ابراهيم الفتاحي
كانت حفرة في المرعى، وقلتة لا يجف ماؤها طول العام، حتى يدركها مطر الشتاء فتمتلئ من جديد، لأن حبيبات الطين فيها مشبعة، يروي فيها بعض الناس ضمأ الأغنام والأبقار، خصوصا في الصيف حيث تجف القلات وتنضب السواقي. لكن مخيال الناس بنى حولها أسطورة تملأ الأفئدة رعبا، وتزيد من رهبتنا كلما وقفنا على جنباتها، فقد قالوا إنها مأوى مارد من الجن اسمه “عقاوش”، وأنها مملكته المحمية، لذلك كانت البسملة تسبق أقدام الزائرين أو المارين جانبها.
روى الكثيرون وهم يمعنون في الترهيب أن “عقاوش” جني “زهواني” محب “لأحواش” الأمازيغي والقينات وما يرافق ذلك من ضرب على “البندير”، وأن الغناء يسمع ليلا من حين لآخر في حفرته حتى أذان الفجر، حيث تبدأ سيطرة الإنس من جديد على الدنيا، وينام الجن في انتظار ليلة أخرى، ولطالما قالوا إن هذا أو ذاك قد سمع الغناء، لكنني لم أسمع من أحد السامعين يوما حكاية عن ذلك، رغم أني لم أشك لسنوات من عمري في صدق الأسطورة المحبكة عن حفرة “عقاوش”، وكنت أرهبها مثل الجميع، بل مازالت الرهبة تنتابني أحيانا من هذا المارد حتى اليوم، فقد سكنت أسطورته جوانحي رغم أن الحفرة جفت وغادرها “عقاوش” المسكين، وربما قضى نحبه فتفرق الجن المساكين في الدنيا مثل العديد ممن عاشوا تلك الحكاية من البشر.
وقد يكون “عقاوش” حيا يرزق حتى اليوم، واستعاض عن مجموعات “أحواش”، التي دأب على استقدامها كل ليلة لسنين طويلة، بآلة من آلاتنا، فيضع السماعتين في أذنيه مستمتعا بالموسيقى هنيئ البال بدل إزعاج الناس وتخويفهم منه، أو ربما قتلت جرأة الجيل الجديد هيبته فآوى إلى ركن شديد، أو غير الحفرة بأخرى بعيدة عن أناس لم يعودوا يحترمون الجن أو يهابون سطوتهم، لأن راحتهم وسعادتهم تقوم على خوف البشر منهم.
وقد أخبرني أحدهم أن “عقاوش” كان مجرد ضحية للبشر، فقد عاش المسكين في الحفرة وحيدا لا يقيم الحفلات ولا يحتسي الخمرة، وكان يقضي لياليه صامتا، وربما خائفا، ولكن شياطين الإنس استغلوه ببشاعة، ووظفوا اسمه ليرعبوا به إخوانهم البشر، إذ كانوا يقيمون الليالي الملاح هناك على جنبات بيته في الخلاء، فأقاموا الأسطورة حتى لا يقربهم أحد فيفسد عليهم نشوتهم، فأشاعوا في الناس، كذبا، أن ذلك من فعل “عقاوش”، وما ثبت عليه أنه مس إنسيا بسوء، أو سكن جسد أحد، فقد كان أيقونة السلام والتعايش رغم كل الرعب الذي رافق اسمه وحفرته.
يقول صاحب الرواية أن رجلين اثنين من عشاق الليالي الملاح كانا يسبقان إلى جنبات الحفرة من حين لآخر، خصوصا في ليالي الشتاء الطويلة الباردة، حيث تنقطع حركة الناس باكرا، فينصبون خيمة ويبدأون في احتساء الخمرة والغناء حتى تلحق بهما خليلتاهما من أحد الدواوير، وكانتا تغادران في منتصف الليل بعدما شاع في الناس أنهما من المتحولات إلى بغلات قبور من حين لآخر، نظرا لتقصيرهما في حق الله، وهو عدة الأربعة قروء تتربصها النساء مرتديات الثوب الأبيض بعد وفاة الأزواج.
كان الكثير من النساء في الماضي يغادرن منازلهن ليلا للقاء خلانهن ويغبن حتى الفجر، وينسجن حول ذلك أسطورة تحولهن إلى “بغلات القبور”، فيرهبن الناس، ويتجنبون حتى الحديث معهن في الأمر نهارا خوفا من انتقامهن ليلا؛ وكان هؤلاء النساء يتظاهرن أنهن لا يفهمن شيئا، ويتحدثن عن خروجهن على أنه حلم يعذبهن في النوم، أي ما يسمى في علم النفس” بالسرنمة” الذي يقصد به السير في النوم.
التقى “عقاوش” الجني “ببغلة القبور” الإنسية لمتعة رجلين وامرأتين جمعهما العشق والجنس والخمرة، وبلقائهما امتد الخوف حبالا في نفوس الكثيرين، وسكن الرعب نفوسا عديدة من حفرة صغيرة في الخلاء، رعب مازال حتى اليوم يسيطر على قلبي ويصير شعري كالشوك الصلب كلما مررت قرب حفرة “عقاوش”، أو تذكرت “بغلة القبور”.
سيكون لزاما علينا إن صدقت رواية الرجل أن نعيد الإعتبار للسيد “عقاوش” وأن نقيم احتفالا للإعتذار له عما فعله البشر قرب مأواه المنعزل عنهم، وعن كل الإزعاج والإساءة التي تعرض لها لسنين طويلة.
21:02
Brahim Elfattahi
Envoyé depuis Marrakesh
Choisissez un autocollant ou une émoticône