اليسار المغربي و التعليم

اليسار المغربي و التعليم

- ‎فيرأي
340
0

 

الحسن اللحية

لاشك أن تاريخ الصراع السياسي في المغرب عبر عن نفسه وسط المؤسسات التعليمية منذ 1965 إلى اليوم ، بحيث أن تعبيراته كانت تعكس المطالب السياسية و منها التعليمية مكثفة في شعارات متنوعة.
إن تاريخ الاصلاحات في المغرب كما سبق و بينا في إحدى مقالاتنا (تاريخ الاصلاحات في المغرب منذ 1956 إلى اليوم) تبين أن اليسار كانت له ردود فعل متفاوتة تجاه كل إصلاح من تلك الاصلاحات، كما تتفاوت تلك الردود من توجه يساري إلى آخر.
و الحاصل أن اليسار المغربي عبر عن رؤاه الرافضة شعاراتيا (و ننبه أننا لسنا هنا بصدد دراسة لكثافة المعنى في الشعارات أو تصنيفها حسب التوجهات اليسارية أو دراستها دراسة تاريخية تكس درجة الوعي بالمطالب، و المطالب ذاتها المرفوعة في كل مرحلة من مراحل الصراع السياسي )، فالشعارات المتداولة بين اليسار المغربي كثيرة و لا حصر لها، ومنها ما يلي:
– نقصو من البوليس و زيدونا فالمدارس
– هذا تعليم طبقي أولاد الشعب فالزناقي
– …إلخ.
ثم إن اليسار المغربي رفع شعارات ضمن خطاباته عن التعليم تتمثل في دمقرطته و تكافؤ الفرص فيه و وجوب شعبيته و جماهيريته و تعميمه …إلخ.
إن المتتبع لهذا التاريخ المتعرج لعلاقة اليسار المغربي بالتعليم سيتوقف عند مايلي:
أولا: إن اليسار المغربي كان أول من يقوم برد الغعل تجاه الاصلاحات المتتالية ، و قد ضحى من أجلها تضحيات كثيرة منذ أول تظاهرة تلاميذية في سنة 1965 إلى اليوم ، سواء في القطاع التلاميذي أو الجامعي.
ثانيا: إن مستوى ردود الفعل و الرفض للاصلاحات كانت بالاحتجاج و التظاهر و التجمعات الجماهيرية و الاعتصامات …إلخ، مما ترتبت عنه أعداد كبيرة من الشهداء و السجناء و المعتقلين الذين قدمهم اليسار من أجل مطالبه سواء داخل الجامعات أو غيرها من المؤسسات التعليمية؛ غير أن هذه التضحيات الجليلة و الكبيرة كانت أقوى بكثير من التنظيرات السياسية و الفكرية و الأكاديمية في التعليم ، و هو اللاتوازن الذي سيسم تاريخ اليسار المغربي في علاقته بالتعليم بين التظاهر والاحتجاج والتضحيات من جهة، و التنظير الفكري من جهة ثانية.

ثالثا: سيسجل التاريخ أن اليسار المغربي كان وحيدا إلى جانب الجماهير التلاميذية و الطلابية والمنظمات الجماهيرية و التنظيمات اليسارية و العمالية كالكدش ( في فترات تاريخية معينة) في مواجهة الاصلاحات المطروحة منذ 1956 إلى اليوم ، فلم يسجل التاريخ يوما أن أحزاب اليمين أو الاسلاميين رفضوا الاصلاحات أو دخلوا في أشكال نضالية ضدها.
رابعا: إن الباحث في تاريخ اليسار في علاقته بالتعليم تنظيرا و تأليفا لن يجد إلا كتابات قليلة جدا جدا ، على عكس الشعارات المرفوعة و التضحيات التي قدمها اليسار المغربي من أجل التعليم . و لعل الباحث لن يجد غير كتابات تتعرض للتعليم في سياق السجال السياسي و الإيديولوجي كما هو حال مع الاستاذ الجابري إن اعتبرناه يساريا أو ما كتبه عبد الواحد الراضي عن التعليم أو تلك الحوارات التي نشرت لعبد الله ساعف وهو يدبر شأن الوزارة.
و خلاصة الأمر أن التأليف اليساري في التعليم يكاد يكون منعدما من وجهة نظر تخصصية و أكاديمية حتى يؤسس لرؤاه اليسار ذاته.
إن ندرة التأليف و التنظير اليساري حول التعليم و التربية و التكوين ستكون له تداعيات كثيرة على اليسار ذاته ، و من بين وجوه هذه الازمة سنجد ما يلي:
أولا: نلاحظ أن جل الاحزاب التي تقول بأنها يسارية ، و جل المنظمات و التنظيمات و الحركات اليسارية قد فكرت في هيكلة ما تضم التعليم إما في شكل لجن أو قطاع ، غير أن هذه الهياكل و اللجن لم تكن يوما لجنا او هياكل في البحث و التأليف و الرصد و التتبع و الأرشفة …إلخ ، بل لم تفكر في الجانب الفكري و التخصصي و البحثي ؛ إذا ظلت حبيسة الهيكلة التنظيمة العامة.
كما أن هذه الأحزاب و التنظيمات و الحركات المنتسبة لليسار لم تفكر يوما في مراكز للبحث في التعليم حتى تضع سياسات تعليمية قطاعية مبنية على القراءة و البحث و التصورات الفكرية اليسارية.
ثانيا: إن ما يصدق على الأحزاب و المنظمات اليسارية يصدق على النقابات ذات المنزع اليساري الاشتراكي .
فماذا تعني وجود نقابات بدون مفكرين و باحثين و مراكز البحث؟ ماذا يعني رفع مطالب بدون معرفة عالمة بالسياسات العمومية قطاعيا، و بدون دراسات و مخططات استراتيجية استشرافية، و من دون تصورات مقارنة بين الدول تلهم العمل النقابي و تقدم البدائل؟…إلخ.
إن غياب البحث و الفكر الأكاديمي و التخصصي في الأحزاب و النقابات و الحركات و التنظيمات اليسارية بعامة تترتب عنه عدة معضلات منها:
1. انسداد الأفق السياسي و الفكري في التعليم بخاصة.
2. العجز عن اقتراح البدائل في أي قطاع قطاع ، و هو ما يحدث في قطاع التعليم ، بحيث أن جل المنظمات و الأحزاب و النقابات أضحت تردد ما تقوله الدولة أو الوزارة في التعليم.
3. انعدام الأفق اليساري بالنسبة لليسار ذاته في التصورات التعليمية ، فهذا اليسار المحتج هنا و هناك وهنالك لا يستطيع أن يقدم قراءات يسارية اقتراحية للتعليم ، أي أن اليسار يختزل ذاته في الشعار و يساير الدولة و الوزارة في تصوراتها ، و الدليل على ذلك واضح منذ مدة طويلة ، و بالتحديد منذ سنة 2000 حينما بدأ العمل بالميثاق الوطني للتربية و التكوين.
فاليسار (إلا النهج الديمقراطي) تبنى الميثاق الوطني للتربية و التكوين دون شروط و لا اشتراط ، و تبنى المخطط الاستعجالي و تبنى التدابير التربوية و البيداغوجية دونما تقديم أي اقتراح بديل.
كان من المفروض أن تكون لليسار تصوراته اليسارية البديلة في التعليم، سواء على المستوى السياسي أو النقابي أو الأكاديمي . و الحال أن و ضعية اليسار في التعليم تنبئ بنهايته لانعدام مغامراته الابداعية و الفكرية و الاقتراحية.
ففي السياسة التعليمية لا يتعدى سقف اليسار ما طرح في الميثاق -إن فهم فهما دقيقا- ، و في التدبير لا يتعدى سقف مطالبه مشاريع الوزارة . و أما في النقابة فقد أصبح تابعا لمقترحات الوزارة (الموارد البشرية) لا يجتهد في اجتراح تصورات أصيلة (فلنفكر في مشكل الإطار و التنسيقيات و الإدارة التربوية و التفتيش …إلخ).
إذن، إن اليسار محاصر ضمن رقعة الوزارة في التعليم فأضحت تصوراته السياسية ضمن كهف التصورات الماكروسكوبية التي تقرتحها الدولة. فأين اليسار إذن؟ ما الذي يجعله يسارا في التعليم؟
إن اليسار في التعليم أضحى تقنيا كباقي تقنني الوزارة ، لا يقارب القضايا المطروحة بيساريته التي من المفترض أن تشكل قوته الاقتراحية ، و الدليل على ذلك ان اليسار اليوم لا يحتج على القضايا البيداغوجية و لا على المرجعيات و الغايات التي تستند إليها الوزارة في تدبير شأن التعليم.
و هكذا فاليسار الذي يسوق لمشروع مجتمعي بالقول لا يدرك أي مدرسة و لا أي جامعة يريد فعلا ، و ليست له تصوراته التربوية و التعليمية و الفكرية و المعرفية لوظائف المدرسة اليوم، و الدليل على ذلك هو انحسار أفقه فيما تطرحه الوزارة في كل شيء شيء، و أن اجتهادات جمعياته و فاعليه في النوادي و الجمعيات التربوية الحقوقية أو لنقل بالإجمال الأنشطة المناسباتية ليست إلا علامة على أزمته و ربما نهايته.
فما المطلوب من اليسار كي يستعيد يساريته في التعليم إذن؟

رأينا فيما سبق أن اليسار قدم تضحيات كبيرة ، لكن تصوراته الفعلية و الفعالة للقضايا التعليمية لم تكن في مستوى التضحيات.
إن اليسار المغربي يقدم نفسه متنوعا و مختلفا ومتعددا في يساريته ، فهل هو كذلك في تصوراته للتربية و التكوين بخاصة ، و للتعليم بعامة؟
جدير بالذكر أن هذا اليسار منشطر بين توجهات إيديولوجية كثيرة ، نذكر منها مايلي:
1. اليسار الشيوعي ، هو موروت عن الحزب الشيوعي الفرنسي ، تمغربت شيوعيته بعد الاستقلال فأصبح حزبا شيوعيا بدون فكر شيوعي ، و هو أقرب إلى الليبرالية الاجتماعية في تناول قضاياه ، وبالتالي لن تكون مقارباته للتعليم تنطلق من منطلقات يسارية أو ماركسية أو شيوعية ، وقد أتيحت له الفرص ليدير شؤون وزارة النعليم أكثر من مرة إلا انه ظل حبيس التصورات التقنية و التجريبية.
2. اليسار الماركسي اللينيني ، وهو يسار يتبنى الأطروحات الأشد ثورية ، فهذا اليسار هو اليسار المغترب في الواقع لأنه يفكر في روسيا وهو يعيش في المغرب ، إنه يسار السير و استنساخ التجارب. فهذا اليسار يقيس الواقع المغربي على واقع روسيا في عهد لنين ، حيث تجد معجمه السياسي مليء بما كان يدور في تلك الفترة ، بل إنه يفكر على غرار لنين ؛ هناك المناشفة و البلاشفة ، هناك التحريفيون و غيرهم …إلخ. إنه يسار نصي لا يرى الواقع المغربي إلا بالمرور عبر نصوص لنين، و تلك أولى أزماته الفكرية … إلخ. و باختصار غن معارك لينين و اعداؤه هم أعداء هذا اليسار ومعاركه (منطق التسليم ).
فمثل هذا اليسار اضحى يسارا يؤمن بتاريخ لا تاريخ له أو يؤمن بتاريخ فوق التاريخ كالفقهاء في تراثنا العربي الاسلامي . هناك قياس يحضر دوما ، قياس على التجربة اللينينة ، على السيرة اللينينة، والغريب في الأمر أن معتنقي هذا التصور لم يجتهدوا في التعليم كي يبينوا لنا كيف بنى لنين المدرسة الروسية فيقيسون عليها في تناولهم للتعليم في المغرب، وهو الأمر الذي لم يحدث بالمرة.
3. اليسار الذي يتبنى الاشتراكية العلمية ، وهو يسار يرى إلى العلم في العلوم الاجتماعية من خلال الاشتراكية (العلمية)، ويدافع على علمية الماركسية و يعلي من شأن ذلك دون تفكير في تاريخ العلم الذي يتطور و يقطع مع ماضيه الخاطيء كما قال باشلار. فهذا اليسار الذي يريد أن يكون علميا في تحليله للواقع الملموس لا يدرك معنى العلم ابستيمولوجيا ، و لا يفكر في التحولات التي أصابت العلم ذاته ؛ إذ ظل حبيس تصور القرن التاسع عشر للعلم، و بالتالي فإنه لم ينتج أي اجتهاد في قراءاته (العلمية) لواقع التعليم في المغرب، ووبالتالي للتعليم في المغرب.
4. اليسار الاشتراكي الديمقراطي. فهذا اليسار لا يميز نفسه بمرجعيات نظرية محددة، فهو يحب التعميم و الخلط و الضبابية في الإحالات المرجعية حتى لا يلزم نفسه بتصور ما ، فهو الوجه الآخر لليبرالية الديمقراطية أو لليبرالية الاجتماعية بعامة ؛ فلن تجد لدى هذا اليسار أي تحديد لما تعنيه الاشتراكية الديمقراطية في العدل و الصحة و التعليم …إلخ.
