وادي الحروب: جريمة الأبرياء

وادي الحروب: جريمة الأبرياء

- ‎فيفن و ثقافة
293
0

ابراهيم الفتاحي

 

حضر التلاميذ باكرا كعادتهم إلى المدرسة ذات أربعاء من عام سبعة وثمانين، لم يجدوا أي معلم في المدرسة القابعة على حافة وادي أغمات، فبدأت تكهناتهم بعدما تحلقوا جميعا وهم ينكتون من تأخر الأساتذة، ولكنهم جميعا يدعون الله ألا يأتوا أبدا، إذ لا فرحة توازي غياب المعلم عند الأطفال. بدأت الشمس تتربع على عرش السماء ولا أثر للمعلمين، وكانت حلقة الذكور الذين كنت بينهم قد جمعت كل التلاميذ، بينما توزعت الإناث على مجموعات صغيرة بعيدا عن الذكور، يشيحون بأبصارهم ذات اليمين وذات الشمال إلى الوادي على امتداده، ولكن أبصارنا الصغيرة الشاخصة كانت تتناوب على اتجاه مقدم المعلمين. عرف وادي أغمات، القادم من أعماق جبال الأطلس الكبير ليصب في وادي تانسيفت، الكثير من أحداث طفولتنا، من شجارات بين أطفال الدواوير ومخاطر الغرق والخوف إلى السباحة واللعب، لكن شركات المقالع قد غيرت من مورفولجيته اليوم، وحولته إلى مسخ جيولوجي، فقد طحنت ماكيناتهم الحجارة التي وثقت لطفولتنا ومعاركنا الضارية، لإقدامنا وإحجامنا، لخوفنا وحبورنا، وباعت حبات الرمل والحصى التي نحتنا عليها آثار أقدامنا الصغيرة، أقدام كانت لا تعرف من النعال غير البلاستيك من “حنيقزة” و”مخينزة” وغيرهما. لقد كان وادي أغمات البهي ركحا للعديد من أحداث طفولتنا المنسية، وحتى حينما كبرنا، وتجاوزنا عقلية المعارك والشجارات والنزاعات المسلحة بالحجارة والسلاسل والعصي بين الدواوير، استمر الصراع في كرة القدم، وكان خصمنا اللدود هو دوار “إيموتان” المجاور، وعادة ما كانوا يهزموننا لكونهم أبرع منا في هذه اللعبة، فقد كنا نحن أكثر اهتماما بالدراسة والعلم، بينما كانوا هم يغادرون المدارس مبكرا ويعملون في حقولهم، وكانت أجساد معظمهم صلبة قوية مقارنة بأجسادنا، لكن صداقاتنا اليوم بأبناء “إيموتان” أوثق بكثير من غيرهم، فهم متعقلون ناضجون وناجحون أيضا في أعمالهم. تحقق الرجاء ولم يحضر أي من المعلمين، ولم يفهم أحد سبب غيابهم حينها، إذ لم نكن بعد نعي معنى الإضراب ولا النقابات، وكنا نعتقد أن المعلم يفعل مايشاء، يحضر أو يغيب تبعا لهواه ولا يحاسبه أحد أو يراقبه، وبينما كنا بين الهمز واللمز والتنكيت والقهقهة، لمح أحدهم كلبا يمشي في الوادي بعيدا عن تجمعنا لما يقارب الكيلومتر، لم نسمع له نباحا ولم نر منه شرا، بل لم يأبه لوجودنا حتى، يسير إلى غايته في سلم وسلام، لكن الطفل الذي كان من زمرة كبارنا، إذ كانت أعمارنا بين السابعة والثالثة عشر، جيش الجميع ليهاجمو الكلب المسكين، وخطب فيه كالحجاج الثقفي ببضع جمل يحثهم على عدوهم، لأن العداوة للكلاب الغريبة كانت جزءا لا يتجزأ من تربيتنا. لم يكد الزعيم يكمل خطبته البتراء الوجيزة، حتى اندفع جيش عرمرم من الأطفال جريا، يتسلحون بحجارة الوادي، ولم يبق أحد منهم إلا واشتعلت عيناه غضبا وحقدا على كلب بريء مسكين. أحس الكلب باهتزاز حجارة الوادي بفعل أقدام فيلق المشاة الطفولي المقترب منه، ارتفع ذيله واستقامت أذنيه تحسسا للخطر المحذق، فالتفت مستعدا للهجوم، لكنه درس أرضية المعركة جيدا في برهة من الزمن، واتضح له أن ميزان القوى ليس في صالحه، فقرر التراجع والهرب مطلقا سيقانه للريح، لكن حجر أصابه من يد أحدهم ففقد توازنه، لكنه استجمع قواه لينفذ بحياته من عصابة المجرمين الأبرياء، فتهاطلت عليه الحجارة تباعا حتى خر صريعا. كنت أنظر إلى المسكين ذي اللون البني الفاقع والموت يغزو جسده، فهز رأسه المضرج بالدماء هزة خفيفة يصحبها أنين الجراحات كأنه يريد أن يسألنا بأي ذنب قتلناه، لكن حجرا ضخما هوى على رأسه منهيا حكاية حياته الكلبية التي لم نعرف عنها شيئا، فتجاوبت سيقانه مع نداء عزرائيل وانقبضت ثم تمددت مسلمة الأرواح السبعة لخالقها وسط وادي الحروب الطفولية. كانت جريمتنا شنعاء ضد كلب شارد لا حول له ولا قوة، ضد كائن كان يبحث في الوادي عن جيفة يسد بها رمقه كعادة الكلاب الضالة، ولم نكسب من قتله شيئا، سوى أننا روينا نزعتنا التخريبية، وأشبعنا إرهابنا الطفولي ضد الكلاب البريئة، وأثبتنا سوء تربيتنا تجاه الطبيعة التي نعيش فيها، رغم أن كثيرا منا يربي الكلاب والجراء في بيته، لكنها تربية بطعم العداء، فقد اكتشفت أننا لم نكن نربيها حبا فيها، وإنما استعبادا لأعدائنا فحسب. لم يكن أحد من الكبار يشنع على الأطفال ضرب الكلاب، فالكلب كلب فقط عندنا، ولا تستحق كلبيته سوى الإستعباد والضرب، وعبارة “توز!!!” تتبعه لسبب أو غير سبب، إذ كلبيته وحدها تكفي. حينما انتهت الجريمة ضد الكلب المسكين وسط الوادي، استيقظ ضمير أحد الأطفال فقال: “بماذا سنجيب الله إن سألنا غدا يوم القيامة عن هذا الكلب؟”، وكان سؤاله كفيلا بإيقاظ ضمائرنا التي ران عليها غبار الكراهية للكلاب، نظرنا إلى بعضنا بعضنا، وتملكنا الإحساس بالذنب جميعا، فبدأنا نطلب السماح من الله ونعتذر إليه من فعلتنا، وكان حريا بنا أن نعوذ بالله من تربيتنا الهمجية ضد الكائنات، فاجتمعت الجريمة بالعقاب في صبيحة واحدة، جريمة القتل العمد وعقاب تأنيب الضمير. مرت أيام وجثة الكلب تلفح أنوف بعضنا بنتانتها ونتذوق مم كسبت أيدينا التي جمعت بين الجريمة والبراءة، وتذكرنا بجسامة ما اقترفناه، حتى ذابت بين الحجارة، ومحت “حملة الوادي” بعد أسابيع آثار جريمة لم تمحها السنون من ذاكرتي…

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت