حسب معلوماتي البسيطة، يفترض في كل فاعل سياسي أنيطت به مسؤولية إدارة الشأن العام، سيما إذا ما تم تقليده موقعا حساسا في مستوى رئاسة حكومة، أن يصبو إلى النجاح في مهامه وتأمين مستقبله السياسي، عبر الوفاء بالتزاماته والاستجابة لانتظارات الشعب. ولن يتأتى له ذلك عدا بتوفره على شخصية قوية، متزنة ومتوازنة، التحلي بقدر كبير من الحلم، الاتصاف بأسلوب لبق والتواصل بكلمات راقية، الإصغاء للآخرين باهتمام والتعامل مع الجميع دون تمييز، ممارسة صلاحياته باقتدار، مواجهة الانتقادات بحكمة والتسامي على الاستفزازات، بعيدا عن أجواء التشنج والغضب. فهل رئيس الحكومة السيد: عبد الإله بنكيران من هذه العينة؟
كان من الممكن أن يكون كذلك، لو أنه تخلص من قيود المؤامرة والمظلومية، واسترشد بقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “رحم الله امرئا أهدى إلي عيوبي”. ففي جلسة المساءلة الشهرية ليوم: 13 يناير 2015، وعلى نفس النهج، لم يتردد في تحريك جراب مصطلحاته، وإخراج مفردة “الناعقين” في وجه معارضيه، جاعلا منهم مجرد غربان، علما أن الغربان في قواميس اللغة العربية، جمع لكلمة غراب، وهو جنس من الطير، يطلق على أنواع كثيرة، منها: الأسود والأبقع… يتشاءم الناس من رؤيته وسماع نعيقه (صوته)، إلا أن السيد بنكيران أغفل أن الغراب يعتبر من أكثر فصائل الطيور والحيوانات ذكاء، حيث يتمكن من التعرف على وجوه البشر والتمييز بين الجيد منها والسيء، يملك مهارات عالية في تفكيك الأدوات وإعادة بنائها، وورد ذكره في القرآن الكريم في قصة ابني سيدنا آدم عليه السلام (قابيل وهابيل)، إذ قال سبحانه وتعالى في سورة المائدة الآية 31: ” فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه”.
فالسيد بنكيران، لم ير في الغربان إلا السمة القبيحة، باعتبار نعيقها صوتا مثيرا للشؤم والتشاؤم، وبدل أن يأتي صوته شجيا كتغريد كروان ساحر، جاء مضطربا يؤذي السمع ويبعث على الامتعاض، وهو يرد على ما بدا له هجوما ضد حكومته، عند مصارحته باستسلامها للفساد. وإن اعترف بعدم قدرتها على معالجة كافة القضايا المطروحة، فإنه رفض استرخاص ما تبذله من جهود، مدعيا أن الفساد هو من يحاربه. وأنه عندما قال جملته الشهيرة: “عفا الله عما سلف”، التي ما انفك معارضوه يؤاخذونه عليها، كان يقصد ملفات قديمة، ساهمت اليوم في تزويد الخزينة العامة بمبلغ 28 مليار درهم، متناسيا أن صفقة عمومية واحدة مشبوهة، قد تستنزف ما يوازي قيمتها أو أكثر، وله في فضيحة ملعب الأمير مولاي عبد الله وغيرها من قناطر وطرق أسطع الأمثلة. ومن تم توجه إلى عموم الشعب عبر الكاميرا “الشاعلة”، في حملة انتخابية مبطنة، مطالبا المغاربة بالاحتراس من “الناعقين”، الذين لن يجروهم عدا إلى تخريب البلاد وحماية المفسدين. لكن السيد: ادريس لشكر رئيس الفريق الاشتراكي والكاتب الأول لحزب “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” كان له رأي آخر بالتصدي له طالبا بأدب جم سحب وصف السيدات والسادة النواب المحترمين ب”الناعقين”. والغريب في الأمر، أنه لم يركب رأسه كالمعتاد، وسارع إلى الرد بكونه لا يقصد المساس بالنائبة (السيدة حسناء أبو زيد) ولا حزبها، وإنما المقصود جهة معلومة، ملمحا إلى عدوه اللدود السيد: حميد شباط الأمين العام لحزب الاستقلال، لأنه يرى فيه العفريت والتمساح والمشوش والناعق وكل الصفات الذميمة، منذ انسحابه من الائتلاف الحكومي والتسبب في تصدع النسخة الأولى من حكومته. ومما زاد في إثارة سخطه وفجر غضبه، أن الفريق النيابي ل”الاستقلال” قرر التغيب عن هذه الجلسة احتفاء برأس السنة الأمازيغية الجديدة، بعدما سبق له رفع مذكرة خاصة بتحويل يوم 13 يناير من كل سنة ميلادية، عيدا وطنيا ضمن لائحة العطل الرسمية بالمؤسسات العمومية، ومتخذا هذه الخطوة إلى حين تنزيل مضامين الدستور المتعلقة باللغة الأمازيغية.
يبدو أن الأمور اختلطت في ذهن الرجل، وبات عاجزا عن التمييز بين الواقع والخيال، يؤمن حد العمى أن حكومته عطاء من الخالق، وأن معارضيه باستكثارهم عليه هذه الهبة الربانية، إنما يعملون على منازعة الله وعدم الرضا بالقضاء والقدر. متناسيا أن المعارضة حالة صحية مؤسساتية، لا يمكن الاستغناء عنها في عملية الإصلاح، وأن أحد الباحثين يقول بأن الأغلبية والمعارضة قطبان: أحدهما موجب والآخر سالب، ضروريان للدفع بتيار التقدم والرخاء.
فالمغاربة الأحرار قدموا أرواحهم فداء للوطن ودحر المستعمر الغاشم، ناضلوا باستبسال، خبروا التعذيب والمعتقلات، ودفعوا الثمن باهظا من أجل الحرية والكرامة، للاستمتاع بأزهى فترات الديمقراطية دون قهر أو تسلط جديدين. وإذا كان سيادته إبان اصطفافه في المعارضة، لا يفوت فرصة دون التنديد بلجوء الحكومات المتعاقبة إلى القروض الربوية، فها هي حكومته تحطم كافة الأرقام القياسية في الاستدانة. ونفس الشخص الذي كان يتقوى بالحق في التظاهر والاحتجاج والإضراب والتشغيل، يأمر اليوم بقمع الحريات والاقتطاع من أجور المضرين، وينعت المعطلين بالمعتوهين ويخاطبهم بالقول إن الرزق عند الله وليس لدى حكومته، وأن من ظل ينادي بتكافؤ الفرص والشغل مقابل المباراة، أقدم على توظيفات مباشرة لعدد من المنتسبين إلى الأقاليم الصحراوية، فيما حوالي 26% من التوظيفات والتعيينات تمت بواسطة الزبونية والمحسوبية وضغط الأسر النافذة حسب المندوبية السامية، فضلا عن تبادل المصالح بين أحزاب الائتلاف في المناصب العليا.
اختلالات عميقة تعيشها معظم القطاعات، وعلى رأسها: التعليم، الصحة والعدل… بينما سعادة بنكيران يعتبر الكشف عنها مزايدات سياسوية، لأنه من هواة “العام زين”، وإن كان كثيرا ما يفصح عن معرفته التامة بالمفسدين واللصوص ومهربي المال العام والمتلاعبين بالصفقات العمومية… دون امتلاكه نفس الشجاعة التي ضرب بها القدرة الشرائية للبسطاء، للضرب على أيدي العابثين بثروات البلاد، وإحالة ملفات الفساد المالي خاصة تلك الواردة في تقارير المجلس الأعلى للحسابات، على القضاء دون تلكؤ أو انتقائية، وإصدار الأمر إلى السيد وزير العدل والحريات بمباشرة إجراء الأبحاث وتحريك المساطر القانونية… ثم أين نحن من إصلاح منظومة العدالة، الذي استنزفت ورشاته الكثير من الجهد والمال؟ من المؤسف حقا، أن يستمر غول الفساد طليقا يخرب البلاد، في غياب الرقابة الصارمة، الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، بينما تكمم أفواه الجائرين بالحق، وتكسر أقلام الصحافيين الصادقين، في انتظار انتفاضة المعارضة لدحض مزاعمه وإجباره على تشذيب عباراته.
وآمل ألا يكون الختام حنظلا، إذا ما تبث أن المرسوم الخاص بتمكين الأرامل من تعويضات مالية مباشرة، الذي اعتبره وصقور حزبه نصرا مبينا، طبلت وزمرت له مواقع إلكترونية مساندة وتلك الصحيفة الورقية “أخبار التجديد” التي أمست ناطقة باسمه، مجرد “نعيق” مثل الدعم المباشر للفقراء… فكفى من الفقاعات الإعلامية يرحمكم الله !
اسماعيل الحلوتي