الغش المدرسي التكنولوجي

الغش المدرسي التكنولوجي

- ‎فيرأي
294
0

 

محمد بوبكري

يؤكد تسريب مواضيع امتحانات الباكالوريا لهذه السنة تزايد استخدام التكنولوجية الحديثة في الغش المدرسي، حيث لم يعد لكثير من وسائل الغش التقليدية الشائعة في الامتحانات سابقا وجود الآن في ظل التطور التكنولوجي السريع الذي يشهده العالم اليوم، والذي تطورت معه طرق الغش وأساليبه بصورة كبيرة، وبأشكال مبتكرة ومتنوعة، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى عجز المسؤولين عن تنظيم الامتحانات اكتشافها، فأصبح الغش التكنولوجي في الامتحانات أسلوبا متداولا بين التلاميذ في أغلب البلدان.
كانت أساليب الغش التقليدية مكشوفة وبسيطة، فكان التلاميذ يلجؤون إلى نقل الدروس في أعضاء من الجسم أو بعض اللوازم المدرسية أو إخفاء الدفاتر في الملابس، وما إلى ذلك… ثمَّ مَكَّنت أجهزة الاستنساخ المتطورة من الانتقال إلى مرحلة أكثر تطورا، حيث استطاع مُمارِسُو الغش كتابة عدة دروس في ورقة صغيرة تسْتَنسَخُ بأحجام في منتهى الصغر…
وبتقدم الثورة المعلوماتية وتطور وسائل الاتصال الحديثة، اختفت الطرق السابقة، إذ صار التلاميذ يستخدمون طرقا يصعب على مراقبيهم اكتشافها، كالهواتف الذكية، حيث يضع التلميذ سماعة الهاتف اليدوية في أذنه ويخفي الجهاز في ملابسه، ويتصل سرا بشخص ثان يُملي عليه الإجابة الصحيحة هاتفيا في غفلة عن الحراس. كما تُمكِّن الهواتف الذكية التلميذ من تصوير سؤال الامتحان وإرساله إلى شخص خارج قاعة الامتحان يُرسل بدوره الأجوبة الصحيحة بشكل صورة أو رسائل نصية…
إضافة إلى ذلك يلجأ بعض التلاميذ إلى استخدام تقنيات أخرى كسماعات “البْلُوتُوث” صغيرة الحجم وأجهزة إرسال دقيقة توضع خلف الآذان وتحت الملابس، وبعض الساعات الإلكترونية المزودة بشاشات عرض…
وقد يستعمل التلاميذ شرائح رقمية صغيرة تتسع لتخزين كتاب بأكمله، كما توجد أحذية تعمل بخاصية “البْلُوتُوث”، ونظارات طبية مزودة بكاميرات تصعب رؤيتها وسمَّاعة لاسلكية متناهية الصغر بلون الجلد الطبيعي تنقل في الحال محتوى ورقة الامتحان خارج أسوار قاعات الامتحانات…
ويوجد أيضا جهاز صغير يشتمل على كاميرات وميكروفونات مُصغَّرة يتصل التلميذ عبرها بأشخاص خارج قاعة الامتحان ليمدوه بالأجوبة…
ولمواجهة استفحال هذه الظاهرة، طوَّرت بلدانُ نظاما لكشف حالات الغش، من خلال رصد الذبذبات الصادرة عن الأجهزة الرقمية، فيسهل ضبط التلميذ الغشّاش. كما تم وضع جهاز إلكتروني يلتقط إرسال الهواتف النقالة داخل قاعات الامتحانات ويشوش عليها طوال مدة إنجاز الاختبار…
أرى من السخافة تحميل المسؤولية لهذه التكنولوجيا، لأن المسؤولين غالبا ما يخلطون بين الأعراض والأمراض، ويتوقفون فقط عند حدود الإشارة إلى إحداها لتجنُّب علاج الأخرى. فحلُّ مشكل الغش التكنولوجي باستعمال وسائل تكنولوجية لن يحلَّ هذه المعضلة التي ستظل قائمة في ظل تطور التكنولوجيا المتواصل، إذ سيبتكر التلاميذ دائما أساليب أكثر فعالية للالتفاف على أجهزة الرقابة كما يلتفّ القراصنة المعلوماتيون دائما على نُظُم الحماية والأمن المعلوماتية… وبذلك، ستجد الحكومات نفسها مضطرة لمراجعة نُظم مراقبتها التكنولوجية باستمرار، وبكلفة مالية عالية.
لهذا يلزم إخضاع هذه الظاهرة للدراسة والبحث للوقوف على أسبابها ودوافعها وتفاعلاتها، لأنها ظاهرة خطيرة تؤثر سلبيا في المجتمع ومؤسساته، وذلك بالتكفير مليّا فيها لفهمها وتطوير حلول لها تحترم الإنسان والمجتمع ولا تحط من مستوى المدرسة العمومية لإكراه المغاربة على التوجه نحو التعليم الخصوصي وإغراقهم في مشكلات اجتماعية كبرى تفضي إلى القضاء نهائيا على الفئات الوسطى وتخل بالتوازن الاجتماعي المختل أصلا، ما قد يزعزع الاستقرار…
ولكون مشكل الغش التكنولوجي مسألة تربوية فهو يقتضي حلا تربويا لن يتحقق بنظام المراقبة والعقاب. يجب استعمال الخيال للبحث عن بدائل أخرى تربوية أقل تكلفة وتضمن تعلُّم التلاميذ عبر بنائهم لمعارفهم وذواتهم وقيمهم، وتأهيلهم لممارسة مواطنتهم واحترام الآخر والانفتاح عليه…
يسجل المهتمون بنظامنا التعليمي أن مدرستنا ضربت رقما قياسيا في إجهاد التلاميذ وممارسة الضغط عليهم، حيث يعيشون قلقا متزايدا ودائما لخوفهم من الرسوب. فَمدرستنا تجعلهم لا يرغبون في الامتحان، وإنما في الحصول على النقطة الموجبة للنجاح لا غير…
يكاد الامتحان (لا التقويم) في مدرستنا يشبه “دينا”، إذ يهدف فقط إلى المقارنة بين التلاميذ والمؤسسات وترتيب معدَّلاتهم، كما يرتكز على ثنائية الثواب والعقاب…، ما جعل نظامنا التعليمي لا يهتم بتكوين مواطنين فاعلين مستقبلا، بل بالانتقاء والإقصاء، وتعميق الفروق الاجتماعية…
يشكل التقويم نشاطا أساسيا للتعلم، لكننا لا نمارسُه، بل نمارس الامتحان الذي يقتصر فقط على تكليف التلاميذ بالإجابة على أسئلة كتابية، أو إنجاز الواجبات بالتطبيق الميكانيكي لقواعد معينة… والحال أن التقويم نشاط مستمر يتخلل كل أطوار العملية التعليمية-التعلُّمية، فلا يكون المدرس مدرسا فعلا عندما يقف أمام تلاميذه ويتلو عليهم درسه مستعرضا قواعده ونماذجه…، بل يكون مُدرِّسا عندما يُحلل باستمرار مدى تقدمه في إنجاز عمله عبر قراءته المستمرة لردود أفعال التلاميذ ولغتهم…، مما يمكنه من صقل أدائه ومراجعة ما لم يستوعبه التلاميذ جيدا، ومساعدتهم على تجاوز عوائق عدم استيعابهم… التقويم الفعال هو تقويم تكويني لا يجب الخلط بينه وبين الامتحان الذي هو عبارة عن مراقبة إجمالية تتم عند نهاية الطور أو السنة الدراسيين، لا تهدف إلى أكثر من مجرد تنقيط لأوراق التلاميذ لا يفيد فعليا ومباشرة في استدراكهم لما لم يستوعبوه! يجب ألا ينحصر التقويم في تصيُّد أخطاء التلاميذ وإصدار أحكام سلبية عليهم، بل يلزم النظر إلى هذه الهفوات باعتبارها دليلا على وجود عوائق داخلية لديهم يتحتم اختراقها من قِبَلِهم ليتمكنوا بعد ذلك من بناء معارفهم…
إن مشاكلنا التربوية ناجمة عن افتقارنا لمنهاج دراسي سليم يُمَكِّن التلاميذ من التعلُّم، إذ لم يستطع تطوير تدريسيات تمكِّن التلميذ من بناء معارفه واستيعابها وامتلاك القدرة على الاشتغال بها… وإذا كان تلاميذنا لا يجدون أي لذة في المدرسة، فذلك لأن المنهاج الدارسي لا يسمح لهم بالتعلُّم عبر بناء معارفهم وذواتهم وقِيَّمهم… فهو لا يعترف بوجودهم ومواطنتهم داخل الفصل الدراسي، بل يُحطم ذواتهم ويدفعهم إلى الغش الذي صار ثقافة قائمة لديهم، تتطور بسرعة وانتظام في ظل توافر الأجهزة الرقمية المتجددة بسرعة مذهلة. إنهم يغشون لأنهم لا يتعلمون ويريدون فقط أن ينجحوا بدون أي قدرة على الإنجاز…
يرى بعض المهتمين بالشأن التربوي أن أصل أشكال الغش المدرسي الجديدة يعود إلى النزعة المحافظة للنظام التعليم العاجز عن التفكير في منهاج دراسي وتدريسيات منسجمة معه فكريا تُمَكِّن من بناء أساليب جديدة للتقويم تبطل فعالية استعمال التلاميذ لوسائل تكنولوجية للغش، بحيثُ يصيرون في غنى عنها فيختفي الغشّ نفسه من المدرسة… لكن ذلك يقتضي إعادة النظر في المنظومة التربوية برمتها. بدون ذلك، سنظل نعيد إنتاج كل سلبيات المدرسة العمومية الحالية، ما قد يقود إلى انهيارها، وينعكس سلبا على مجتمعنا ووطننا لأن المدرسة هي التي تربي على المواطنة والوطنية في آن.
ختاما فتسريب الامتحانات هو انعكاس للخطاب السياسي “الغشّاش”، وللقيم الأخلاقية الفاسدة التي تسود المجتمع، وهو جزء لا يتجزأ من الخطاب السياسي الذي يُزَيِّن الواقع للمواطنين، ويعدهم بتحقيق الكثير من الإنجازات، بينما نجده لا يملك تصورا لذلك، ما يجعل مثل هذا الخطاب مجرد نوع من الغش الساعي إلى ضرب كل الخدمات العمومية…
وما دام نظام التعليم لا يمتلك خطابا ديداكتيكيا مكتوبا ينهض على مفاهيم أكاديمية، فهو لا يعي ما يقوله ولا ما يفعله، وما يُصدره من مذكرات هو مجرد خطاب ملتبس يجسد عجزه على الاشتغال بأي مفهوم في إنتاج خطابه. ولذلك كلما حدث مشكل معين اتهم الآخر ونفي مسؤوليته عما حدث، علما أنه مسؤول عنه. في ظل هذه الوضعية هل يكون لامتحاناته الموحَّدة معنى؟! وهل تتوفر فيها مقومات ذلك؟ أليست مجرد غطاء بيداغوجي لتمرير قرارات سياسية؟…

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت