لا نهوض للشعوب دون ثورة فكرية

لا نهوض للشعوب دون ثورة فكرية

- ‎فيرأي
253
0

محمد بوبكري
لقد أدى إعلان “كوبرنيكوس” بأن الأرض ليست مركز الكون، وأنها لا تعدو مجرد كوكب صغير يدور حول الشمس، إلى حدوث ثورة فكرية زلزلت المسلَّمات، وأحدثت فورانا فكريا كبيرا، فظهر فرانسيس بيكون وديكارت وغيرهما من المفكرين الذين وجَّهوا نقدا جذريا للثقافة الأوروبية السائدة في أوروبا العصر الوسيط، ودعوا إلى إعادة بنائها على أُسس فكرية جديدة، فاستجابت كل بلدان هذه القارة لذلك، فخرجت من الانغلاق والجمود إلى الانفتاح والنشاط الفكريين، بَعْد الانحسار الذي عرفته لعدة قرون، فتحققت نهضة فكرية شكلت أساسا لنهضة العلم وتقدم المجتمع الأوروبي، إلى أن تمكن في نهاية العصور الوسطى من الانخراط في إنتاج العلوم ومواصلة التقدم في كافة المجالات…
كما شكل اختراع المطبعة حدثا حاسما في تاريخ الحضارة، حيث ساهم في انتشار المعرفة على نحو لم يعهده العالم من قبل. وقد ظهر علماء من أمثال جاليلو ونيوتن ولافوازييه… ومخترعون من أمثال جيمس وات وإديسون وغيرهما من المخترعين الذين قدموا للإنسانية وسائل جديدة لإنجاز مهامهم وأعمالهم، ما أحدث تغيُّرات نوعية متتالية في الحياة، فدخلت أوروبا في مرحلة جديدة لم يشهد لها العالم مثيلا من قبل…
وقد فوجئت البشرية بهذه التغيرات النوعية العميقة التي حققها الإنسان في أوروبا، وكانت اليابان هي الأسرع في التجاوب مع النهضة الأوروبية نتيجة إدراكها أن هناك عوامل وراءها لن يتحقق أي تقدم بدون معرفتها والأخذ بها. هكذا انفتحت اليابان على الغرب، وتعرفت على عوامل تقدمه، وحققت ازدهارها، فتحوَّلت إلى قوة اقتصادية كبرى تنافس الغرب…
يؤكد ذلك أن الانفتاح والعمل وعدم الاستسلام لقيود الماضي ومعوقاته التي تستولي على العقول.. هي عوامل أساسية لتحقيق الازدهار مهما افتقر الوطن للموارد الطبيعية، إذ يشكل الإنسان بطاقاته ومعارفه ومهاراته ثروة متجدِّدة لا تقدَّر بثمن. لذلك نجد أن اليابان، رغم معاناتها من قلة مواردها الطبيعية، فهي غنية بوطنية شعبها وقيَّمه وغناه المتجدد فكريا وعلميا وغزارة إنتاجه… هكذا يبدو واضحا أنه لا يمكن للمجتمع أن يحقق التقدم ما لم ينفتح على الآخرين للتعلُّم منهم والاستفادة من تجاربهم وإنتاجاتهم، والتخلص من كل الحواجز الذهنية والوجدانية التي تحول دون تواصله معهم… لذلك، فلا تقدم ولا ازدهار بدون التعرف على العوائق الثقافية التي تحول دون تقدم المجتمعات والعمل على تجاوزها.
ما تزال أغلب المجتمعات المتخلفة تعتقد أن التقدم يكمن في الحصول على المعلومات والتقنيات، فتقوم باستيرادها، وتبذل مجهودا من أجل انتشار التعليم، وتنشئ المدارس والجامعات، وتُضاعفُ أعداد متعلِّميها. لكنها لا تخرج من تخلفها، وتظل تراوح مكانها لأنها لم تعمل على انتشار المؤسسات التعليمية بنهضة فكرية تُكسِّر الأغلال الثقافية التي توارثها سكانها جيلا بعد جيل. فالأخذ بالعلوم والتقنيات، وإحداث التقدم والازدهار، لا ينجم إلا عن الثورات الفكرية والثقافية…
يعني العلم إصلاح التفكير وليس إعطاء معلومات ومراكمتها، وهو ممارسة القطيعة مع تصورات ومعارف وقيم خاطئة بهدف أن يبني الإنسان محلَّها أخرى صحيحة نسبيا. ولا يعني التعلُّم إضافة معلومات متحقَّق منها إلى ذهن تغزوه ثقافة شفوية وغير ممحَّصة، إذ يكون ذلك بمثابة إضافة كأس من الماء الصافي النقي إلى بركة من المياه الآسنة، حيث ترفض الثقافة التقليدية المعارف الصحيحة نسبيا وتنبذها. وهذا ما يفسر فشل التعليم في أغلب ما يسمى بالمجتمعات المتخلفة.
لقد انتشرت المدارس والجامعات في هذه المجتمعات، لكنها لم تنعتق من التخلف، بل لقد ازدادت أحيانا تخلُّفا، لأن عقلها محشو بثقافة تقليدية ترفض العلم وتقاومه، إذ يحتل التقليد والنقل مكانة الصدارة فيها. لذا ينبغي إحداث قطيعة معرفية ووجدانية مع هذا النوع من الثقافة الذي رسخ في ذهن المجتمع منذ عهود طويلة. ويقتضي ذلك فهم العوائق الكامنة في هذه الثقافة وتطوير عدة تربوية وديداكتيكية تُمكِّن من إدراك طبيعتها وتجاوزها…
يعمل المتعلمون والمدرسون في البلاد المتخلفة ضمن نطاق ما هو جاهز وسائد من المعارف، كما تقتصر مهمة الأساتذة، في الغالب، على نقل معلومات جاهزة للطلاب. أما الذين يتجاوزون منهم هذه المهمة فعددهم قليل جدا.
لا تعي المدرسة اليوم ذاتها ولا مدرِّسيها ولا متعلِّميها في هذه المجتمعات، إذ هي عاجزة عن وعي دورها، كما أنها غير قادرة على إدراك كيفية الانطلاق مع المتعلمين من حيث هم وتوفير الشروط الضرورية لهم لكي يبنوا معارفهم وقيمهم ويتجاوزوا ذواتهم. فما يجري اليوم داخل هذه المدارس لا يمكِّن المدرسين من معرفة عوائقهم الذاتية ولا عوائق المتعلمين، ممَّا يحول دون قدرتهم على التواصل معهم. نتيجة ذلك، فهم لا يعرفون ما ينبغي توفيره من شروط ديداكتيكية ليتعلم تلاميذهم، ما يعوق حصول أي تحول نوعي لدى التلاميذ والمدرسين معا، فينعدم تأثير المدرسة في الإنسان، حيث لا تدرك المدرسة أنها هي نفسها غارقة في الثقافة التقليدية التي تقف حاجزا أمام أي تحوُّل. لذلك ينبغي الوعي بالعوائق الثقافية للقدرة على خلق مساحات للتعلم والمعرفة والتنمية باستمرار…
تبعا لذلك، فالمدرسة ذاتها في حاجة إلى نهضة فكرية تهيئ لها الظروف لكي تكون بالفعل مدرسة بمعناها السليم.
لقد كان للاكتشاف الفلكي لـ “كوبرنيكوس” تأثير كبير في بداية العصر الأوروبي الحديث، رغم أنه لم تكن له أية علاقة مباشرة بالسياسة ولا بالاقتصاد ولا بالاجتماع… لكنه شكل ثورة فكرية تَمكَّن الغرب بفضلها من بناء عقل جديد اتخذ لنفسه اهتمامات ووجهات جديدة… فتأثير المعلومات لا يكون كبيرا بذاتها، وإنما بدلالاتها الثقافية الحاسمة وبمدى استجابة المجتمع لها. وتكمن أهمية الاكتشافات في قدرتها على هدم المسلٌّمات، وما تثيره من تساؤلات، وما تأتي به من أفكار جديدة، وما ينجم عنها من إثارة للعقل وتحفيز له، وما تفتحه من آفاق للفكر والفعل…
لقد كان الناس يعتقدون قبل اكتشافات كوبرنيكوس أن الأرض هي مركز الكون، وتم توارث هذا الاعتقاد لقرون عديدة إلى أن قام هذا العالم بتقويض هذا الاعتقاد الخاطئ، وبنى عوضه معلومات علمية مبنية على ملاحظات متواصلة وحسابات صحيحة نسبيا. نتيجة ذلك، أدرك الناس أن ما يحملونه من تصورات توَارَثتها الأجيال عبر قرون كانت خاطئة، لأنه لم يتم فحصها ولا تمحيصها ولا تحليلها، كما أنه لم يتم اختبارها علميا، وأنها تتعارضُ من حيث طبيعتها مع معطيات العلم الحديث. نتيجة لذلك، انفتح الغربيون على مختلف الاكتشافات وتطبيقاتها، وانخرطوا في إنتاج العلوم بشكل مستمر…
لا يتحقق الانعتاق من التخلف بمجرد الاكتفاء بتشييد مدارس وجامعات، بل يقتضي البدء بإحداث نهضة فكرية وأخلاقية توقظ وعي الناس وإحساسهم بالمسؤولية وتٌنَمِّي قدرتهم على الفحص والتحليل والمراجعة، وتغذي فيهم الصدق والشفافية واحترام الآخر، كما ينبغي أن تربيهم على حب العلم والمعرفة والعمل، وتمكنهم من اكتشاف عوائقهم الذاتية وفهمها والقدرة على ممارسة قطائع معها مستمرة…
الحداثة انتقال من نمط حياة تقليدي إلى نمط حياة جديد، لا يتعلق الأمر فيه بتجديد في الشكل والمظاهر، وإنما ينسحب أساسا على الثقافة، والعلاقة بالآخر وبالتراث… إذ يتعلق الأمر بمبارحة مرحلة استنفذت شروط وجودها، ما يتطلب مساءلتها وإعادة النظر فيها. ولا يكون التغيير إلا في إطار ثقافة جديدة، حيث تكون وراءه هذه الثقافة الجديدة التي تخلق مناخا ملائما للتحديث. لكن ما يؤسف له حاليا هو أنه عِوَض أن تتجدد الثقافة العربية الإسلامية، فقد بدأنا نلاحظ إيغالا في التقهقر والتراجع إلى الخلف. وهذا ما عرقل بناء مؤسسات حديثة في مجتمعنا. لكن ما لا يتم الانتباه إليه اليوم هو أن المؤسسات التقليدية كانت تضمن توازنا مجتمعيا في الماضي، لكن استمرارها اليوم لم يعد ممكنا، لأنها تتعارض وطبيعة العولمة وما يرافقها من تحولات علمية وتكنولوجية واقتصادية… وهذا ما يهدد وجودنا وطنا وشعبا ونظاما!!

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت