محمد بوبكري
ترفض المجتمعات الديمقراطية أسلوب التلقين في مدارسها، حيث تسعى إلى توفير الشروط التدريسية التي تُمٓكِّن ناشئتها من امتلاك عقول لا تكف عن ممارسة الشك وطرح الأسئلة باستمرار، وذلك عبر توظيف المدرس لوضعيات وسيرورات ديداكتيكية ملائمة تستفز المتعلمين فينتقلون من حالة السلب والتلقِّي إلى حالة التساؤل والتفكير وتجاوز الذات وتحقيق الاستقلال الشخصي عبر الانخراط التلقائي في بناء معارفهم وذواتهم والتطوير التدريجي لمشروع فردي… ويعود ذلك إلى أن هذه المجتمعات تدرك جيدا قيمة التفكير النقدي وتسعى إلى جعله محور العملية التعليمية التعلٌّمية بكاملها، وإقامة حياتها على احترام الفَرد فكرا ووجدانا وجسدا. ومع ذلك، فهذه المجتمعات لم تتمكن من التخلص كُلِّيا من عيوب التعليم النظامي الذي قد يُطفئ جذوة رغبة التلميذ في التعلٌّم، حيث تؤكد تجارب هذه المجتمعات نفسها أن التلاميذ قد يفقدون تلقائيتهم وعفويتهم، ما يمكن أن يفضي إلى فقدان قدرتهم على التعلُّم بحيثُ لن يتمكنوا من استعادتها إلا إذا استطاعت المنظومة التربوية توفير شروط تدريسية تساعد على تجدُّد الرغبة الداخلية للمتعلِّم في التحصيل الدراسي، فينخرط تلقائيا في تحمل مسؤولية تعلٌّمه عبر قيامه بالبحث عن إجابات على ما يطرحه من أسئلة على ذاته وعلى الآخر وعلى العالم، فيتمكن باستمرار من مجاوزة قلقه، ويجد لذة في بناء معرفته الخاصة، ولا يتوقف عن التساؤل والبحث بدون كلل ولا ملل.
لكن عندما ننظر في ما يجري في مدرستنا، نجد أن المسؤولين عن التعليم لا يَكُفُّون عن الحديث عن “إصلاحاتهم” للمنظومة التربوية. إلا أنه بتأملنا في خطاباتهم التربوية وإنجازاتهم الملموسة نجد أن الحياة داخل الفصول المدرسية لم تتغير جوهرا، حيث ما زال التلقين والحفظ يطغيان على العملية التعليمية التعلُّمية لاعتبارات ثقافية وسياسية وتربوية. فالتلاميذ يتجرعون المعلومات اضطرارا ويستظهرونها كلما طُلب منهم ذلك، ويطبقون “المفاهيم” والنماذج بشكل آلي في يوم الامتحان من أجل الحصول على العلامات التي تسمح لهم بنيل شهادات دون إدراك لمعاني تلك المفاهيم والنماذج ولا للأهمية القصوى للمعرفة…
تدل مخاطبة المدرسة المغربية لذاكرة التلميذ على وجوب تجرُّعه لما تمليه عليه من معلومات دون فهمها أو مناقشتها أو امتلاك حرية إبداء الاختلاف معها. وتعتمد في ذلك خطاطات وطرائق خطية لا تنسجم مع طبيعة المادة الدراسية وتحرم التلميذ من طرح أي سؤال على ما تزوده به من بيانات، ما يدل على الرغبة في إلغاء التواصل والتفكير والنقد والنمو وتكريس الانغلاق، بما يترتب عن ذلك من حرمان للتلميذ من حريته، ومن ثمة إلغاء فرديته وإنسانيته…
ويعود ذلك إلى أن البنية العميقة لنظامنا المجتمعي ما تزال تشد مدرستنا إلى الخلف وتشكل سببا أساسا في انغلاقها لأنها ترفض علوم العصر وآدابه وفنونه. وهذا ما جعل ثقافة منظومتنا التربوية تُقَيِّدد عقل التلميذ، وتُسقطه في أوهام كثيرة تجعله يعتقد في كمال ثقافة مجتمعه التقليدية التي تنهض على تزكية الذات وتمجيدها ورفض الآخر والاستخفاف به وكراهيته والتحذير من فكره وثقافته، ما يؤدي إلى حشو ذهن التلميذ بالممنوعات وتخويفه منها وجعله مهووسا بعشق ذاته على علاَّتها العديدة التي لا يفطن إليها…
هكذا تم إغلاق نوافذ عقل التلميذ والقضاء على رغبته في التعلُّم وإفشال تعليمنا. وإذا كان الرأسمال البشري ثروة حقيقية متجددة تستوجبُ تمكينها من التحول من حالة الجمود والعقم إلى حالة الفاعلية والإنتاج، فمدرستنا الحالية لا يتخرج منها في الغالب إلا من يرفضون الانفتاح والتحديث والبناء الديمقراطي ويعرقلون التنمية… نتيجة ذلك، بات التعليم في بلادنا ركيزة لتكريس الثقافة السائدة في المجتمع من خلال تنشئة التلاميذ على ما يتعارض ومقتضيات التنمية، حيث يقضي تلاميذنا وقتا طويلا من حياتهم في المدرسة بدون تعلُّم، ما يشكل تضييعا كبيرا للأعمار وهدرا أكبر للجهد والمال ليتَّضح أن النتيجة المُحقَّقة في نهاية المطاف هزيلة باعتراف المسؤولين عن السياسة التعليمية ببلدنا أنفسهم. وبذلك، بقينا نسير في الاتجاه المعاكس للتنمية، حيث يتم تكوين عقول الناشئة على الرفض العنيد والساذج للانخراط في روح العصر وأفكاره ومقومات التنمية…
تبعا لذلك، فاستمرار سير تعليمنا على هذا النهج وبأسلوبه الحالي سيُبقينا عاجزين عن الإنتاج والعيش في عالم اليوم الذي يعرف تغييرا متسارعا وتعقيدا متواصلا على كافة الأصعدة وفي كل المجالات.
ليس العقل وعاء، وإنما هو قدرة إجرائية وتقنية منهجية وفعالية نقدية…، إذ ليس الحفظ عن ظهر قلب فكرا، لأنَّ الفكرَ هو روح يبزغ بسطوع في النفس، كما أنه طاقة تشيع في كيان الإنسان… إنه انتقال من حال السلب إلى حال الإيجاب وتفاعل يسري في كل سلوكات الإنسان وأساليب تفكيره ومختلف أساليب إنجازه…
لذلك يشكل اقتصار عمل المدرسين على إعطاء معلومات للتلاميذ صيغة تلقينية لا تؤهل التلاميذ لبناء معارفهم وقِيٰٓمهم، فيتم القضاء على طاقاتهم الفكرية والروحية والحيلولة دون بزوغ ذواتهم وتكوُّن فرادتهم وغيرها من الخصائص التي تعد من أهم مميزات العقل والوجدان ووظائفهما… ولعل هذا ما جعل الشاعر الفرنسي “بول فاليري” يقول: “إن جوهر التعليم تربية الروح. إنه تهيئة الإنسان لكي يصبح ما لم يكن عليه أبدا..”.
تمنح المعرفة معنى للحياة، كما أنها تهب الإنسان قيمته وجدوى وجوده. وليس العلم مجرد معلومات، وإنما هو رؤية واعية وأسلوب متحرك في الملاحظة والتفكير والتحليل والاستنتاج… لقد صار من السهل جدا الحصول على المعلومات من مصادر شتى، شريطة القدرة على معرفة طبيعة ما يلائمنا منها، ومع ذلك فقد فشل نظامنا التعليمي لأنه ينظر إلى العلم بكونه مجرد معلومات ومسائل ثابتة، وهذا ما كرس الجمود الفكري في أذهان التلاميذ وغرس الاستسلام في أرواحهم وحجب عنهم إمكانات التغيير والتحول الهائلة، فصرنا لا ندرك أن العلم قطيعة مع الأنساق المعرفية السائدة وتقويض لأوهامنا. إنه رؤية فاحصة ونافذة تفضي إلى بناء معارف جديدة تشكل إبداعا يحرِّرنا من تصوراتنا الخاطئة ويمكننا من الانخراط في الابتكار، ويفتح لنا آفاقا جديدة تمنحنا القدرة على المزيد من التفكير والفعل والإبداع… ولن يتعلم من لم يندمج بالعلم والمعرفة ويدرك قيمتهما الذاتية وما يمنحانه للإنسان من نمو واستقلال.
تقتضي الرغبة في التخلص من براثن التخلف التركيز على تغيير أسلوب تفكيرنا وانفتاح عقولنا وغرفها من تدفق إنتاجات مختلف العلوم والاستضاءة بنور أفكارها الجديدة…، وذلك بتركيز الاهتمام على بناء المتعلِّم لملكاته العقلية وتحريكه لخياله المفضي إلى الابتكار والاستقلال الفكري والتجدُّد المستمر للرغبة في المزيد من المعرفة والإنتاج والفعل. وبدون ذلك لن تنتظم المعرفة في ذهنه، ولن تدخل ضمن تكوينه الوجداني، ولن تشكل اهتماما ذاتيا له…