د محمد فخرالدين
ـ إلى جميع الراويات و الرواة
تقديم :
تلعب المرأة المغربية ا دورا مهما في رواية الحكايات الشعبية و الحفاظ عليها و خاصة ما يصنف في إطار ما يسمى بين أجناس الحكاية الشعبية بالحكايات العجيبة ، و هي لا تختص بذلك وحده بل تتعدى ذلك إلى الحفاظ على عدد من الخبرات التراثية و فنون القول الشعبي مثل الأحجيات و الألغاز و الأمثال والأغنيات الشعبية … ..
وإذا كان البحث عن الرواة من الرجال صعبا فهو أصعب بالنسبة للراويات فالبحث عنهن سيكون مثل البحث عن إبرة تحت كومة قش … لأنهن غالبا ما كن يمارسن الحكي لأبنائهن و أحفادهن في مجالس أسرية مغلقة و ضمن تقاليد و طقوس محددة هي الآن في حكم الانقراض ، و غالبا ما كانت تتكون مجالس الحكي عندهن من الأطفال و النساء و يمتنعن عن الحكي للغرباء ، و لأن عادة الحكي داخل الأسرة بدأت تتقلص يوما بعد يوم و حلت محلها متابعة المسلسلات و الانترنيت .. و لأن كبار السن من الرواة سوء كانوا نساء أو رجال يختطفهم الموت من بيننا قبل أن ننتبه لما يحملوه في صدورهم من كنوز علينا واجب الحفاظ عليها للأجيال المقبلة و دراستها دراسة علمية و توظيفها في أشكال فنية معاصرة ..
و الاهتمام بالراويات الشعبيات و تكريمهن لمساهمتهن في الحفاظ على هذا النوع من الرواية الشفهية و الحفاظ عليه باعتباره مكونا مهما من التراث الشعبي اللامادي ، يمكن أن يقدم عدة خدمات لأطفالنا وشبابنا ، منها أنه يحمل مادة مليئة بالقيم و الأخلاق الأصيلة التي يمكن أن توظف في عدة مجالات منها مجال كتابة أدب الأطفال .
وأهمية المرأة كراوية للحكاية الشعبية يتجلى في كونها تحافظ بحكاياتها تلك على الروابط الأسرية التي تجمع بين الأم و أطفالها و التي تعتمد على تمرير القيم إلى الأطفال في سن مبكر و غرس مبادئ الهوية و قيم الخير و العمل الصالح و إعدادهم ليكونوا فاعلين في مجتمعاتهم متعاونين فيما بينهم ومتضامنين …
يقول ذ عبد العزيز المسلم في مقدمة كتابه خراريف عن تأثير الراويات و دور خراريفهن في حماية الأطفال مستقبلا من مختلف الآفات الاجتماعية كالجشع و الغدر و الحقد و الظلم ..: ـ كانت ترسل لها تطعيمات مؤلمة في الصغر تستقر في أقصى الذاكرة و تساعد على التحصن من الاقتراب منها ـ ص 8
و غالبا ما تجمع الراوية الشعبية بين الحكاية و تربية الأطفال و تيسير جلب النوم لهم ، فسرد الرواية لا تكون إلا ليلا خوفا من مكروه يحصل للراوي و ذريته و هو أمر متعارف عليه عالميا ، فغالبا ما تحكي الراوية لأبنائها حكيا ينقلهم برفق في مدارج النوم تماما مثل تلك الترنيمات ، والهدهدات التي تنشد للرضيع ليستسلم للنوم قبل أن يتفهم معاني الكلمات ، لأن طقوس الحكي محددة سلفا و تكون بطلب و الحاج من المسرود لهم و في علاقة مباشرة معهم دون وسائط بحيث تسمع الراوية للمتلقين بالمشاركة في السرد بل في توجيهه و تصويبه في بعض الأحيان إذا ما نسيت الراوية تفصيلا من تفاصيل الحكي ، بل حتى في اختيار نوع الحكاية لان المتلقين قد يطلبون بعض الحكايات دون غيرها حسب حاجاتهم النفسية …
وتتوجه الراوية أساسا إلى عمق المخيلة لتنقلهم إلى عالم ساذج من الأحلام : تنقلهم بسردها العذب من بلاد إلى بلاد إلى بلاد.. فتتحكم في نبرات صوتها الذي يتدرج بدوره لينقل المتلقي إلى فضاء بعيد حيث لا حدود للحلم و التخييل ..