5. يسار الرصاصة، وهو اليسار الذي كان يؤمن بأن الحل كل الحل يكمن في حمل السلاح مستلهما التجربة الجيفارية أو الماوية أحيانا بتأويل ما، و بتعبير آخر أن حل مشاكل المغرب ستنتهي مع إطلاق الرصاصة على الحاكم ، فحالما سيصل هذا اليسار إلى الحكم بالرصاص سيبحث فيما بعد عن الحلول للصحة و التعليم و الفلاحة … إن الحلول لدى هذا اليسار بعدية ، مرجأة إلى ما بعد القضاء على الحاكم. و يمكن تسمية هذا اليسار بالمرجئة اليسارية، فعوض أن يحمل تصورات و برامج يحمل البندقية و يعد الناس بالخلاص بعد القضاء على الحاكم.
6. يسار اللحظات أو اليسار العابر، هو كل يسار انتعش بشكل أو آخر في هذه المدينة أو تلك، أو في هذه المؤسسة الجامعية أو تلك كالتروتسكاويين و الماويين و البرنامج المرحلي …إلخ.
فمثل هذا اليسار كثير السجال و المناظرات ، و يخيل إليك أنه يصارع من أجل امتلاك الحقيقة لا من أجل المساهمة بالتحليل و القراءة في بناء تصورات يسارية فكرية ( وهنا تجب دراسة حالات العنف بين الفصائل و تحليلها سيكولوجيا) للقضايا المطروحة . و باختصار فهو يسار المجابهة والمواجهة .
إن هذا اليسار كان يسمي مواجهته للاصلاح في التعليم عرقلة الاصلاح ، وهو تعبير يختزل أزمة تصوراته، و بالتالي لن تجد لهذا اليسار أي اجتهاد يذكر – وهو الذي يعيش في المؤسسات التعليمية و الجامعية- تجاه التعليم إن لم يختزل نفسه في الاحتجاج و الرفض و المطالب ، وبلغة أخرى فإن هذا اليسار أقرب إلى المطالب النقابية من غيرها.
7. هناك أنواع أخرى من اليسار ، منها اليسار القومي العربي الذي كان يستلهم التجربة الناصرية ، وهو اليسار الأكثر غنتاجية من الناحية الفكرية إلا أنه كان غريبا عن (خصوصيات) المغرب ثقافيا و لغويا ، و بلغة أخرى فهو يسار الماكرو، و يسار العرق القومي العربي. وقد فكر في التعليم من هذا المنطلق و ظل يحاور المبادئ الأربع التي طرحت مع الحركة الوطنية في بداية الستينيات من القرن الماضي (الجابري نموذجه البارز). فهذا اليسار الإيديولوجي بامتياز لم يكن تهمه المدرسة المغربية في خصوصياتها ، ولا يهمه التعليم المغربي إلا في سياق تصور وحدوي قومي عربي.
نستخلص من خلال ما تقدم أن اليسار المغربي تتعدد هوياته اليسارية بحسب ما يقوله عن نفسه، لكنه قد يتشابه في تصوراته الإصلاحية للتعليم إن وجدت ( نفس الشيء في باقي القطاعات الأخرى) ، و ذلك للأسباب التالية:
أولا: رغم تنوع اليسار و تنوع ما يدعيه أنه تعدد في مرجعياته فإنه لم يستطع أن يراكم في المجال النظري ليحدد الطبقات في المغرب ، و بالتالي سيضعنا أمام تصور لما سيكون عليه التعليم الشعبي الديمقراطي .
فالعجز الفكري في قراءة المغرب طبقيا جعل اليسار ممزقا بين القراءات الانقسامية (واتيربوري مثلا) و القراءات النيوماركسية (باريتو) و القراءات الانتربولوجية (بول باسكون).
وهكذا ستجد اليسار ممزقا بين استعمال مفاهيم كثيرة في الآن ذاته دون حدود أو حذر ابيستمولوجي ، ففي الخطاب الواحد ، الفرد الواحد ، التيار الواحد يمكنك أن تسمع معجما لا يميز بين المفاهيم مثل الكومبرادوية و الطبقة المسيطرة و الطبقة الكادحة و الطبقة العمالية و البورجوازية و النخبة و المأجورين و الشرائح و الفيئات و الجماهير الكادحة و الجماهير الشعبية …إلخ.
إن هذا الخلط المفاهيمي الكبير داخل الخطاب الواحد ، الحزب الواحد ، النقابة الواحدة، الحركة الواحدة، سينعكس حتما على مقاربته للتعليم من وجهة نظر سياسية و فكرية و نقابية : اين نصنف رجال و نساء التعليم؟ و هل من نقابة أو حزب يعبر عنهم كما هو حال الأحزاب الاشتراكية و العمالية في أوربا؟
إن استعصاء تصنيف نساء و رجال التعليم من وجهة نظر فكرية و سياسية و نقابية و يسارية مغربية ، نجد التعبير عنه في الخطاب النقابي ذاته. فهذا الخطاب ظل مشروخا و ممزقا منذ الستينيات من القرن العشرين باستعماله لمفاهيم متنافرة كليا مثل : الطبقة و الشريحة والفئة و المأجور … إلخ، بل إن الخطاب النقابي الذي لم يستطع اجتراح تصور خاص برجال ونساء التعليم (و كل القطاعات) استغرقته الفئوية بالذات فأضحى يمايز بين الفئات في التعليم و يفاوض من أجل تكريسها، وهو ما يعني أنه لا يمتلك تصورا لما ينبغي أن يكون عليه التعليم ككل. فما المساواة إذن؟ و لماذا تقبل نقابات اليسار بالتفاوتات في التعليم (فكرة السلالم مثلا) ، سواء في المدخلات أو في الحياة المهنية؟ و كيف يمكن تحقيق العدالة بين نساء و رجال التعليم و لهم جميعا؟
ها هنا تكمن المعضلة بالذات ، حيث يعجز اليسار المغربي عن وضع تصورات عادلة منصفة ديمقراطية تهم الولوج إلى مهن التربية و التكوين و الحياة المهنية للعاملين فيه، مرورا بالتكوين و الممارسة؛ و لذلك فإنه يقبل بالأمر الواقع المطروح من لدن الدولة.
ثانيا: إن اليسار المغربي المستند إلى الماركسية بحميع تلاوينها لم يدرك التحولات التي أصابت مفهوم العمل le travail منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم. فمفهوم العمل ارتبط بماركسية القرن التاسع عشر تحديدا ، و مع بداية القرن العشرين دخل العمل في أزمات كثيرة فظهرت مفاهيم تحيل إلى العمل أو تشبه العمل أو تفيده بالمعنى فقط ؛ حيث نجد منذ ذلك الحين ، أي منذ بداية القرن العشرين مفاهيم كالشغل و الوظيفة و المهمة و الدور و المهنة …إلخ.
ستزحزح هذه المفاهيم الجديدة الأساس الماركسي ابيستيمولوجيا ، و الاكتفاء بالكلام العمومي كترديد لفظ الاجراء مثلا لم يعد ذا جدوى لأن الأجير أضحى متعددا ومتنوعا و له درجات مختلفة ، بل إن الشغل بدأ يرتبط بأبعاد كثيرة كالتكوين و نوع الدراسة …إلخ، و هذا ما يعني الانتقال من العمل (القوة الفيزيائية و العضلية للأجير مع ماركس ) إلى شيء آخر (أنظر مقالاتنا من العمل إلى الشغل : ميلاد الكفاية).
ستزداد الامور تعقيد حينما يصبح الشغل مدار تخصصات معرفية كثيرة منها هندسات الشغل و تنظيم الشغل و علوم التدبير و سيكولوجيا الشغل و سوسيولوجيا المهن… إلخ. وهكذا دخل الشغل محفل المعرفة و احتفاليتها الماكرة ليسقط من حيث المطالب في خطاب الكفايات والتأهيل و النزعات التبشيرية القائلة بالقابلية للشغل.
إذن لم يعد الشغل حقا مباشرا للفرد –المواطن- الانسان ، بل أصبح حقا مشروطا تحدده المعرفة كما يحدده سوق الشغل.
لقد سقط يسارنا المغربي في هذه المتاهة و تبناها دون أن يدري بأن هذا التحول أضحى بقوته هو الواقع ، و أن الوعود بالتشغيل و مطلب التشغيل الذي يرفعه اليسار المغربي نقابيا وسياسيا هو الحل الترقيعي للتشغيل ذاته في غياب كلي لأي تصور يساري في هذا الباب (حالات الحاصلين على الشواهد في وزارة التربية الوطنية و توظيف أصحاب الشواهد تفسر ذلك).
ثالثا: إن اليسار المغربي وهو يتبنى اليوم خطاب الكفايات في التعليم لم يدرك أن خطابه أصبح شيئا آخر غير اليسار ، بل لم يع أن المقاربات الكفاياتية للشغل و المهن و الأداء والمعارف …إلخ تقيم التراتبية و تفتح المجال على الانتقاء ، وهو ما يناقض أطروحات اليسار في العمق من حيث المنطلقات التي ينطلقون منها كالحق و المساواة و العدالة و تكافؤ الفرص في الشغل…إلخ.
و إن كان خطاب الكفايات يجر كثيرا من الازمات الفكرية لليسار من حيث المطالب المعرفية المتعلقة بالمهن و التمهين و المهنية فإن اليسار المغربي بتنوعه عجز عن وضع تصورات للتأهيل كي يضمن عدالة اجتماعية مهنية، وهو ما يفسر ترديد نقاباته للأقدمية في المنصب كشرط للترقي بدل شيء آخر.
و الحاصل أنه منذ أن ساد خطاب الكفايات في الشغل أصبح الشغل سوقا لا تضمن الحق إلا بشروط يحددها المجال : كفايات مهنية ، المهنية ، تقويم الأداء، الملف الشخصي، التجارب المهنية، التعاقدات المهنية …إلخ. إنه عالم يفكر بالمقاس و على المقاس ، عالم دارويني بامتياز ، يفكر بالدور والمهمة و الأداء والنجاعة و المردودية …إلخ ، وهي مفاهيم برانية عن الخطاب الماركسي و اليساري تؤزمه يوما عن يوم و تبين محدوديته و عجزه و إشباعه بلغة الفيزيائيين.
رابعا: لا يقتصر العجز الفكري على ما ذكرناه سابقا ، بل إن اليسار حينما يجتهد في أمر كالتعليم تجده تجريبيا (حالة وزراء منسوبين على اليسار في التعليم) ، و يتبين أن هذا العجر بوضوح .
و لعل هذا العجز يطال هوية النظام التعليمي الذي يتبناه اليسار ذاته ، و يمكن التفصيل في هذا الأمر وفق مايلي:
1. إن اليسار المغربي المدافع عن المدرسة الوطنية العمومية لا يقدم أي تصور عنها (كيف هي ، نظامها ، أسلاكها، معارفها، قيمة شواهدها…إلخ) مما يجعله متصالحا مع التعليم الخاص في حياته اليومية؛ و هذا أول موشير على فصاميته الفكرية/ المعيشية؛ و بمعنى آخر فإن اليسار يقبل بنظامين تعليميين يتعايشان يكرسان التفاوت بين أبنائه على الرغم من شعاراته و خطاباته الاستهلاكية حول المدرسة الوطنية العمومية.
2. لم يأخذ اليسار يوما قضايا التربية و التكوين و التعليم بجدية نظرية ليقترح تصوراته وبدائله ، بل اكتفى دوما بتخريجات تقنية لا تتعدى ما تطرحه الدولة إن لم يكن هو المروج (الرسمي دون وعي منه) لمقترحاتها.
3. لم يتناول اليسار يوما الخطاب التربوي و البيداغوجي نظريا ، فهو لا يهتم به في لحظات الترقي، و في غياب ذلك يركن إلى ما تطرحه الدولة من بدائل في هذا الباب. أليست البيداغوجيا تفكيرا سياسيا في آخر المطاف؟
4. لا يتوفر اليسار المغربي على فلسفة في التربية ، ومعنى ذلك أنه لا يتوفر على فلسفة تفكر في الطفل و المجتمع و المستقبل. فالطفولة كما يفهمها اليسار تختزل في تصورات حقوقية جافة و أنشطة جمعوية تنشيطية . فما الطفولة إذن ؟ و لماذا يغيب خطاب الطفولة في الفكر الفلسفي و التربوي و البيداغوجي اليساري إن وجد؟ وهل يستقيم التفكير في التربية بدون تفكير في الطفولة؟
وخلاصة القول أن اليسار المغربي يعيش أزمة حقيقية ، وهو يتناول التعليم ، و ينطبق عليه القول الفلسفي المعاصر القائل : إنه يوجد حيث لا يفكر و يفكر حيث لا يوجد.

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت