يونس الخراشي
بعض الناس يشبهون لحظات الشروق. لفرط روعتهم يرحلون، مثلها، بسرعة، فلا يبقى في البال سوى ذكرهم الطيب، كشفق لا يغيب أبدا، مهما غاب في الواقع. وعبد الحق الجدعي، رحمه الله، واحد من هؤلاء، ما أن ذاع خبر وفاته، مساء أول أمس (الأربعاء)، حتى صارت ابتسامته الوهاجة ملء الدنيا، كأنه جاء إلى الدنيا للتو.
الجدعي، الذي وافته المنية بعد مرض عضال لم يمهله طويلا، كان طيف خير، وكأنه مفرد بصيغة الجمع. تندهش وأنت تسمع ما يُحكى عنه، أو ما يقوله لك هو بنفسه، فتتساءل مع نفسك:”أنى لهذا الرجل كل هذا النَّفَس كي يركض يوميا، دون رحمة بذاته، ليخدم الآخرين؟ ومن أين له بكل هذه الطاقة المدهشة على حملهم فوق ظهره، والتبسم في وجوههم، وكأنه يقول لهم هل ترغبون في المزيد؟”.
حتى كلامه في الهاتف كان طيفا عابرا، يفاجئك بمكالمة في وقت غير متوقع بالمرة، وسرعان ما يقول لك:”كيداير أخويا، كيدايرين مالين الدار. ياك ما كاينشي ما نقضيو، متحشمش، أنا موجود”، وقبل أن تستوعب ما قاله، رحمة الله عليه، حتى يبادرك بقوله:”أي حاجة عيط لي، أي حاجة أخويا، يالله، سلم على مالين الدار”. ثم يقطع الخط، ويتركك لحيرتك تتساءل مجددا:”هل حقا هناك أناس بمثل هذا الخلق إلى يومنا هذا؟”.
في مرات كثيرة كان يُخَيَّلُ إليَّ أن عبد الحق الجدعي، رحمة الله عليه، إما أنه يقطُن بجانب مستشفى ابن رشد بالدار البيضاء (موريزكو)، أو هو واحد ممن يشتغلون فيه، لأنه كان دائما على أهبة الاستعداد لكي يتدخل من أجل خدمة مريض، حتى إنه كان، غالبا، ما يسبق من يعنيه الأمر، فتجد هاتفك يرن:”هاني حدا باب ليرجانس (المستعجلات)، فينكم؟ يالله باش نقضيو الغرض قبل ما يمشي الطبيب”.
ولأنه كذلك، كنت أتساءل مع نفسي في بعض الأحيان، كيف يجد الجدعي، رحمه الله، الوقت لكي يحضر باستمرار في جريدة “المنتخب”؟ بأخباره التي لا تنضب عن غريمي الدار البيضاء؛ الوداد والرجاء، سواء في “الأحمر والأخضر”، أو في الأحاديث مع اللاعبين، والمدربين، وغيرهم؟ حتى إنه كان يُخَيَّلُ إليَّ أنه يوجد في ملعبي “حي وازيس” بالدار البيضاء أكثر من بعض اللاعبين أنفسهم.
ولم يسبق لأخبار الجدعي، رحمه الله، أن أثارت شكا أو لبسا، ذلك أنه كان يكتبها من ندى العشب، طازجة، طرية، وكان كل القراء، سواء ممن يعرفونه، لكثرة ما يرونه في ملعب مجمع محمد الخامس، أو في ملعبي الوداد والرجاء، وغيرهما من ملاعب الدار البيضاء الأخرى، يدركون أنه كتبها شاهدا عليها، وكل من سيقول العكس، أو يحاول التشكيك فيها، أو تكذيبها، فهو إما يريد التعبير عن حقيقة مخالفة للواقع، أو تراه يبحث عن مصالح معينة لم تكن أبدا تعني الصحافي في شيء.
هل قلت إن الجدعي، رحمه الله، كان مثل لحظة الشروق؟
بل لعله كان أكثر من ذلك، فجرا جميلا أكثر من اللازم، ولذلك بالضبط، فحتى مرضه لم يمهله طويلا جدا، بل عاجله، فأخذ منه الكثير، ليحس بدنو أجله، فيطلب ممن كانوا يشرفون على تمريضه، من بعض الأصدقاء الأوفياء، أن ينشروا صورته في الإنترنيت، قبل أيام، لعل من رآها يسأل الله له الشفاء والرحمة، ثم نُقِل إلى بيته في مدينة المحمدية، يوم الثلاثاء الماضي، ولبى نداء ربه بعد عصر أول أمس (الأربعاء)، ليدفن مساء اليوم نفسه. ويَذِيع الخبر، “مات الخدوم.. مات عبد الحق الجدعي، الصحافي الرياضي الشهم.. رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته”.
إنا لله، وإنا إليه راجعون.