بقلم: عبداللّطيف الوراري
‘السنّة والإصلاح’ يقطع مع الماضي الّذي يستسلم للإجماع الكاذب والأدلّة المطمئنّة قطيعةً منهجيّةً.
1ـ الإصلاح في التّاريخ
برزت مقولة الإصلاح في خطاب الإسلام منذ أن تحوّلت المادة الفقهيّة في القرون السابقة إلى درجة كبيرة من التعقيد بسبب الجمود والتعصُّب المذهبي والعزوف عن الاجتهاد، وشغل الفقهاء أنفسهم بكتب المتأخرين مُعْرضين عن الكتاب والسنّة فضاعت أيّامهم في الشروح والمختصرات والنّقول والمباحث اللفظية الّتي تُعنى بالمسائل الشكلية دون إعمال العقل.وفي العصر الذي عرف بالنّهضة وما ترتّب عنه من بوادر حراك ثقافيّ، سوف يُطرح خطاب الإصلاح بشكل حيويّ وحادّ عبّر عنه توجّه فكريّ أوْلى أهمية للتراث العربي ـ الإسلامي بعد انقطاع دام حوالي ستة قرون من الإنحطاط، وقاده علماء تمثّلوا روحيّة الإصلاح في مصر والمشرق العربي والغرب الإسلامي أمثال جمال الدين الأفغاني والكواكبي والطهطاوي ومحمد عبده وعبدالحميد باديس وأبي شعيب الدكالي وغيرهم، وذلك من أجل أن يُجيبوا عن قضايا النّهضة والتقدم. وثبت أنّ تضافر شرطي الإصلاح والنهضة هو الذي مهّد للحداثة الغربية في جدلية التطور على كل الأصعدة، ولم يكن الإصلاح إلّا موقفاً ونظرة إلى الكون، وأشمل من أن يُرْبط بالإجتهاد العقدي أو المذهبي مثلما ساد عند كثيرٍ من علمائنا.
ومن ضمن مفكّرين آخرين أرّقهم سؤال الإصلاح في سياقاتٍ جديدة، لا يخلو خطاب المفكر المغربي عبد الله العروي من الايمان الراسخ بالحداثة كعقيدةٍ بذل لها جهداً نظريّاً ومعرفيّاً وجماليّاً منذ زمن “الإيديولوجيا العربيّة المعاصرة “، معتقداً بأنّ اللحاق بروح العصر، والانخراط فيما سمّاه “الأعمّ المتاح للبشرية جمعاء” يظلّ ضرورة تاريخيّة. يعود عبدالله العروي إلى موضوع الإصلاح الإشكالي داخل ثقافتنا في كتابه الجديد “السنّة والإصلاح”)المركز الثقافي العربي، 2008(، وإنْ كان من منظورٍ مُغايرٍ وشخصيّ لا يخلو من طرافة وجدّة.
2 ـ امرأة الخطاب وقصديّة الكاتب
كما في سابق أعماله مثل “أوراق” و”خواطر الصباح”، ينهج عبدالله العروي أسلوب الرّسائل، بحيث يعتمد في تناول القضايا المتشابكة من عمله ذي الطبيعة الفكرية على بنيةٍ خطابيّةٍ تتقصّد استراتيجيّة الإقناع والإفهام، عبر تبنّيه فنَّ الترسُّل كأداة ذريعيّة تفتح الوعي بالظّاهرة الدينيّة على مساحات مهمّة من التّداول تتجاوز الشّخصي إلى العامّ. وعلى نحوٍ ما، يريد الكاتب أن يتفادى النواقص المنهجية المتعلّقة بالدراسة التحليلية، وأن يعرض، بشكلٍ مباشرٍ، رؤيته الخاصّة للأشياء من دون إحالاتٍ، ولا سجال. فهو يُحاوِر مُراسلته السّائلة الأمربكيّة الّتي أرادها أن تكون امرأةً غير مسلمة بالفطرة، بل بالاختيار، كي تستطيع وضع شروطها، وتكون أقلّ انْخِداعاً بالكلمات مقارنةً بالرجال من جهة، ومن جهة أخرى ولكي يضمن للخطاب الّذي يُديره قدراً مهمّاً من المصداقيّة، يُظهرها امرأته منفصلةً عن الثقافة السائدة، في بلدها، بكل أحكامها القبليّة المناوئة للإسلام، بقدر انْفِصالها عن الثقافة الإسلامية التقليديّة أيضاً، أي تكون ذات تكوينٍ علميّ. وقد وضعت مثل هذه المعايير الّتي تقصّدها الكاتبُ المرأةَ في وضْع من يُنْصت ويتعلّم ولا يُجادل، ساعيةً إلى حقيقة يمكنها أن تعترف بها فعلاً، لا أن ترويها فحسب.
