جائزة المغرب للكتاب في فرع الشعر بين السحب والحجب

جائزة المغرب للكتاب في فرع الشعر بين السحب والحجب

- ‎فيرأي, فن و ثقافة
272
0

ياسين  عدنان

أسوأ ما يمكن أن يقوم به شاعر هو أن يدعو إلى حجب جائزة شعرية مُعيدًا قيمتها المادية إلى الدولة عوض أن يستفيد منها أشباهُه الشعراء. ومع ذلك فقد جرى الحجب. وَوجدتُ نفسي أنحاز إليه رفقة زملائي في لجنة الشعر لجائزة المغرب للكتاب برسم سنة 2015، ليس تنقيصًا من قيمة القصيدة المغربية ولا تبخيسًا للدواوين المشاركة، لكن رغبة في الاحتجاج على فساد استشرى بما يكفي ليُطلَّ بعنقه دون خجل أو احتراز من داخل لجنة مسؤولة مُعرِّضًا مجهود أعضائها للتّتفيه وأشغالها للإرباك.

لذلك تصوَّرْنا أنّ تجاوُز ما وقع في لجنة الشعر هذه الدورة، والاستمرار في اللعبة كأنَّ شيئًا لم يحدث، يُورّطنا في التواطؤ مع فساد يسهل انتقاده من الخارج فيما المطلوب اليوم محاصرَتُه من الداخل وفضحُه بكل الأساليب، وهذا ما حاولناه.

كان قرار الحجب صعبًا، لكنّنا برّرناه في تقرير وضعناه بين يدي وزارة الثقافة. كنّا نتمنّى لو عرف التقرير طريقه إلى النشر ليُشكّل إطارًا للنقاش، لكن هذا لم يحصل. صبّ أصدقاؤنا الشعراء جام غضبهم على الوزارة والجائزة ولجنة الشعر، فالتمستُ لهم الأعذار. شخصيًّا فضلتُ التريّث في التّوضيح. فما دمنا نحتجُّ على تسريبٍ غادِرٍ طال مداولاتنا ونحن نشتغل، سيكون من المعيب الرّد على الخطأ بآخر من جنسه. لكنّ عدم نشر التقرير أوحى لمن ورّطنا في هذا المستنقع بأن المجال متاحٌ أمامه للمزيد من عجن الطّمي وخلط الأوراق. هكذا صرتُ أطالع باندهاش في الصحافة الوطنية تصريحات عجيبة لهذا العنصر – الأستاذ حسن مخافي (لكي لا أسمّيه) – مرّة ينتقد وزارة الثقافة لأنها عيّنت داخل لجنتنا “غرباء عن الشعر”، ومرّة يزعم أن معيار “الاحتكام للشعر وللشعر وحده” كان من اقتراحه شخصيًّا، ومرة أخرى يشرح أن “مؤامرة على جائزة الشعر” داخل اللجنة انكشفت له – يا لَنباهته – منذ اللقاء الأول. والحمد لله الذي هدى وزارة الثقافة إلى تعيينه عضوًا داخل لجنة الشعر هذه السنة ليكشف المؤامرات ويذود عن حوض الشعر المغربي. هذرٌ كثيرٌ أصابني بالذهول. فالرجل الذي تصوَّرْتُه في موقفِ حرَجٍ وضعفٍ، لا يرجو سوى السّتر بعد الفضيحة، بدا كمن شرب حليب السباع وألهمَهُ شيطانُه الهجومَ وسيلةً للدفاع.

لأجل ذلك، يجب أن نحكي الحكاية من البداية.

هذه أول تجربة شخصيّة لي في لجنة تحكيم جائزة المغرب للكتاب. رغم أنه سبق لي أن كنت محكّما في جوائز عربية ليس آخرها الدورة الأخيرة للمشروعات الأدبية لمؤسسة المورد الثقافي، بل وكنت محكّما في مهرجان سينمائي قارّي مع أنني لست ممثلا ولا مخرجا. وبقدر ما استأنست بهذا العمل بقدر ما أتهيّبُ ما زلتُ من جسامته. إذ بالأمس فقط اعتذرتُ عن لجنة تحكيم جائزة عربية للمقال الصحفي بسبب ضيق الوقت الذي قد يمنعني من الاضطلاع بالمهمة بالجدّية اللازمة. هكذا أعتبر نفسي عمومًا متمرّسًا بما يكفي بهذا التمرين: ممارسة الاختلاف داخل اللجنة وبناء الحجج للدفاع عن اختياراتك أمام زملائك والنقاش الذي قد يحتدّ مع بعض الأعضاء قبل أن يُطوى البساط بما فيه لينضبط الجميع لاختيارات اللجنة النهائية بما فيها تلك التي كان يعارضها في المداولات.

