د محمد فخرالدين
أما ما كان من أمر بني هلال فإنهم لما وصلهم الخبر استعدوا للحرب و الطعن و الضرب، و في مقدمتهم الأمير أبو زيد ،و الأمير ذياب و غيرهم من الفرسان و السادات الأنجاب، و التقوا بالأعداء بقلوب كالصوان و صدور كالجبال الثقال، و جياد من أعتى الجياد، و قاتلوا أحسن قتال بالسيوف والنبال، و فعل أبو زيد من الفعال ما يشيب منها الأطفال، من شدة ما فيها من الأهوال ، و ظهرت الأفعال و قلت الأقوال ، و كان أبو زيد يأتي الاعداء من اليمين و من الشمال، و هو يتقلب على الحصان كفرخ من فروخ الجان، و كذلك فعل الامير ذياب فإنه قاتل القتال الشديد ، و رمى نفسه إلى المهالك و الأخطار، و لم يبال بوعيد أو تهديد ، ولم يضع الموت في الاعتبار، و اشتغل سيفه في الهامات و الرؤوس ،و فعل فيها فعل الفؤوس في أغصان الاشجار، حتى فرق الصفوف و اتلف منها الرصوص ،و سقى الاعداء من كاس الوبال كؤوس، و بقي على تلك الحال حتى وصل الى الملك القمقام و هو تحت البيارق و الأعلام، فقاربه وزاحمه ، حتى وجد منه غفلة ، فضربه بالسيف على عاتقه فخرج يلمع من علائقه …
ثم مال على القوم وباقي الأمراء و الفرسان بالسيف و السنان، حتى شتتهم في المكان، فلما رات العساكر ذلك الشان، تفرقت في ارجاء الميدان على اليمين و على الشمال، و ارتدوا راجعين مولين الأدبار لا يعرفون الليل من النهار ..
أما ما كان من الأمير ذياب فقد سار الى الأمير حسن و سط التهليل و التكبير و صيحات الاحترام و التقدير، و رجعت بنو هلال في ذلك النهار بالعز و الانتصار، و هم في غاية الفرح و الاستبشار…
و لما أشرق الصباح و اضاء بنوره و لاح و دقت طبول الحرب و تنادى الفرسان بالسلاح، كان أول من برز الى القتال أبوزيد فارس بني هلال، فجال وصال في المجال و طلب النزال، فبرز اليه من الأعجام الملك المنذر، فعالجه بسيفه في الحال، وألقاه على وجه الارض قطعتين يتخبط بعضه في بعض، فلما رأت الأعجام تلك الحال ضجت الفرسان و الأبطال ،و خرج اليه أخوه بندر فلقي من أبي زيد مالقي أخوه من التنكيل، ثم هجمت الأعجام من شدة الحنق و التطويل ، فلقيتهم فرسان بني هلال و أحكموا فيهم السيوف و النصال ..
و قتلوا منهم اكثر من عشر آلاف فارس من صناديد الرجال ..
و في اليوم الثاني كان أول من برز إلى الميدان أبو زيد الفارس المفضال ،و حارب معه الأمير ذياب وسقيا الاعجام كاس المهالك ، و قتل الصلصليل فخافت الأعجام وعادت على أعقابها في انهزام ..
و لما أصبح الصباح و أضاء بنوره و لاح، خرج الخرمند وطلب القتال، و هجم بكل عساكره فالتقاهم الأبطال من بني هلال، وبرز أبو زيد الى حومة الميدان فأطبق الخرمند عليه و التصقا وتعاركا وبقيا على تلك الحال مدة من الزمان حتى انتهى النهار وأذن الليل بالاعتكار، و لم يقدر أحد على خصمه ..
هذا ما كان من أمرهما ، أما ما كان مما جرى من الأفعال و صادف من الأحداث ،فغير بعيد كان حاكم بلاد التركمان و هو رجل عظيم الشان اسمه الغطريف وهو يلقب من شدة ما ينتابه من الغضب الشديد بالغضبان و له عدة وزراء و أعيان، و لما وصلت جموع بني هلال طلب منهم الضرائب والأموال ، و أرسل مرساله الى حسن بن سرحان، و كان عنده ابو زيد في الديوان فلما راه في هم و تنكيد من الكتاب الذي وصله ،قال له:
ـ انا أرد عليه الجواب و أخبره بالصواب ..
و قال لرسول الغطريف :
ـ قل لسيدك ليس لنا إلا السيف سيد الأقوال فيا غطريف دعك من التخريف ..
فلما وصل الغضبان ذلك الكلام، زاد غضبه حتى صار الزبد يتطاير من فمه مثل الزلال ، فأمر بجمع العساكر و الأبطال في الحال لنزال بني هلال ، فأجابوه بالسمع و الطاعة مستعدين للقتال، ونزلت الجيوش والعساكر من تلك الساعة ..
و جدوا بالمسير كأنهم الطيور قاصدين بني هلال، و لما علم بنو هلال بقدومهم دقوا طبول الحرب وركبوا لقتال الغطريف و في مقدمتهم ابو زيد وانقضوا على عساكر الغضبان ككواسر العقبان، وكانت وقعة تشيب لها الولدان سال الدم فيها كالوديان ،و فعل أبو زيد في ذلك النهار أفعالا تذكر مدى الدهر، و كذلك فعل الأمير ذياب الذي نازل وزير الغضبان و قضى عليه ..
اما ما كان من أمر عساكر الغضبان فانهم تقهقروا من الميدان وطلبوا النجدة بالرجال و الفرسان، فلما بلغه ذلك زاد غضبه و حنقه على بني هلال وأقسم أن يمحوهم من الوجود، و امر جنوده بالمسير للحرب و القتال ..
و لما كان اليوم الثاني تقابل الفريقان و تقدما الى ساحة الطعان، فدارت عليهم ساحة الحرب والسنان، فأسرع الأعجام إلى الفلاة هاربين طالبين النجاة …