بعد التقديم الّذي كرّسه الكاتب رأساً للسّائلة الأميركية المتخصصة في البيولوجيا البحرية الّتي تتلقّى إجاباته عمّا يشغلها من قضايا دينيّة وثقافيّة معاصرة، ناصحاً إيّاها بقراءة القرآن أكثر من تلاوته حتّى تنغمس فيه، إذا أرادت أن تسلك إلى صفاء القلب والطمأنينة، وتكتشف العالم الرّوحاني والفيض الربّاني، ولافتاً إلى أنّها قد تجد صعوبة في تقبُّل التأويل التقليديّ المتوارث لكلام الله الّذي تكوّن على مدى قرون من الزّمن، وإن كان الأمر بلغاته الأخرى غير اللّسان العربي المبين، وكانت للغرب الّذي يدّعي حوار الحضارات حساسيّةً منه، يجد القرّاء أنفسهم متفاعلين مع أفق المرأة إن هي خياليّة أو حقيقيّة، ومتورّطين في البناء الشّذري للكتاب. ثمّ سرعان ما ينتقل عبدالله العروي، بلُغةٍ مقتصدةٍ وعارفةٍ لا تخلو من روح بنائها السّلسة، إلى عدد من القضايا المعرفيّة المتداخلة والخلافيّة بطابعها الإشكالي، التي شغلت كلّ تاريخ الفكر العربي الإسلامي منذ بدء الدّعوة وحتى الآن. قضايا التّوحيد، والوحي، وأصل السنّة وتكوّنها، وذهنيّة التقليد والاتباع، وعلم الكلام، والفلسفة، والسياسة، وتراجع العقل لصالح النقل، والشعوبية، والغزو الاستعماري والتّاريخانية. وبسبب من غلالة التّجريد الّتي تطال متتاليات الكتاب، يُصاب القارئ بالحيرة وهو يتلقّى تلك القضايا دفعةً واحدة من غير تنتظم، ظاهريّاً، في حبكة معيّنة يهتدي بها، لكنّ العنوان الرئيسي للعمل وعناوينه المقطعيّة المركّزة تضيء أبعاداً من تلك الحبكة الفالتة.
3 ـ كلّ شيء يبدأ مع إبراهيم
يتحدّث العروي عن إبراهيم الخليل الموحِّد والثّائر الّذي تحدّى الكواكب، وقطع مع الماضي، مقرّراً “أنّ إبراهيم هو الأصل والمنبع، إذ يجسد القوّة الحافظة.فهو بحقّ أب الجميع، أب آدم ونوح، أب موسى وعيسى ومحمد”، وأنّ رسول الإسلام إنّما سار على نفس منهج إبراهيم، وتضمّنت دعوته نفس المنطق الّذي يترسّم خطى إبراهيم وسنّته في محاولة الإصلاح، بما في ذلك حفاظه على العادات القائمة والمنسوبة إليه من الختان، والاحتفال بواقعة الذبح، وتقديس البيت، والتبرّك بماء البئر.ويتساءل الكاتب: “هل يتصور أن يكون النبي عرض على قومه، وهم أصحاب ذكر وحفظ، نسباً، مادياً وروحياً، غير الذي توارثوه جيلاً عن جيل منذ أقدم العصور؟ لو أقدم على ذلك أما كان ذلك أقوى حجة عليه؟”.لقد ظلّ العرب يتذكرون إبراهيم وجدّهم إسماعيل، وشاركهم الرسول حياة الذّاكرة أربعين سنة “قبل أن يتبرأ منهم ويعتزلهم”. ورغم الصدّ والسخرية الّتي جوبهت بها دعوته، فقد قاوم وثابر و«أحْيَى نداء جدّه إبراهيم». ومع الهجرة إلى المدينة بدأ التاريخ الفعلي لدعوة محمد بن عبدالله إلى الإسلام، فما إن حلَّ بها حتى دُفع دفعاً إلى ” تقمُّص دور موسى”، مكرّماً ومُبَجّلاً ومحاطاً بالأنصار والأتباع في “طاعة اللّه ورسوله”، قبل أن تُقام الدولة وتدخل “في دوّامة التاريخ”.
