– أصر على أن “دفتر العابر” كتاب شعري وليس رواية ولا مسرحية ولا سيرة ولا رحلة.
قالوا أن الشعر والأداء المسرحي يتنافسان في خضم هذا التمازج ليشكلا في النهاية حضورا مميزا لكليهما. حيث يكون العمل المسرحي وهاجسه الأول هو البعد الوجداني. وهذا ما دفع بالمخرج أيوب العياسي الى اقتباس مسرحية من ديوان ” دفتر العابر” للشاعر المراكشي ياسين عدنان.
مسرحية” العابر”، ترجم فيها الممثلون نصا مكتوبا إلى عرض تمثيلي على خشبة المسرح الوطني محمد الخامس بالرباط في افتتاح الموسم المسرحي، حضره جمهور نوعي، أكد أن المسرح الشعري ليس وليد حالة لغوية أو ايقاعية بحتة، بل هو أساسا وليد حالة شعورية ناتجة عن أحاسيس وتقلبات مزاجية بين الفرح والحزن والألم.
يشار إلى أنه سبق إعداد النص الشعري (في الطريق إلى عام 2000) لياسين عدنان للمسرح من طرف المخرجة الإيطالية لورا فيلياني سنة 2001 في عمل مونودرامي بإيطاليا، فيما اشتغلت الفنانة المغربية لطيفة أحرار سنة 2010 على ديوانه الشهير (رصيف القيامة) في عملها المسرحي المثير للجدل (كفر ناعوم).
مسرحية ” العابر” هل هي فعلا رؤية درامية وسفر بصري في ديوان ” دفتر العابر”؟
هي كتابة أخرى لنص العابر بطريقة مشهدية. مَسْرحةٌ لبعض مشاهد الديوان ونقلٌ لبعض الحالات الشعرية من الكتاب إلى الخشبة. طبعا هذه المسرحة ما كانت لتتحقق ما لم تكن للمخرج رؤية دراماتورجية انطلاقا منها انتقى أولاً المقاطع التي اشتغل عليها، وانطلاقا منها دائما أنجز كولاجه المسرحي لتلك المقاطع لكي يكتب انطلاقا من “دفتر العابر” نصه الخاص الذي شكل أرضية مسرحية “العابر”. طبعا حينما أقول نصه الخاص لا أعني أن المخرج أيوب العياسي قد تصرف في الديوان أو أضاف إليه، بل ظل وفيا للقصيدة نصا وحرفا، لكنه وبحرية كبيرة اختار من هذه القصيدة / الديوان مقاطع بعينها وأعاد نسجها وتوليفها بطريقته ووفق رؤيته الدرامية الخاصة.
مسرحية ” العابر” ، التي قدم عرضها ما قبل الأول بمسرح محمد الخامس بالرباط مؤخرا في إطار احتفالية افتتاح الموسم المسرحي في بلادنا تحكي السفر عبر ثلاثة مستويات، إلى أي حد يمكن أن تعكس المسرحية أسفارك الحقيقية؟ سفر الشاعر وسفر الإنسان؟
فعلا هناك ثلاثة مستويات للسفر. السفر الواقعي الذي يفتحنا على حركة الجسد في الجغرافيا. وهكذا يفتحنا السفر في المسرحية والديوان قبلها على محطات متعددة اختار منها أيوب العياسي في مسرحيته: غرناطة واشبيلية وألمونيكار وبرلين وفرانكفورت وبروكسل وباريس وبازل وشيكاغو وواشنطن. وهذه طبعا أسفار حقيقية وحتى الشخوص الذين تحدثت عنهم في الديوان في أغلبهم شخوص حقيقيون من لحم ودم، بعضهم مازالوا أصدقاء لي حتى الآن على الفايسبوك وهم سعداء بأنهم قد تحولوا إلى شخوص في مسرحية. ثم هناك السفر الشعري المجازي. سفر الروح والتحليق الحر في سماء الحلم. أما المستوى الثالث من السفر فهو السفر الافتراضي، ولقد حرص المخرج على استحضاره من خلال بعض الأيقونات الفايسبوكية التي وظّفتها سينوغرافيا العابر وحاولت استثمارها خلال العرض.
ديوان ” دفتر العابر” يزاوج بين الشعر والرواية وأدب الرحلة والسيرة الذاتية والقصة القصيرة، هل فعلا نجح ياسين عدنان في أجمع أصناف الأدب في هذه الرحلة الشعرية المسماة ” دفتر العابر”؟
لا يمكنك اليوم تخليص الشعر من شوائب النثر. بل إن الشعر صار يغتني بالنثر ويستثمر السرد وطرائقه لترسيخ شعريته. وعموما حينما كنت أشتغل على هذا الكتاب الشعري كنت أكتب شعرا طبعا. من داخل قصيدة النثر. لكن بحرية. وبانفتاح على باقي الأجناس ليس الأدبية وحدها، بل حتى على المسرح والسينما والتشكيل. لا يمكن للشعر أن يغادر عزلته اليوم إلا بالمزيد من الانفتاح على المسرح والسينما والتشكيل. واعتقد أنك بقدر ما تنفتح على الفنون الأخرى تنفتح بدورها عليك. لهذا مثلا أثار “رصيف القيامة” اهتمام كل من المخرجة الإيطالية لورا فيلياني والفنانة المغربية لطيفة أحرار. وأثار “دفتر العابر” اهتمام المخرج الصديق أيوب العياسي، لأن هناك عمقا دراميا وبناء مشهديا توفره نصوصي الشعرية يجعلها مؤهلة للانتقال السلس إلى خشبة المسرح.
تعددت المشاهد والصور في مسرحية ” العابر ” فهل تلاءمت هذه المشاهد المسرحية مع الصور التي تخيلها ياسين في صياغته الشعرية الأولية لهذا الديوان، بمعنى آخر هل عثر عدنان على ذاته في المسرحية؟
أنا شخص منفتح بطبيعتي. أحترم الإبداع وأقدس حرية المبدعين. مثلما أرفض أن يتدخل أحد ليُملي علي ما يجب أن أكتبه، لا أسمح لنفسي بأن أتدخل لمبدع في عمله حتى وهو يشتغل على نص لي، أو على هذا النص الذي كان نصي قبل أن يستلمه ليشتغل عليه. لقد انتابني هذا الإحساس المُلتبس أول مرة مع لطيفة أحرار في “كفرناعوم”. لطيفة تصرفت في النص بحرية كبيرة فاجأتني. لكنني مع ذلك أحببت لعبتها ولم أتدخل. قلت: هذا النص لم يعد نصي. نصي أنا هو الديوان الذي في الكتاب. أما ما تقدمه لطيفة على الخشبة فهو نصها الخاص وهي مسؤولة عنه. هكذا انخرطتُ في اللعبة بمحبة وافتتان وبتواطئ لذيذ. مع أيوب العياسي الأمر اختلف لأنه ظل وفيا للنص. لكن الكاتب لا يعثر بسهولة على نفسه في العمل الإبداعي الذي يقوم على نص له مهما حاول هذا العمل أن يكون وفيا لنصه. أبدا لا يعثر على نفسه بسهولة. وشخصيا كنت مستمتعا بالبحث عن بعض ظلالي خلال فصول المسرحية. وهي لعبة ممتعة في حد ذاتها، وتناسب شخصيتي أنا الذي افتتحتُ “دفتر العابر” بشذرة روني شار المضيئة: “الهدف الحق هو الدرب لا ما يُفضي إليه”.
قال المخرج المسرحي أيوب العياسي بأن ديوان ” دفتر العابر ” كتب بلغة حوارية وكأنه كتب خصيصا للمسرح، إذن هذا اتهام مبطن بأن ياسين كان يكتب هذا الديوان الشعري وهو متلبس بكتابة مسرحية في الوقت ذاته؟
هذه تهمة لا سبيل إلى دفعها. فأن يُلقَى القبض على قصيدتي متلبسة بخيانة الشعر مع المسرح أمر لا يزعجني على الإطلاق. وفي الإبداع أنا خائن محترف. أخون الشعر مع القصة والقصة مع المسرح. الأهم هو أن تكتب نصا يشبهك. روح النص تهمني أكثر مما يعنيني الشكل الشعري أو الأدبي. ومع ذلك أصر على أن “دفتر العابر” كتاب شعري وليس رواية ولا مسرحية ولا سيرة ولا رحلة.
بالمناسبة ، صرحت مؤخرا لوكالة المغرب العربي للأنباء بأن النص أبرز ذلك المبدع المقموع والمطارد من سلطة الرقابة والباحث عن الحرية من خلال السفر، لكن القارئ للديوان لا يجد هذه المفارقة؟
ملاحظتك دقيقة وأوافقك عليها. بدوري لم تخطر هذه المفارقة على بالي إلى أن شاهدت المسرحية. فأيوب فاجأني بشخصية المخبر. شخصية أساسية في مسرحيته تطارد الشاعر أينما حل وارتحل. ومن النص اجتزأ أيوب حوارات لم أفكر فيها قبل مشاهدة المسرحية باعتبارها احتجاجا على الرقابة. مثلا هذا المقطع: ( الشعراء تتعقبهم ظلالهم / الشعراء تتعقبهم رغم ظلمة الليل الظلال). إذن الحضور الطاغي لشخصية المخبر في المسرحية هو الذي أعطاني الإحساس بأن الشاعر في المسرحية في حالة نُشدان دائم للحرية من خلال السفر، وفي حالة هرب متواصل من الرقابة والحراسة اللصيقة والمطاردة. أقول في المسرحية، أما ديوان “دفتر العابر” فأنت قد قرأته وتعرف ألا مخبر هناك في الديوان. لكن في مسرحية أيوب العياسي هناك مخبر وبهلوان ونساء بينهن الرومانسية والغجرية والعرّافة وبائعة الهوى. وطبعا هذه رؤيته الدرامية الخاصة للديوان جعلته يستخرج من النص كل هؤلاء الشخوص إلى جانب “ياسين” الذي جسده في المسرحية ثلاثة ممثلين: شاعر حكيم حالم، وآخر متهتك، والثالث مجنون. وأنا كنت ضائعا طوال العرض بين الثلاثة، من موقع المتفرج طبعا.