برغبة جامحة وآمال عريضة، حلمت دوما بالاستفاقة ذات صباح على اختفاء كل ألوان الفساد، التي تنخر هياكل الدولة والمجتمع، ويعم النماء والرخاء سائر الأرجاء بين البسطاء. وهكذا عشت سنوات طوالا على أمل أن يجود الزمان يوما، بحكومة في مستوى أحلامنا وانتظاراتنا، وأن يكون رئيسها قادرا على الوفاء بتعهداته ورفع التحديات، وتحرير البلاد من ربقة التخلف.
ذلك أن الفساد، يعد من بين أخطر الآفات الاجتماعية المؤرقة، التي استشرت في كافة الميادين: السياسة والاقتصاد والإدارة والرياضة… وتتجلى معالمه في: الرشوة، الغش، اختلاس وتبذير المال العام، التملص الضريبي… ومن عواقبه انتشار مظاهر الظلم والفقر والقهر والتهميش والأمراض والأمية، وارتفاع نسبة البطالة ومعدل الجريمة بمختلف أنواعها. مما يحول دون تحقيق التنمية.
وبما أن رياح “الربيع العربي” هبت على بلادنا بسلام، وساهمت في رفع وتيرة الإصلاحات، بوضع دستور جديد، وتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة، بوأت إثرها صناديق الاقتراع الصدارة لحزب “العدالة والتنمية” الإسلامي، المدعم ببرنامج انتخابي واعد تحت شعار “محاربة الفساد والاستبداد”. وأنه في إطار المنهجية الدستورية، أسند إلى أمينه العام السيد: عبد الإله بنكيران، منصب رئاسة الحكومة، فإني ومنذ تحمله المسؤولية، لم أفتأ أتابع خطواته بإمعان شديد، متلهفا إلى ما يمكن أن يحدثه من تغيير، وإلى أي حد يستطيع تحقيق ما فشل فيه من كانوا قبله، لاسيما أن دستور 2011 منحه صلاحيات غير مسبوقة. فهل كان في مستوى وعوده والتزاماته، واستطاع ترجمة برنامج حزبه على أرض الواقع، وتفعيل مضامين الوثيقة الدستورية؟
للأسف الشديد، لم يمض زمن طويل على قيادته لما اعتقدناها سفينة التغيير والإصلاح، وخلناها ستعبر بنا إلى حيث الرفاهية والحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم، بعيدا عن ظروف البؤس والإقصاء والتهميش، حتى تبين لنا أننا راهنا على الربان الخطأ، رغم كل ما توفر له من إمكانات هائلة ومقومات الإبحار الناجح … حيث بدا ضائعا بدون بوصلة، عاجزا عن التحكم في المقود ورفع المعاناة عن الجماهير الشعبية. تسرب اليأس والإحباط إلى النفوس وعم التذمر والاستياء. فقد تحول الرجل إلى مجرد ظاهرة صوتية تملأ الدنيا ضجيجا، ولسان جارح ضد خصومه السياسيين، وقلم لا يحسن إلا التوقيع على القرارات الظالمة، وصار البرلمان في عهده عبارة عن حلبة ل”الاقتتال” والتهريج…
تنامت “أوكار” الفساد وأصبح من العسير جدا الوصول إليها، لما يحيط بها من سياجات قوية. فالإدارة العمومية غارقة في البيروقراطية وسوء التسيير والتدبير، انعدام روح المواطنة الصادقة، غياب الحكامة والمراقبة الصارمة وترشيد الموارد المادية والبشرية، وتفشي المحسوبية والزبونية، وما إلى ذلك من الأعطاب والاختلالات الهيكلية العميقة…
تساقطت أوراق التوت تباعا عن حكومته المهلهلة، بعد سلسلة من التدابير العشوائية والفواجع والفضائح، ولم تفد في ستر عوراتها لا الترقيعات ولا ذرف الدموع وادعاء الطهرانية وحماية القيم الدينية، ولا التمترس خلف نظرية المؤامرة وإقحام اسم الملك في التظاهرات الخطابية، عندها أدرك ألا مناص من الامتثال إلى رغبة مستشاريه ومنظري حزبه وذراعه الدعوي، باتخاذ منحى آخر لخرجاته التقليدية، يحفظ له ما تبقى من شعبيته ويعيد للحزب بعض بريقه…
ويبدو أنه، ولما له من مآرب جمة في وسائل الاتصال والإعلام الرقمية، استوعب الدرس جيدا حول أهميتها في صناعة الرأي العام، من خلال حشد المواطنين وتعبئتهم حيال أفكار واتجاهات معينة، وتبين له أن مجرد نقرات بسيطة على الحاسوب، كفيلة بإشعال الثورات وقلب وجه العالم، دونما الحاجة إلى استنزاف الطاقة والوقت في التنقل. ولعله بذلك، يكون قد استحضر العديد من الأحداث، التي شكل فيها الإعلام الجديد قوة شعبية ضاغطة على مصادر القرار، من بينها قضية المجرم الإسباني دانييل كالفان، وإسقاط رؤوس بعض وزراء حكومته إثر فضائح: “الشكلاطة” و”الكراطة” و”العشق الممنوع”. ويعتبر هذا النوع من الإعلام، منابر إعلامية حقيقية للتعبير الحر عن قضايا وطنية هامة ومصيرية أحيانا…
وبالنظر إلى ما يتيحه من فرص تمرير الخطاب، فإن الشيخ بنكيران لم يتأخر في العودة إلى صباه، بانخراطه في تلقي تكوين سريع ومكثف، وإنشاء حساب خاص في الفضاء الأزرق، واضعا بذلك لنفسه موطئ قدم في الشبكة السحرية “الفايسبوك”، حتى يكون بمقدوره التفاعل التلقائي مع أنصاره، وجاهزا للتجاوب مع ما يرد على صفحته من تعاليق، على أمل أن يحقق من خلال الإبحار في عوالم الانترنت، ما لم يستطع بلوغه في جلسات المساءلة الشهرية، ومهرجاناته الخطابية. ولارتباطه الوثيق بالزعامة وولعه بها، فمن المؤكد أن انضمامه إلى فيالقه الإلكترونية سيؤجج حماسها، ويفسح أمامه المجال واسعا لقيادة حملات شرسة ضد غرمائه في المعارضة…
كنا سنبادر إلى تثمين خطوته هذه، لو أنها جاءت مع بدايات توليه المسؤولية، ولمسنا لديه قابلية التواصل الإيجابي واتساع صدره للانتقادات والقبول بالتوجيهات. لكن، أن تأتي بعد قضاء ما يقرب من أربعة أعوام في المنصب، مع ما رافق ذلك من أجواء متشنجة واستفراد بالرأي، وفي وقت لم يعد يفصلنا عن موسم الانتخابات عدا ثلاثة شهور، فليس للأمر من تفسير سوى أن السيد بنكيران يحاول تلافي لعنة “الفايسبوك”، التي قد تعصف بحزبه خارج المراتب الأولى وتفقده مركز رئاسة الحكومة إلى الأبد، ما يقتضي منه التحضير الجيد واتخاذ كافة الاحتياطات الضرورية، خاصة بعد اعترافه الصريح مؤخرا بفشل حكومته في إصلاح التعليم، ومحاربة الفساد ومعالجة ملف التشغيل والحد من حوادث السير، وإن كان لم يصرح بتجاهله مطالب الحركة النسائية، وضربه القدرة الشرائية للمواطنين، بفعل الزيادات الصاروخية في المواد الأساسية، وإخفاقاته في القطاعات الأخرى: الصحة، السكن، العدل والنقل…
من هنا يتضح أن اهتمامه المباغت بوسائل الاتصال الحديثة، جاء استجابة لرغبته الشديدة في الحفاظ على منصبه، ووفق ما تشكل لديه من قناعات راسخة بتأثيرها القوي، وقدرتها على ترجيح كفة حزبه ومرشحيه، لاسيما إذا ما تم حسن استثمارها في الاتجاه الصحيح، والإدارة الجيدة للحملات الانتخابية.
وبينما انشغل المغاربة بفضيحة تسريب امتحان الرياضيات، وحالات الغش المضبوطة عن طريق الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي، خلال الامتحان الوطني للبكالوريا دورة: يونيو 2015، وبالانعكاسات السلبية على سمعة الوطن ومصداقية شهادة البكالوريا، كان الرجل على موعد “هام” يوم السبت 13 يونيو 2015، مع وليمة أقيمت لفائدة مدونين من رواد “الفايسبوك”، اختيروا من بين أبرز عناصر الحزب وتنظيماته الموازية في الكتائب الإلكترونية، لما يتميزون به من مواهب في تلميع زجاج “المصباح” وصورة “الزعيم”، وجعلهم في حالة استنفار قصوى استعدادا للمعارك القادمة، وشحذ هممهم لمواصلة حشد الدعم و”الجهاد” ضد “الأعداء” والنيل منهم في معاقلهم “الفايسبوكية”، بكل ما أوتوا من قوة، بما في ذلك من ترويج للأباطيل والإشاعات. فماذا أعدت القوى الديمقراطية للمواجهة الحاسمة؟
اسماعيل الحلوتي