د. محمد فخر الدين
و سار معهم مغامس في موكب عظيم ليعود إلى ملكه المفقود الذي ظن أنه إليه لن يعود ، و يستعيد مجد أبيه، فلما كان له ذلك وسط التهليل و التكبير ، زفوا إليه ابنة عمه شاة الريم في الحال ،فكانت ليلة من أبرك الليالي و أبهجها حيث امتد السماط بالطعام و أكل الخاص و العام ، و طرب الجميع غاية الطرب و ما كان أحد في المدينة إلا فرح لفرحه ..
و جلس مغامس على الكرسي مكان أبيه ، وشكر أبا زيد و مرعي و يحيى و يونس على ذلك الصنيع الجميل ، و العمل النبيل ..وأكرمهم غاية الإكرام و أحلهم في أحسن مقام .
و بعد أيام ، صمموا على السفر إلى تونس الخضراء ، فلما علم مغامس بقصدهم و مرادهم ، أراد أن يمنعهم من السفر ، و طلب منهم البقاء لمؤانسته و رفقته ، لما عرف منهم من الشجاعة و الأمانة و الخير و رفض الظلم و الضير و سلامة الضمير ،فقال له أبو زيد :
ـ لا بد من سفرنا اليوم قبل الغد .. و لا بد من ذهابنا على كل الأحوال و لو كنا بإرادتنا لآنسناك مدة تطول ، عاما و شهور ، و لكن لنا واجب اتجاه الديار لانتركه ، و موعد مع أهلنا لا نخلفه و لو سقينا دون ذلك الأهوال ..
لكنه أصر عليهم أن يبقوا و لو لقليل فأقاموا عنده مدة ثلاثة أيام، وهم في فرح و غبطة و سرور، و شاركوا القوم أفراحهم و تناسوا كل الهموم رغم ما بهم من ضيم معلوم ..يا سادة ياكرام ..
و في اليوم الرابع ودعوا الامير مغامس و ساروا يقطعون البراري و القيعان و التلال و الوديان ، قاصدين مدينة تونس لا تهمهم الأخطار، و هم يمشون في الليل قبل النهار، حتى وصلوا الى مكة فقصدوا المسجد الحرام و صلوا فيه ، تم غادروها الى العراق ، ثم ساروا حتى وصلوا الى مصر فدخلوا على حاكمها و أنشدوا فيه الأمداح و الأشعار ، فتلقاهم بالترحيب و الوقار، و أكرمهم غاية الإكرام ، و بعد ذلك ودعوه و اتجهوا في اتجاه الغرب …
و اتفق ان جماعة من الشعراء كانوا في ما سلف من الزمان قصدوا بلاد نجد و مدحوا أميرها حسن بن سرحان كما جرت العادة في ذلك الزمان ، فأجزلهم بالعطايا النفيسة و المواهب الجزيلة، و كان من جملة الهدايا السنية جارية اسمها مي ، و كانت ذات جمال و أدب ، فشكروه تمام الشكر ثم ساروا قاصدين بلاد الغرب حتى وصلوا الى تونس الخضراء ، و مدحوا حاكمها الزناتي خليفة و باقي الوزراء، و باعوا تلك الجارية الى ابنة الزناتي و كان اسمها سعدة…
واتفق أن الجارية مي أخبرت سعدة في مجرى الحديث عن مرعي بن حسن و عن نبله و وسامته ، و أنه ليس في الرجال مثله على كل حال فتعلق قلبها به بالسمع ..
حتى كان في يوم من الأيام أخبرتها بقرب قدومه و حلوله بينهم فقالت لها سعده :
ـ قومي بنا في الحال نتنزه في البستان، و نتفرج عليه و نسلي أنفسنا بجمال المكان و غناء الطيور على الأفنان بأروع الألحان، و اضرب الرمل لأرى بالتصريح هل ما قلت صحيح ..
و لما ضربت الرمل تحققت من الأمر و من قدوم مرعي و رفاقه، و كذلك ابن عمها العلام وعدها بالمساعدة عندما يحلون في الأوطان…
هدا ما كان بين سعدة و العلام أما ما كان من البطل الهمام ابو زيد و رفاقه الكرام ، فهم كانوا قد جدوا في قطع الروابي و الآكام مدة عشرة أيام ، حتى وصلوا الى مدينة تونس وقت الظلام، فباتوا في ذلك خارج المدينة..
و في اليوم الثاني صاروا يتأملون المدينة فوجدوا أبراجها منيعة حصينة و هي شديدة القلاع عالية البنيان مشيدة الأركان، و أنهارها غزيرة و خيراتها كثيرة ..
فجعلوا يدورون حولها و يتأملون كيف يهجمون عليها في مستقبل الأيام ، ثم إنهم حانت منه التفاتة إلى بستان كأنه قطعة من الجنان فساروا يتجولون فيه و ينظرون إلى عجائبه ، وهم ينظرون إلى مختلف الفواكه و الثمار، و أصناف الأطيار فوق الأشجار ، تسبح بكل لسان الواحد القهار ..
فبينما هم على ذلك الحال في انشراح و هدوء بال ، إذ أقبلت عليهم جماعة من العساكر و الفرسان و الشجعان ، و احاطوهم في المكان ، و أغلقوا عليهم أي منفذ للهروب أو الرجوع ، ثم إنهم هجموا عليهم في الحال بالسيوف و النبال ، حتى تمكنوا منهم وقيدوهم بالأغلال ، و قادوهم مكبلين إلى قصر الزناتي خليفة …