وبما أنّه كان للعرب تاريخٌ قبل الإسلام، نفهم بكيفيّة أفضل ما حدث في ظلّ الإسلام من سرعة الانتشار، والحذق السياسي عند الزعماء، والخبرة العسكرية عند القادة، ونباهة المتكلّمين القدامى، وتوأمة مكة وبيت المقدس، وانتقال مركز القرار مبكراً من المدينة إلى دمشق..إلخ.ويردف: “نلاحظ في هذا الباب استمرارية تشبه إلى حدّ كبير ما يلح عليه مؤرخو الثورة الفرنسية ودارسو روسيا البولشفية”. لقد تمّ للعرب، بعد انتظار طويل، ما وعد الربّ به جدّهم إبراهيم، فأقاموا مملكة شاسعة ظلّت تتوسّع لعدّة قرون، بعدما دعوا إلى الدين الحنيف تلك الشعوب التي بقيت إلى ذلك الحين عصيّة على الوثنية اليونانية ـ الرومانية، وحمل جميعها ذكريات ومصالح وطموحات خاصة.لكن نشأ عن الاستعلاء العربي حركة شعوبيّة، فكرية وسياسية مناوئة، طغت على كثير من المناظرات الأدبيّة والأخلاقيّة، وغذّت العديد من الفرق الضالّة إلى أن بدأ التراجع أمام الهجومات الصليبيّة نهاية القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، وسوف يحمل ذلك إلى القرآن تأويلات جديدة، تحرّرية أو سلفيّة.
4 ـ النبيّ ترجمان القرآن
يؤكّد العروي أنّ القرآن وحده يدلّنا على ما يريده الله منّا ولنا، وهو بهذا المعنى كلام الله. فهو لا يدعي أن الله يكلمه، ولا يدعي بنوَّته من الله، وإنما «يقول بتواضع: أنا اليتيم، أن الأمّيّ، في ظلام الليل وعزلة الخلاء، سمعتُ ما سمعت ورأيتُ ما رأيت، وها أنا أوافيكم بما رَسَخ في الوجدان بلغةٍ يفهمهما قومي». كلام متواضع، بشريّ، عاديّ، لكنه صادق. ولذلك السبب يفهمه قومُه. لكن ينصحنا أن لا أحد يقرأ القرآن كما يقرأ غيره من الكتب، يبدأ بمقدّمة وينتهي إلى خلاصة.وإذا صحّ أنّ الجميع يرتّله حسب ترتيب المصحف، فلا أحد يتأمّله على الطّريقة نفسها، بل لا أحد ينصح بذلك.ويرى أنّ هناك تأصيلاً من نوع آخر يراعي تسلسلاً أعمق من التّساسل الزمني، هو ذاك الذي يشهد على الصّدع والكشف، الانفتاح والانغلاق حيث يصدع فينا ما نقرأ، ويشيع مغزاه في الفؤاد.يأتي ذلك من تصوّره للقرآن في معناه العام ك” ترجيعة متجددة، متسارعة، متنامية لنغمة واحدة، ردة عنيفة على صدمة مروعة وكشف مذهل. الكشف عن إخفاق الإنسان.الصدمة من عقوق الإنسان وغروره.الردة على أنانية الإنسان وغروره”.
بهذا المعنى، لا تخرج ألوان الخطاب المستعملة في القرآن عن أنّها تذكّر الأنسان الكفور والعنيد في غفلته وكبريائه منذ قرون من نداء إيراهيم. ورغم أنّ الساعة غاشية تكاد تقرع الأسماع فإنّ الجمّ الغفير لا يزال لاهياً غافلاً، وحتّى الذين يحذّرون به غيرهم منذ عقود يقرأون الكتاب كما لو كان لغواً عابثاً صدّهم عن الذّكر المال أو اللذّة أو السّلطة أو النفوذ.أمّا النبيّ فإنّه وحده يعلم معناه الجليّ الواضح، ووحده التّرجمان والوسيلة بيننا وبين الله، فيما الصّحابة المقرّبون هم أولى من غيرهم لإبلاغنا هذه التوضيحات، حتّى جُعلت السنّة متعالية على الزّمن. لهذا يتعامل مع موضوع اشتغاله بمنطق يقول بأنّ ” المطلوب في آخر تحليل هو أن نقبل أخيراً، بعد التردد والتحفظ، أن نتعامل مع السنة على أساس ما هي لا على أساس ما تقرّر. وما هي هو رفْض عنيد للحدث”.
5 ـ سنّة وسنّة مضادة
يتمثّل تأصيل السنة فيما حدث بعد النبي الّذي أتمّ نعمته بدعوة النّاس إلى الإسلام، بعد أن وجدت نفسها في واقع تاريخيّ وهو ما كان يُعمل به في المدينة، وما لخّصه لاحقاً مالك بن أنس في كتابه “الموطَّأ ” من جهة، وفي واقع اجتماعيّ يتنفّذ فيه أشراف مكة المؤهّلون منذ البداية للفوز والغلبة من جهة ثانية، وفي نصّ واضح مؤكّد يعرّف نفسه بالدّين القيّم والأصيل من جهة تالية.يؤكّد العروي:” في هذا التّلازم بين التاريخ والمجتمع والنصّ تكمن قوّة السُّنّة الإسلامية، وربّما كلّ سنّة متواترة.” هكذا فرض أسياد مكّة فهمهم الخاصّ للنصّ، فجوابُ السنّة واحد لا يتغيّر بما في ذلك الأسئلة الإشكاليّة:لماذا الخلق، ولماذا الوحي؟ لماذا هذا الرّسول في هذا المكان وفي هذه اللّحظة؟ لماذا الوحي لهذا الشّعب وبهذه اللُّغة؟إلخ.كانوا يردّون المفارقات الّتي تُواجه المذهب السنّي إلى التّطْمين كأنّما هناك إلغاء الزّمن، عدوّ المتكلّمين والفلاسفة الّذين يحاولون التخلُّص منه.
لقد شهدت السنّة تكوُّناً مستمرّاً، في كلّ طوْرٍ من أطوارها تتأثّر بحادث، وتعمل آليّاً على طمسه. وهذا ما يُستخلص من وقائع فترة )يثرب(، الفتنة الكبرى، الثّورة العبّاسية، تفكُّك الخلافة، الهجمة الصّليبية، الغزو العثماني، الاستعمار الأوروبي، الاستيطان الصّهيوني..إلخ.وما يفسّر استمراريّة السنّة وتعمّقها المتزايد ثلاثة عوامل: الحفاظ على اللُّغة العربية وإن انْفصلت عن الخطاب اليوميّ، وحفاظ العرب على هويّتهم رغم اخْتِلاطهم بالعجم، واحتكار قريش لطبقة النُّخبة الّتي لم تذُبْ في جموع الموالي.
وكانت تتشكّل، بجانب سنّة السنّة، سنّة الشيعة باعتماد الطريقة نفسها الّتي سار عليها أهل الجماعة ولكن بتأويل مختلف، أمّا الخوارج فإنّ لا سنّة تُرْضيهم.وهكذا ما من سنّةٍ إلّا وتقع تحت هيمنة السنّة الأصل بدون أن تكون لها القدرة لتتحوّل إلى سنّةٍ مُضادّ، بديل.وحتّى الّتي استجدّت فيما بعد لم تُنْشئ ولو عبارةً جديدةً للسنّة، منذ نهاية القرن الخامس الهجري /الحادي عشر الميلادي على الأقلّ.يقول العروي:”تقول السنّة: تريدون معرفة ما مضى من حوادث؟لا تتعبوا أنفسكم.أنا أطلعكم على كلّ ذلك دفعةً واحدةً كما لو كنتم معاصرين لجميع أطواره.تريدون معرفة ما تخفيه الأيّام المقبلة؟أنا أبسطه بسطاً حتّى تروه رؤية العين.أركنوا إليّ واطمئنّوا، لا تقلقكم التقلّبات والثّورات، لا يزعجكم انحلالٌ ولا يرعبكم فواتٌ، كلّ ذلك توهُّمٌ وسراب”.
6 ـ تراجع العقل لصالح النّقل
بموازاة ذلك، كان يقوم رجال السنّة من أنصار التّقليد ودُعاة الاتّباع بعمليّة تشذيب وترتيب، ممّا نتج عنه أن غزت ذهنيّة التقليد والاتّباع كلّ مظاهر الحياة الفكريّة والسُّلوكية، ومانعت التّاريخ والتغيُّر حتّى يحافظ على الوضع المتعثّر من أن يصيبه إصلاح.لقد تراجع العقل، من هذه اللّحظة، لصالح النّقل ولم يسترجع حيويّته إلّا مع بوادر حركة النّهضة، مثلما تراجع الباطن لصالح الظّاهر، بعد أن غزا التصوُّف الطبقات الشّعبية الأمية، فأفرغت المفردات من مضمونها الفلسفي.
يمرّ الزّمن كما لو أنّ شيئاً لم يقع، أولم يكن يعنينا أو يغيّر مواقفنا من الكون والمجتمع والسياسة والأخلاق، وعلاقاتنا بالطّبيعة وبالجسد وبالأسرة وبالسُّلطة. وفي ظلّ ذلك، نعيش “جبريّة ضاغطة” حث تنحلُّ فكرة القدر القاهر في فكرة الربّ الواحد.فلا مجتمع بلا طبقات، ولا سلطة موزّعة، ولا حكم مشترك، أمّا الدّيمقراطية فإنّها عين الفوضى، والمساواة فتنة مقنّعة.
بهذا المعنى، يرى العروي أنّنا” نعيش التّيه والتّحريف)…(، ولا نزال نفكّر بفكر أجدادنا ظنّاً منّا أنّ أفقنا المعرفي محفوظٌ لا يتغيّر.وإذا كان من واجبنا أن نضع أنفسنا موضعهم حتّى نتفهّم أحكامهم ونستعيد موقفهم الحقيقي، فليس هناك ما يدعو إلى أن نُصادق على كلّ ما قالوه واستنتجوه، ولا أن نستعيد ما نُسِب إليهم بعد فترة من الهزائم والتقهقر”.
**
في خضمّ هذه القضايا الإشكاليّة الّتي يثيرها كتاب “السنّة والإصلاح”، يبدو عبدالله العروي هادئاً في تحليلها وإثارتها بشكْلٍ معرفيّ ومنهجيّ يقطع مع الماضي الّذي يستسلم للإجماع الكاذب والأدلّة المطمئنّة قطيعةً منهجيّةً، من منظور الفلسفة الّتي تفكّر عميقاً في الزّمن فيما هي تأخذ بالعلم التّجريبي، ومن منظور المنهج التّاريخاني الّذي ينقذ العلم والسياسة، لا من الدّين، بل من التأويل الذي فرضته السنّة كمؤسَّسة بشريّة، رسميّةً كانت أم لا، منظَّمةً كانت أم لا.من هنا، يخلص إلى القول بمصطلحات العلم المعاصر: “والسنّة، في أيّة لحظة من تكوُّنها، نيوـ سنّة، وهو ما لا تقول به أبداً.والسنّة، في أيّة لحظة من تاريخها، بوست ـ سنّة، وهو ما لا تعي به قطّ.”
ولا يرى الكاتب المغربيّ، الأكثر شهرةً وإثارةً للجدل بين مجايليه، نفسه فيلسوفاً ولا متكلّماً ولا حتّى مؤرّخاً أسير الواقعة، بل مفكّراً يحمل راية التاريخانيّة في وقْتٍ لم يعد أحد يقبل إضافة اسمه إلى هذه المدرسة الفكريّة لكثرة ما فُنِّدت وسُفِّهت، وذلك بدافع الواقعيّة والقناعة واكتشاف الواقع الاجتماعي الّذي لا يُدْرك حقّاً إلّا في منظور التّاريخ لأنّ ما يحرّك المجتمع، في نظره، ليس الحقّ بقدرما المنفعة.
عبداللّطيف الوراري
شاعر وكاتب من المغرب