدولة الحديثة، بالنظر إلى ما أفرزه من أرقام ذات دلالات معبرة: بلوغ نسبة المشاركة إلى 53,67، وارتفاع أعداد الفائزين من النساء والشباب… فعلى أحزاب المعارضة استخلاص العبرة، والقيام بنقد ذاتي صريح، وأن تسارع الأسرة الاتحادية بشكل خاص، إلى إعادة النظر في فلسفة حزب القوات الشعبية وتنظيماته وخطابه السياسي… استعدادا للمراحل القادمة، فله من الأطر والطاقات والمقومات، ما قد يعيد له عافيته وإشعاعه، وللوردة نسائمها.
اسماعيل الحلوتي