رواية النساء و رواية الرجال
يتميز سرد النساء عن سرد الرجال شكلا و مضمونا .. فبينما انصرف الرجال إلى حكايات السير والتاريخ و البطولة كانت مجالس الحكي التي تضم النساء و الأطفال مليئة بالحكايات المرموزة التي تعبر عن متخيلها و حاجاتها النفسية و الاجتماعية و بحثها عن مكانتها داخل المجتمع ..
لقد كانت المرأة ولازالت تمارس دور التنشئة الاجتماعية للطفل ابتداء من أغاني المهد التي تهدهد بها طفلها حتى النوم المريح أو تلهيته عن جوعه ، أو في تلك الحكايات الجميلة التي تسلي و تمتع و تعلم و تقوي الروابط الأسرية ، إلى الأمثال الشعبية التي توجه في الحياة ، إلى الألغاز التي تلهب ذكاء الطفل و تساعده على التفكير المجرد..
احتفل الأدب الشعبي بالمرأة، بل يمكن القول أنها احتفلت أكثر بنفسها من خلاله، لأنها هي الناطقة باسم الحكمة الشعبية ، و الممارسة للتربية الجماعية و المعبرة بواسطته عن همومها و آمالها الخاصة ..
و في الحكاية الشعبية طالبت المرأة بمجموعة من الحقوق في حكاياتها تلك ، أن يتم إنصافها من كل ظلم ، و أن تكون مساوية للرجل في ممارسة الشأن العام كما في حكاية الذكية بنت التاجر .. التي تعرض قصة امرأة متفوقة الذكاء، فهي وحدها التي تستطيع حل اللغز القائل :
ـ”ماذا يقول الماء في المرجل عندما يكون يغلي فوق نار من حطب؟”
و تقدم صورة امرأة عالمة بالأسرار و الألغاز ، فتجيب عندما تسأل عن عمل أبيها أنه ذهب يسقي الماء بالماء ، و عن أمها تقول أنها ذهبت تخلص الروح من الروح ..و عن أخيها تقول أنه ذهب إلى سوق الخسران ..
ثم تظهر قدراتها في الحكم و تفوقها في مجال القضاء والفصل بين الخصوم ببراعة..
لقد أعلت الراوية الشعبية كثيرا من شأن المرأة و أفردت لها جانبا مهما في نجاح الرجل ، كما في حكاية لولا المرأة لما نجح الرجل .. ..
فالمرأة عندما تردد أمام مسامع زوجها هذا الكلام يغضب و يطلقها ، لكنه يعترف بخطئه في النهاية عندما يفقد ماله و تكون هي سببا في اغتناء رجل آخر ..
و جعلتها الحكاية تتحكم في مصير الأحداث بالإيجاب أو بالسلب كما في حكاية : جرادة و عصفور حيث كان رأي المرأة سببا مباشرا في غنى الزوج في العديد من الحكايات ..
القدرات السردية للراوية الشعبية :
تمتلك راويات الحكاية الشعبية قدرات خاصة في فن السرد ، و هن لسن على نفس القدر من قوة الذاكرة وجودة الأداء ، و العثور على راويات لا زلن يحتفظن على السرود القديمة دون تغيير ومستعدات للحكي بعفوية يعتبر فرصة لا تعوض بالنسبة للباحث ..
لكنهن في الغالب يتمكن من الحفاظ على أصل الحكاية و بنيتها السردية الخاصة ، ابتداء من حرصهن على تقاليد الحكي من افتتاحية الحكاية التي تجلب المتلقين و تهيؤهم لتلقي الحكي و تطلب منهم الصلاة على الرسول صلى عليه و سلم ، و خاتمة للحكاية التي تجعل المتلقين ينفصلون عن عالم الخيال ويعودون إلى عالم الواقع .. و تمتلك الراوية قدرات خاصة على توظيف تقنيات الحكي بطريقة عفوية و تعتمد على تكرار الجمل السردية مما يضمن استمرار الحكاية و حفظها وعلى التحكم في طبقات صوتها حتى تنساب معه اللغة و مواقف الشخصيات بشكل تلقائي و عفوي ..
كما تعتمد الراوية على التشويق في تقديم الفضاءات ـ وجد دارا أخرى ودنيا أخرى ….و الانتقال الزماني و المكاني داخل الحكاية بنقل المتلقي و جعله يتتبع الحدث و كأنه مشارك فيه : ركب على حصانه و سار: هنا ما هنا …من بلاد إلى بلاد …ظهرت له غزالة ظل يطاردها يطاردها ..مثل اليوم مثل الغذ …إلى مغيب الشمس …حتى نزلت إلى بئر فنزل وراءها ….
ـ قدرات تشخيصية في نقل مواقف الشخصيات الحكائية من خلال التحكم في قوة الصوت و تنويعه حسب المواقف الدرامية و نقل الحوار بين الشخصيات بأسلوب بسيط و مشوق تقليدا لكلام الشخصية..
ـ التنويع الأسلوبي حيث تؤدي الراوية بعض المقاطع الغنائية مما يعطل السرد ، و تقدم بعض الأوصاف دون تطويل و بهدف نمو الأحداث و تحقق البرامج السردية ..
ـ استعمال تقنية الاسترجاع فتسترجع الشخصية من داخل الحكاية ، ما سردته الراوية من الأول بأسلوب بديع و هي تردد عبارة ـ أحكي لك ايها القنديل ـ
اما من الناحية السردية فقد اهتمت الراوية بالتحولات التي تكون في الحياة التحول من الفقر إلى الغنى و التحول من العقم إلى الإنجاب و التحول من الظلم إلى الإنصاف و جعلتها موضوعا لسرودها ..
مضامين السرود عند الراوية الشعبية
ومن جهة المحتويات قدمت الراوية تصورها لمختلف القضايا الاجتماعية أهمها الدعوة إلى الحفاظ على علاقات القرابة ـ الاعتناء بالمرأة اليتيمة ـ الابتعاد عن الحسد و الغيرة ـ عدم التمييز بين الأبناء .. لقد عبرت الراوية بواسطة قناة الحكاية عن صوت المرأة داخل المجتمع، و عبرت من خلالها عن كل أحلامها و كل القيم التي تريد ان توصلها الى أبنائها و بناتها ، لقد مارست من خلالها التربية و التنشئة الاجتماعية ، فلم يكن الغرض من الرواية هو التسلية فقط و إنما تلقين و تمرير عدد من القيم الأخلاقية و التربوية الضرورية لسلامة المجتمع …احترام الكبار ـ اجتناب الظلم ـ حكاية بديحة مثلا ـ احترام وصية الأب ـ اجتناب الكذب ـ الصبر ـ الإنصاف ـ أهمية البدء بالسلام و التحية : حيث الساحرة تقول في الحكاية للفتاة لو ما سلامك سبق كلامك كليت لحمك قبل عظامك …
كما عبرت الراوية من خلال نصوص الحكاية الشعبية عن مجموعة من المواضيع الخاصة التي تهمها في مجتمع كان لا يقدم لها كل ما تتطلع إليه ، فطالبت بإنصافها مما تتعرض له ..
و نجد موضوعين أساسين تعرضت لهما المرأة في حكاياتها الخاصة :
ـ موضوع الإنجاب فقد تناولته الراوية الشعبية في حكايتها بطريقتين : طريقة عجيبة حيث جعلت العقم يشفى بواسطة علاج سحري ـ فاكهة الرمان التي تشفي من العقم في حكاية بائع الرمان وزوجة المزارع …
ـ طريقة ساخرة بحيث جعلت الرجل الذي لا يعترف بما تتجشمه من آلام في الحمل ـ خاصة مرحلة الوحم ـ ينجب في الحكاية و يشعر بالألم الذي تشعر به ..
فان الرجل الذي أكل رمانة زوجته الشافية من العقم سينجب و يحس بألم الوضع و الإنجاب، بل جعلته المرأة يحس بالخجل وينجب في جحر معزول في الغابة ..
و قد تقع المرأة في الحكاية ضحية لكيد بنات جنسها اللواتي يسئن إليها بدافع الغيرة والحسد كما في حكاية الصوف حيث تعتدي المرأة على الأخرى بطريقة سحرية ولا يستطيع الزوج أن يتدخل ..يفهم ما حدث لزوجته و لا موقف أبنائه الصغار ..الذين عوضتهم الحكاية فقدانهم و حرمانهم من الأم بشجرة فيها كل الفواكه .. أو في حكاية البنت و عمتها بشجرة تخرج من قبر الأم ..
ـ موضوع اقتسام الطعام حيث اشتكت من الرجل الذي قد يستأثر بالطعام لنفسه، حكاية الزوج الذي يأكل اللحم بمفرده ، حيث يعمد الزوج إلى حيلة مجيئ الضيوف كل ليلة لينفرد بالأكل لوحده ، وعندما تسأل الأم الزوجة عن حالها تقول :
ـ “لا ينقصني شيئ لا اللحم لم أذقه منذ جئت الى هنا ”
و في نهاية الحكاية يقبل الرجل بعد تدخل من الأم و الجدة أن يقتسم اللحم مع زوجته ..
و قد تلجأ المرأة إلى الحيلة فتدعي أن القدر هي التي أكلت اللحم ، في حكاية القدرـ أو أن القطة هي الفاعلة في حكاية ـ الرجل و زوجته و القطة ـ أو أن الأرنب المطبوخة هي التي أكلت البطاطس ـ الرجل وزوجته و الأرنب .
جماية التخييل عند الراوية الشعبية
ورمزيا تقدم الراوية الشعبية عالما من الفضاءات و الصور الجميلة توضح غنى متخيلها الرمزي وتعبيرها عن هذه العوالم التي تأسر خيال المتلقي و توفر له البهجة و الدهشة معا .. فتتخذ صورة الشجرة التي تعطي الحياة ، أو صورة الشجرة الأم التي توفر الطعام أو توفر الحماية و المأوى للأطفال اليتامى .. و الشجرة التي تتحول الى ذهب و الحمامة التي تبيض جواهر و الجمل الذي لا يبرح مكانه و الساحرة التي تطالب بالسلام قبل الكلام و السمكة التي تعوض الفتاة اليتيمة عن أمها ..
و قد تظهر المرأة على صورة حمامة طائرة ترمز للجمال و الوفاء ، تأتي كل مرة إلى بيتها ـ القبة ـ الذي هجرته مرغمة لتسأل عن زوجها الغائب ـ كما نجد في حكاية رمان الحدأة :
ـ تغيرت حالتها وصارت حمامة و طارت ، …طارت ، صارت تأتي كلما خيم الليل، و فرغ المكان ..تأتي و تحط فوق بيتها و تقول :أيتها القبة البيضاء هل جاء سيدي أم لا زال ..
لقد أظهرت الراوية الشعبية تحكمها في البناء السردي لمروياتها و انفتحت في سرودها على آفاق جديدة من السرد و التخييل …كما أثبتت قدراتها التخييلية و الفنية في تلك العوالم و الشخوص والفضاءات و الكائنات التي اختارتها ..
أظهرت عاقبة كل الأعمال الشريرة و جسدتها في شخصيات تواجه الخير الذي جعلته ينتصر في النهاية و جعلت نهاية حكاياتها سعيدة يحصل من خلالها بطل او بطلة الحكاية على ماتريد و بذلك كانت الراوية تلعب دور حكيمة نفس ليس للفرد فقط و إنما للجماعة تطهرها من كل شر دفين و من كل قلق طارئ …
أجادت المرأة و بدلت جهودا كبيرة في رواية القصص الشعبية و الحفاظ عليها أجيال كثيرة ، فهل ستترك وسائل الإعلام الحديثة من هذه الوظيفة التي كانت للجدات و الأمهات شيئا للأجيال المقبلة …؟