وحينما قبلتُ المشاركة في جائزة المغرب للكتاب هذه الدورة كانت الرّغبة تحذوني في اكتشاف سير الأمور داخلها، وأيضًا في الانتصار للقصيدة المغربية من خلال مهمّةٍ أقدّر محاذيرها. أردتُ أيضًا أن أساهم في ترجمة قناعاتي النظرية حول الجائزة التي انتقدتُها غير ما مرّة في بعض محطّاتها السابقة. لذا من الصعب عليّ القبول بكلام من عيار: “عادي”، “هذه أشياء تحدث بشكل اعتيادي ولا يجب أن توقف مسار العمل”، إلخ. ولذلك أيضًا كنتُ مع قرار الحجب الذي تبلور لاحقًا. كنتُ أفضّلُ حجبًا يُثير النّقع على الخلود لصمت متواطئ يزيد البركة إيسانًا. أفضّلُ حجبًا يفضح ويُعرّي على تتويج ملفّق “يلمُّ الموضوع” ونحمي به سمعتنا وسمعة الجائزة. حجبٌ اعتبرناه احتجاجيًّا ونريد أن يكون له ما بعده.

ثمّ، لنكن واضحين قليلًا، إن لجنةً فشلت في أن تحمي مداولاتها لم تعد مؤهلة برأيي للحكم على تجارب الشعراء وتقييمها. هناك ميثاق أخلاقي تمّ هتكُه على نحوٍ سافر. صحيحٌ أن الريح باغتتنا من كوة واحدة، لكنها كانت كافية لتخلط كل الأوراق وتفسد المنهجية وتنقلنا بشكل مؤسف من نقاش الشعر والجماليات إلى درَكٍ لا يليق لا بالشعر ولا بالشعراء. قد نقدّر أن ثمّة من يملكون من القوة والحزم ما يجعلهم يتجاوزون هذه الاختلالات ويلتفُّون عليها. لكننا نحن رفضنا الاستمرار. فضلنا أن نُحرج الجميع ونحتجّ على وضع لا يشرّف أحدًا لكي نتيح للنقاش الجادّ أن يبدأ. وإليكم القصة من أولها.

ونحن في الكولوار باتجاه قاعة الاجتماع – اجتماعنا الأول – دنا مني حسن مخافي باسمًا متودِّدًا ليهمس في أذني: “أعتقدُ أننا أسعد لجان هذه السنة حظًّا، فمُهمّتُنا في غاية اليُسر.” ظننتُه يقصد عدد الكتب. فأمامنا 31 ديوانا فقط فيما لجنة السرد مثلا مطالبة بقراءة 67 عملا سرديا. لكن الرجل استرسل بوضوح أكبر: “قصدي أن محمد بنطلحة مرشّح هذه السنة. وهذا أمر ممتاز، إذ سيشرّفنا كلجنة أن نتوِّج هذا الاسم، كما سيشرّف الجائزة أن ينالها بنطلحة”. لا أنكر أن الخبر أسعدني. فبنطلحة من شعرائي المفضلين، ومجرّد الدّراية بصدور ديوان جديد له مبعث سعادة لي كقارئ للشعر وكصديق لتجربة الرّجل. لكن مع ذلك، لا ينبغي أن نُصادر على المطلوب. والمطلوب هو القراءة. القراءة أولًا وقبل كلّ شيء. أمامنا 31 ديوانًا مرشّحًا على قدم المساواة وعلينا أن نضمن لهذه الدواوين التي استُئمِنْنا عليها حقّها في التنافس الحرّ الشريف. على الأقل عبر قراءتها. لذا ما إن حاول مخافي مع بداية الاجتماع جسّ نبضنا الجماعي ملمِّحا إلى أهمية أن تستأنس اللجنة بمسار الشاعر وقيمة مُنجَزِه وهي تتداول في الأعمال المقترحة، حتى تبادَرت إلى ذهني جنايات عديدة ارتُكِبت في حق الأدب المغربي فقط لأن مثل هذا الخطاب المُناوِر والمدلّس وجد من يُزكّيه ويتبنّاه حتى كرّسته العديد من اللجان السابقة عقيدةً ومنهاجا.

هنا تدخّلتُ بصرامة مطالبًا بتحديد معايير واضحة لعملنا. وقد وافقني أعضاء اللجنة مشكورين وسايَرَنا مخافي مضطرًّا. هكذا اتّفقنا على أن يتمّ الاحتكام إلى النّص وإبداعيته بغضّ النظر عن بريق الاسم وأهمية المسار، وأن تتقفّى اللجنة الضوء الشعري خارج اعتبارات الكمّ وشكل الكتاب وجمالية الطباعة. ولأن الدواوين المُقترَحة علينا كانت بالعربية والأمازيغية والدّارجة والفرنسية والانجليزية، فقد تعاقدنا على ألا يتقوقع المحكّمون داخل لغاتهم، وعلى أن تكون الجائزة للشعر لا للغة الكتابة. وفي هذا الإطار جاءنا أحمد عصيد إلى الاجتماع الثاني مقترحا خمسة أعمال شعرية بالعربية مؤكّدا بنزاهة أنّه لم يجد في الدواوين الأمازيغية المشاركة واحدا في مستوى الأعمال العربية التي اختارها. لهذا استغربت وأنا أقرأ مخافي يدلِّسُ قائلا بأن “اختيار عصيد في اللجنة جاء لكونه يتقن اللغة الأمازيغية” بل وتأسَّف مخافي غاية الأسف لأن عصيد “لم يرشِّح أيّ عمل بالأمازيغية”. استغربتُ فعلا. فإمّا أنّ الرّجل يريد استغفالنا بتلفيقه، أو أنه يريد أن يستعدي على عصيد شعراء الأمازيغية بإظهاره أمامهم بمظهر من خان مِلّته، وإمّا أنه لم يفهم أصلا فلسفة عمل اللجنة ولا استوعب مدى النضج والتعالي الكبيرين الذين استجاب بهما أعضاؤها للمعايير التي اتّفقنا عليها.

بين الاجتماع الأول والاجتماع الثاني، فزتُ شخصيا بسياحة مذهلة في حدائق الشعر المغربي. غنًى في الأصوات وتنوّعٌ في الحساسيات مُدهش. محمد بنطلحة كالعادة كان متألقا. ديوانه الفاتن (أخسر السماء وأربح الأرض) دليلٌ قاطعٌ على أن الشعر المغربي يحتل مكانه البارز في ساحة الشعر العربي. أحببت (أرض الكنغر) لعبد القادر الجموسي و(لا أشرك بالعزلة أحدًا) لمحمد ميلود غرافي. وداد بنموسى كانت (خفقة قلب) هذه الدورة فنالت تعاطف اللجنة بالتوتر الوجودي الذي طبع ديوانها الأخير، أما عائشة البصري فاستثمرت تجربة المرض في ديوانها بشفافية عالية. يونس الحيول كان صوتا مفاجئا. فالرجل مروّضٌ محترفٌ للندم. خالد بودريف أسعدنا بديوان يعود بقارئه إلى الشطرية والتفعيلة لكن بلغة مشرقة جميلة ورشاقة لا يستطيعها إلا الشعراء المطبوعون. مصطفى الشليح أفحَمنا بوصاياه وبفخامة لغته أيضًا. (الوصايا) أول ديوان أقرأه له أنا الذي تلقّيتُه دائمًا من خلال العلم الثقافي. لست أدري لماذا أحسستُ وأنا أقرأه أنني عثرتُ فيه على ندٍّ للرّاحل محمد الطوبي.

أحمد لمسيَّح في (قتلتني القصيدة) يواصل مساره الشعري بثبات. فالرجل صار معنيّا بالكتابة كأفق وليس برصف الكلام الفطري الموزون والمرصّع الذي كانَهُ الزجل قبل أن يبعث الله في المغاربة لمسيّح ومراد القادري. ومَن أيضًا؟ نبيل منصر بلُغَته الثرية وتجربته المنحازة بشكل تامّ إلى قصيدة النثر. ثم حسن مكوار الشاعر المغربي الكبير الذي أصدرت له جامعة محمد الخامس ديوانا شعريا ضخما من جزأين باللغة الانجليزية في 700 صفحة تقريبا يضمّ الأعمال الشعرية التي كتبها ما بين 1969 و2013. أعرف أن وزارة الثقافة اختارتني لعضوية اللجنة أيضا لأنني ابن الأدب الإنجليزي. لهذا وجدت مسؤوليتي مضاعفةً واللجنة تستأمنني على ديوان حسن مكوار بالذات. من قال إن الشعر المغربي ليس بخير؟ وكم كنتُ أتمنّى لو تعزّزت اللائحة بدواوين أخرى جميلة صدرت في 2014 لكنّ أصحابها لم يتوصّلوا بنسخ من دواوينهم إلا بعد أن انقضى موعد الترشّح للجائزة. أفكّر مثلا في ديوانين جميلين صدرا عن بيت الشعر (لا لزوم لك) لِسُكينة حبيب الله و(أمواج في اليابسة) لمصطفى ملح لم أطّلع عليهما إلّا لاحقًا. وأحبّ أن أضيفهما لمنتخباتي التي تضمّ ما أتصوّره شخصيًّا أجمل إنتاجات الشعر المغربي لهذا العام.

المتن متنوّع، وحساسيات أعضاء اللجنة متباينة. لكن نحن هنا للتداول والنقاش. وهذا التمرين لا يخلو من متعة لمن انخرط فيه لوَجْه الشعر. تبادلتُ بالباب – ونحن في الطريق إلى عقد اجتماعنا الثاني – دردشةً قصيرةً مع أحمد عصيد اشتكى فيها من الفجاجة التي حاول بها حسن مخافي إقناعه بأن الجائزة يجب أن تذهب لبنطلحة وإلا فسنتعرّض للهجوم من كل حدب وصوب. قلت له ضاحكا: “إذا سمعْتَني خلال الجلسة أدافع عن بنطلحة، فلا تعتقد أنّني أفعل خوفًا من تهديدات مخافي”. استهجنّا أن يكون بيننا من يعتقد نفسه أذكى من الجميع. يستفرد هكذا – بصلفٍ وقلة ذوق – بنا واحدًا واحدًا ويحاول الاستحواذ على عقولنا وتوجيه قرارنا بشكل غبي. فَأغبى شيء على الإطلاق هو أن لا تحترم ذكاء الآخرين، بل وتتوهّم أنّك أذكى من الجميع. لكننا فضّلنا تجاوز الأمر. طوينا الصفحة وانخرطنا مباشرة في نقاش حرّ مفتوح، لكن جدّيٍّ ومسؤول، انتخبنا على إثره ثلاثة دواوين: (أخسر السماء، وأربح الأرض) لمحمد بنطلحة، (ألهو بهذا العمر) لوداد بنموسى، و(وصايا.. لا تُلزِم أحدًا) لمصطفى الشليح.

هنا لا بد من الإشارة لنقطتين: الأولى، أن ديوان وداد بنموسى كان الوحيد الذي اختاره أعضاء اللجنة الخمسة ضمن لائحتهم القصيرة. وهو ما يفسّر أن اللغط الذي أثير فيما بعد انطلق من هذا التفصيل بالذات. فالاتصالات التي تلقّاها رئيس اللجنة نبّهَتْه الى أنّ الساحة الشعرية تتوقّع تتويج بنطلحة والكلّ – مَن هو هذا الكلّ المزعوم؟ – يتحدّث عن “شاعرة توزّع الأموال لكي تفوز” وأن فوز هذه الشاعرة سيجعل اللجنة تبدو بمظهر اللجنة “المرتشية”. هكذا – ودرءًا لشبهة الارتشاء – سيكون من الأسلم للجنة غضُّ الطّرف عن هذه الشاعرة وديوانها.

النقطة الثانية هي أن ثلاثة شعراء من خمسة اقترحوا محمد بنطلحة – كنتُ أحدَهم – لكن أثناء المداولات كان ديوان بنطلحة الأقوى حضورًا في النقاش. تحدّث الشاعر مبارك وساط عن “الجملة الشعرية البنطلحية” مؤكّدا افتتانه بها لكنه أضاف انطباعا نقديا حول خشيته أحيانًا من طغيان تلك الوصفة العجيبة المُتقنة التي “يصنع” بها بنطلحة قصيدته على روح الشاعر، وهو ما انطلق منه أحمد عصيد – ابن الشعرية الأمازيغية الشفوية – ليبوح بأنه إذا كان عليه أن يختار بين الصنعة والشعر العفوي فهو سيميل بالتأكيد إلى لغة الشعر العفوية.

نقاشٌ عاديٌّ جدًّا، وطبيعيٌّ أيضًا. بل إنّ المداولات ما استُحدِثت أصلا إلا لتحتضن مثل هذا النقاش. لكن حينما وصَلَنا، ونحن نستعد للذهاب إلى لقائنا الثالث الحاسم، إيميل من وزارة الثقافة يتضمّن رسالةً من رئيس الجمعية التي طبعت ديوان بنطلحة في فاس يلتمس فيها – لاعتبارات موضوعية (؟) – سحْب الديوان، أُسقِط في أيدينا. وحينما اتّصل الشاعر مبارك وساط بحسن مخافي هاتفيا يسأله عما إذا كان له علمٌ بأسباب هذا السحب، أجابه مخافي غاضبا: “أنت يا وساط تتحمّل مسؤولية في هذا السحب. فبنطلحة يرفض أن يُهان”.

لكن من “أهان” بنطلحة؟ هذا السؤال واجهتُ به شخصيًّا حسن مخافي خلال اجتماع اللجنة ولم يُعقِّب. لكن الجواب الغاضب لمخافي على استفسار وسّاط كان بالنسبة لنا دليل إدانة لا غبار عليه. صار السيناريو واضحًا. الرجل نقل مداولاتنا لبنطلحة. نقل له ملاحظة وساط وتعقيب عصيد. بطريقته الخاصة. بأسلوبه الذي صرنا جميعا نشكّ في نزاهته. ولأن بنطلحة شاعر مرهف بالغ الحساسية فقد حصل ما حصل.

لنكن واضحين. لقد كان أداء الأستاذ حسن مخافي داخل اللجنة مثار استهجان. جميع أعضاء اللجنة استهجنوا أسلوبه في الانفراد بهم كلٌّ على حدة ليُقنعهم بضرورة أن تؤول الجائزة إلى بنطلحة. حُجج الرجل فاسدة ومنطقُه غير سليم. والمؤكّد أنه نجح في التشويش على بنطلحة داخل لجنة تضم شاعرَيْن يحبّانه وآخرَيْن يحترمانه حتى ولو لم يكونا من أصدقاء تجربته. يقول المثل إن الجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوّه. وأضيفُ أن الصديق الفاسد أخطر على المرء من خصمٍ نزيه. لهذا أشعر بالأسف لأن ديوانًا من أجمل ما أنتجه الشعر المغربي خلال العقد الأخير لم يتوَّج بجائزة المغرب للكتاب فقط لأن شخصًا غير مسؤول أبى إلا أن يزُجّ بصاحبه في مواقف عاش مترفّعًا عنها على الدوام.

وأخشى أنَّ ناشر بنطلحة بدوره قد ساهم في الإساءة للرجل وهو يفاجئ الوزارة بسحب الديوان ونحن في أوج المداولات. والطريف ما طفا على السطح مؤخّرًا من حديث عن جائزة عالمية للشعر يقدّمها الناشر ذاتُه في فاس فاز بها محمد بنطلحة. فهل السبب “الموضوعي” للسحب الذي تحدثت عنه رسالة الناشر هو أن هذا الأخير نذر جائزته العالمية لبنطلحة وخشي أن تشوّش عليها جائزة المغرب المحلية البسيطة؟ لست أدري؟ لكن على وزارة الثقافة أن تتابع الموضوع. صحيحٌ أننا لم نتعرّض لأيّ توجيه من طرف الوزارة. بل حتى تقريرُنا الذي حاولنا تركه في عهدتهم في ظرف مغلق بغاية تسليمه للمنسّق العام للجان الجائزة محمد الصغير جنجار رفضوا استلامه. هذا حيادٌ محمود. لكن الحياد سيصير سلبيًّا ما لم تُتابِع الوزارة الموضوع مع الناشر الذي تلاعب بنا جميعًا بسحبه ديوان محمد بنطلحة ونحن في غمرة المداولات، ومع عضو اللجنة الذي أشعل الحرائق داخل اللجنة وإذا به في الوقت الذي كنتُ أعتذر فيه لأصدقائي الصحافيين عن التعليق وكشف ملابسات ما حدث منتظرًا أن تُبادر الوزارة إلى نشر تقريرنا ليوجِّه النقاش الوجهة الصحيحة، كان هو يثرثر في كلّ نادٍ ويوزِّع التصريحات والتهم والمغالطات في الصحافة بكرم مشبوه من ذلك النوع الذي يتقنُه محترفو خلط الأوراق. فأحمد عصيد مثلا – حسب مخافي – “هو الذي طلب الرئاسة” حيث “اقترح نفسه فوافق عليه الأعضاء”، في حين أن الشاعرين مبارك وساط وإدريس بلامين يذكران دون شك أنّني من ورّط عصيد في الرئاسة فوافق. لا أقدّم هذه الشهادة دفاعًا عن عصيد، ولكنني بكلّ صدق ما زلت عاجزًا عن استيعاب الجسارة التي يكذب بها حسن مخافي علينا ونحن بعدُ أحياء.

ومع ذلك، يبقى قرار الحجب مؤسفًا. بل صرت يومًا بعد يومٍ أقتنع بأننا ربما أخطأنا في اتّخاذه. لكن أريدُ فقط التأكيد على أن هشاشة الشعراء ساعتَها غلبَت. وإلّا، فلو وجد أخونا مخافي “بروفايلات” من عياره داخل اللجنة لحَسم أمر الجائزة منذ اليوم الأول. وهو ما رفضناه. وعموما هذه الجائزة لم تبدأ اليوم. كلّنا يعرف أنها كانت في زمن سابق تُفصِّل اللجان على مقاس الفائز المُصطفى سلفًا بشكل مسبق. كما أنّها مُنِحت أحيانا لكتّابٍ كبارٍ أنجزوا كتبًا صغيرةً في دور نشر سرّية لا توزِّع كتبها مما يمنع القارئ الفطن من اختبار قرارات هذه اللجان حينما يحاول ذلك. وكلنا يعرف كيف كان المريدُون يتقرّبون بها من شيوخهم، والطلبةُ من أساتذتهم. أحيانا كان أمرها يُحسَم منذ أول اجتماع حتى أن بعض أعضائها لم يكونوا يضيعون وقتهم في قراءة الكتب الصادرة. ولماذا يقرأون وهم يعرفون مسبقا أن الجائزة من نصيب الكاتب الفلاني بغضّ النظر عن قيمة كتابه؟ لذا فإن طرح حسن مخافي في بداية اجتماعنا الأول فكرة اعتبار مسار الشاعر وقيمته كمعيار كان – في رأيي – خرقًا سافرًا لمبدأ الجائزة الواضح منذ العنوان. فالجائزة تُمنح للكِتاب وليس للكاتب. لكتابٍ بعينه وليس لاسمٍ من الأسماء. وهناك جوائز تُمنح للشاعر على مساره كاملا مثل جائزة أركانة. كما يمكن إحداث جائزة تقديرية تمنحها الدولة سنويا للأدباء المغاربة تقديرًا لمسارهم وعن مجموع أعمالهم… لكن جائزة المغرب للكِتاب، يجب أن تبقى وفية لاسمها: جائزةً للكِتاب. للكِتاب وحده.

الحجب نقمةٌ ما في ذلك شكّ. أما النّعمة التي في طيِّها فهي ما نرجوه من تحصين للجائزة في المستقبل. نريد لمخافي ومن على شاكلته من محترفي الكوْلسَة أن يحسبوا لمناوراتهم ألف حساب. فالمزاج العام يرفض هذه السلوكات. ولَأَنْ نقلب الطاولة كما فعَلْنا أفضلُ بكثير من أن نَشْعَب ما لا يُشْعَب ونقدّم للشعر المغربي جائزة ملفّقة من بقايا زجاج مكسور.

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت