هشام الدركاوي
كثيرا ما كنت أتساءل عن حدود صحة الدعاية التي يتم الترويج لها في مجتمعنا بكون التعليم أفضل مهنة لما فيه من ساعات عمل قليلة ومغالطة العطل ويسر العمل وبساطته ، حتى تركزت في المتخيل الجمعي صورة تمثيلية سلبية عن رجال التعليم ونسائه وانهم يتقاضون تلك الاجور الهزيلة عن ذلك العمل السهل الذي بإمكان الكل القيام به. إلى أن أثارني مشهد أحد الرسل (بتعبير الشاعر أحمد شوقي) في أمسية سبت جميل بإحدى المقاهي ؛ حيث الكل مستمتع بعطلة نهاية الأسبوع وفراغ باله ؛ سواء بالانشغال بالتبحر في عوالم هاتفه الذكي أو بالدردشة مع الأصدقاء أو بمشاهدة مباريات كرة القدم ، أو بمناقشة بعض القضايا والضحك على آخر النكت أو بالاستمتاع بالمشروب والتملي بجو الهدوء أو التخطيط للمشاريع المستقبلية ….. باستثناء الرسول الذي بدا منشغلا ومهموما ومتضجرا من ركام ورق متباين الخطوط ، مكدس فوق طاولته ، يقلب صفحاته بغضب وغليان ويخط فيها بقلم أحمر- صار جزءا من حياته وفردا من العائلة لكثرة ملازمته – يتقاطر بدمه المتبقي الذي سيجف قبيل أداء الرسالة . يحك رأسه تارة ، ويضرب الطاولة تارة أخرى ، ويسب ويشتم ويلعن ، وينفت دخانا كثيفا من سيجارته الرخيصة ، ملاذه الوحيد رشفاته المستمرة السريعة من كوب القهوة السوداء التي تختزل سواد وضعه وقتامة ظروفه ، مؤمنا أنه لا يذهب السواد إلا السواد ولا يقهر المرأة إلا المرأة. وكلما تعب نزع نظاراته ودعك عينيع بشدة وألم ، متحسرا على بصره الذي ولى من كثرة تقييم وتقويم حدود تبليغ رسالته لقوم لا يؤمنون به ولا بها ، مدركا أن العمى يزحف نحوه كما زحفت نوائب الدهر الكثيرة الأخرى التي ترتبط بمهمة الرسولية ، ومع ذلك يردد مع إبراهيم طوقان قائلا :
وَلَوْ أَنَّ في التَّصْلِيحِ نَفْعَاً يُرْتَجَى
وَأَبِيكَ لَمْ أَكُ بِالْعُيُون بَخِيلا
وبعد ساعتين من العمل الشاق المضني والممل الذي لاحق رسولنا مذ سنوات عجاف طويلة ، تركت آثارها على وجهه الذي يسرد تاريخ معاناة التنقلات المستمرة لأراضي التبشير وتبليغ الرسالة ، وهزالة الراتب وضنك المعيش وافتقاد كرامة العيش في مجتمع لا يحترم أنبياءه ورسله ورسالاتهم التنويرية والتثقيفية ، ويكيل لهم بمكاييل التشهير والإساءة والتفقير ، مجتمع لا يحترم إلا أبا جهل وأبا لهب ومسيلمة (هذه الأسماء خرجت من تمثيلها الموضوعي لتصير رموزا دالة). قرر الرسول مغادرة المقهى منهكا كليم النفس وفي نفسه شيء من حتى الورق التي ستحتحته (كما قال النحاة) في المساء وطيلة يوم الأحد حتى ينهيها وينهي معها أعصابه وبصره ، ليدخل دوامة معاناة أخرى لم تكن عند رسلنا الحقيقيين أثناء تبليغ رسالاتهم السماوية ؛ معاناة بطلها شبح مسار الذي يقض مضجع رسل شوقي في كل حين. ولن يتذوق رسولنا طعم الراحة أو يهنأ بفراغ باله مادام مطاردا بإعداد مضامين الرسالات الأسبوعية ؛ الصباحية والمسائية ، بل يتم تبليد حسه وتسطيح فكره بتفاهة الجذاذات التي ستجذه من جذور المعرفة وتقطع صلته بها.
معلقا أمله الوحيد على شهر غشت اليتيم حيث سينعم بسويعات قليلة من النوم ؛ إن ظفر بها لأن باله سينشغل بهموم السنة القادمة وطبيعة القوم الذين سيبعث فيهم ، وهل سيظل بين عشيرته أم سيقذف به في عشائر أخرى بعيدة ، مما سيزيد من تفاقم مشاكله وأوضاعه. كما سينشغل بإيجاد الحجج التي سيتذرع بها والحيل التي سيحتال بها على عشيرته المقربة (أسرته) – إن استطاع إلى تأسيس الأسرة سبيلا- ويلهيهم عن التفكير في السفر والاستمتاع بأجواء الصيف ؛ لأن وضعه الرسولي المزري لا يسمح له بذلك .
وفي نهاية هذه المشهد الدرامي المختزل لأزمنة رسولنا الثلات ؛ ماض بئيس وحاضر تعيس ومستقبل قاتم أكثر بؤسا، غادر رسول شوقي المقهى ، متثاقل الخطوات ، هزيلا ، مختل توازي الكتفين جراء عقاب المحفظة المتلدة التي لازمته طويلا حتى صارت بينهما ألفة ، ممتطيا صهوة دراجة نارية صدئة ؛ وسيلته الوحيدة للتنقل إلى مكان التبليغ. ولسان حاله يلعن الأقدار والظروف التي جعلت منه رسول شوقي ، مرددا ما قاله إبراهيم طوقان المعلم الشاعر المثقف لحظة معارضته قصيدة شوقي التي امتدح فيها التعليم في نوع من النظرة المثالية المفارقة للواقع والمناقضة له:
شَوْقِي يَقُولُ وَمَا دَرَى بِمُصِيبَتِي
قُمْ لِلْمُعَلِّـمِ وَفِّـهِ التَّبْجِيــلا
اقْعُدْ فَدَيْتُكَ هَلْ يَكُونُ مُبَجَّلاً
مَنْ كَانِ لِلْنَشْءِ الصِّغَارِ خَلِيلا
وَيَكَادُ يَفْلِقُنِي الأَمِيرُ بِقَوْلِـهِ
كَادَ الْمُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ رَسُولا
لَوْ جَرَّبَ التَّعْلِيمَ شَوْقِي سَاعَةً
لَقَضَى الْحَيَاةَ شَقَاوَةً وَخُمُولا
لاَ تَعْجَبُوا إِنْ صِحْتُ يَوْمَاً صَيْحَةً
وَوَقَعْتُ مَا بَيْنَ الْبُنُوكِ قَتِيلا
يَا مَنْ يُرِيدُ الانْتِحَارَ وَجَدْتـهُ
إِنَّ الْمُعَلِّمَ لاَ يَعِيشُ طَويلا