مداخلة. في تجديد الفكر القومي العربي الضرورات والامكانات

مداخلة. في تجديد الفكر القومي العربي الضرورات والامكانات

- ‎فيفن و ثقافة
330
0

في البداية كل الشكر للاخوة في القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي لدعوتهم لي للمساهمة في ندوة فكرية هامة تناقش موضوعاً من أكثر موضوعات الفكر العربي حاجة للحوار والنقاش لا سيّما في الظرف الراهن.
وتكتسب ندوة “اليوم” “مقومات الفكر القومي العربي” الواقع والافاق” أهمية خاصة أيضاً بسبب مكان انعقادها وزمانها ومضمونها.
فالمكان هو دمشق مهد البعث ومركز انطلاقته الاولى، والتي كانت وستبقى، قلعة الدفاع عن الانتماء القومي العربي منذ عقود طويلة، إذ سبق الشعب العربي في سوريا، الاحزاب والحركات، في التأكيد على الهوية العربية والالتزام القومي، وواجه بسبب ذلك، وما زال يواجه، موجات متعددة من المؤامرات والحشود والحروب والفتن ليس آخرها ما تشهده سوريا اليوم والذي يستهدف اول ما يستهدف دورها القومي وموقعها العربي وموقفها الملتزم باهداف الأمة ناهيك عن استهداف دولتها وجيشها ووحدة مجتمعها التي كان الانتماء القومي لمكوناته اساس تكوينه ومصدر تماسكه.
أما الزمان فهو ايام تشرين التي تلاقت فيها فكرة التصحيح بما تعنيه من انفتاح ومراجعة دائمة للتجربة وتجاوز مستمر للاخطاء، وهي فكرة ضرورية اليوم اكثر من أي وقت مضى، مع فكرة التضامن العربي التي تنطلق اساساً من وحدة الأمة وهويتها ومصالحها ومصيرها، وهي الفكرة التي يسعى اعداء امتنا إلى تدميرها بكل الوسائل ، بما في ذلك استخدام اداة هذه التضامن، جامعة الدول العربية، للانقلاب على ميثاقها واهدافها وتحويلها إلى غطاء لتبرير العدوان على اقطار عربية، ولعزل اقطار أخرى كسوريا، وكأن من يقف وراء هذا العزل يريد معاقبة الشعب السوري على تمسكه بعروبته وبدوره القومي عبر استخدام الاطار الرسمي للعمل العربي المشترك للانقضاض عليها وكأنهم يقولون للسوريين، تريدون العروبة.. خذوا منها ما تواجهون، ومن هنا فان الاسقاط الحقيقي للمؤامرة على سوريا، ولاهدافها، يكون بالمزيد من التمسك بالعروبة والتزاماتها وبمهمة تصحيح مؤسسات العمل الرسمي العربي لتصبح اكثر انسجاماً من الارادة الشعبية العربية.
ثم إن مضمون هذه الندوة تكمن في اهمية الاقرار بحاجة العمل القومي العربي الدائمة، فكراً وممارسة إلى المراجعة الموضوعية والعلمية المتجاوزة للحظة الراهنة وانفعالاتها، وللمرحلة الحالية وتعقيداتها، فالفكر كما نعرف يوجه الممارسة ويحصنها من الشطط والانحراف والانزالاق في الوجهة الخاطئة، فيما الممارسة تغني الفكر وتطرح عليه التحديات الحقيقية التي ينبغي الاستجابة لها. مع التأكيد الدائم ان ما نشهده في حياتنا العربية انما يؤكد على سلامة توجهات الفكر القومي ومبادئه الرئيسية المتجاوزة لكل اشكال التفرقة والتشرذم والعصبيات، كما يؤكد في الوقت ذاته على اهمية تطوير اساليب العمل القومي وتجديد وسائله ومراجعة تجربته بنزاهة وموضوعية لا تبرير فيها من جهة، ولا تشهير فيها من جهة أخرى.
في تعريف مقتضب للفكر القومي العربي نقول انه ثمرة كل جهد فكري ينطلق من وحدة الأمة في الرؤية والتحليل ليسعى إلى تحقيق وحدة الأمة في الواقع، وبهذا المعنى هو الفكر الذي ينطلق من التركيز على الهوية الجامعة للعرب التي تنطوي بدورها على دعوة للوحدة ومشروع للنهوض.
بهذا التعريف البسيط للفكر القومي العربي، نحرر هذا الفكر من أن يقدم نفسه كفلسفة تسعى إلى الإجابة على الأسئلة المتعلقة بالوجود والكون والبدايات والنهايات، بل نحررّ هذا الفكر من “الايدولوجيا” أو “العقيدة الكلية” التي غالباً ما تقدم نظاماً فكرياً كاملاً يتطلب من الناس أما الإيمان به بكليته أو الخروج عنه.
ولعل هذا التعريف، على بساطته، يمنح الفكر القومي القدرة على تجديد ذاته، وتجاوز كل جمود عقائدي أو دوغمائي، لأنه فكر يهدف إلى تحقيق غاية محددة، هي وحدة الأمة ونهضتها، قد تتعدد سبل تحقيقها ووسائل الوصول إليها.
وليس المقصود بالتجديد هنا التغيير أو التبدل، فغاية الفكر القومي واحدة وواضحة وهي وحدة الأمة ونهضتها، بل المقصود هو القدرة على التعامل بوعي ونضج مع كل ما يحيط بالأمة من متغيرات.
* * * *
في ستينيات القرن الماضي، وفي غمرة السجالات والنقاشات والأسئلة التي أثارتها نكسة الانفصال المشؤوم (1961)، التي أرادت أن “تجعل التجزئة حقيقة وحقا” كنت اسمع دائماً شعارين جميلين، ولكنني لم أكن أسمع بأي محاولة جدية لتطبيقهما.
أول هذه الشعارين “ضرورة إعادة كتابة التاريخ العربي”، وهو مطلب مشروع وضروري، فلحركة التاريخ قوانينها من أدركها فهم الحاضر واستشرف المستقبل، وقرأت مقالات وكتباً عديدة تتحدث عن أهمية قراءة التاريخ، ولكنني نادراً ما قرأت مقالاً أو كتاباً، لرافعي هذا الشعار، يدخل مباشرة إلى حيّز القراءة الفعلية والجدية للتاريخ، طبعاً إذا استثنينا قلة وابرزهم دون شك استاذنا الكبير الراحل عبد العزيز الدوري.
وثاني هذين الشعارين كان يتحدث عن “أهمية الوضوح النظري”. للخروج من “الغيبية” التي وُصف بها الفكر القومي عموماً، وفكر البعث خصوصاً، فسادت بسبب هذا الشعار بلبلة فكرية باسم الوضوح، والتباسات منهجية تمت معالجتها يومها باعتماد ترجمات مبتسرة لفكر عالمي، جرى تطبيقها بشكل تعسفي على واقعنا وأدت إلى انشقاقات مدمرة، بل حتى إلى انهيار حركات قومية كبرى، وبات معظم القوميين بكل مدارسهم، كمن نسي مشيته الأولى، ولم يتقن مشيته الجديدة.
لقد استحضرت هذين الشعارين السليمين في منطلقاتهما، المرتبكين في تطبيقهما، لأنبه من خطورة الانسياق في الحديث عن أهمية تجديد الفكر القومي دون الشروع فعلياً بالحديث عن موضوعات هذا التجديد وسبل الوصول إليه، ودون توفير الضوابط التي تمنع استخدام غاية نبيلة هي التجديد لضرب فكرة سليمة هي الفكرة القومية.
* * * *
ولكي ندخل مباشرة في موضوع ندوتنا اليوم “تجديد الفكر القومي العربي” لا بد من التأكيد على أمور ثلاثة:
الأمر الأول هو أن للفكر القومي العربي، مدارس عدة ومفكرون كثر على امتداد قرن كامل، وربما أكثر، وبالتالي ينبغي أن تنطلق أي محاولة لتجديد الفكر القومي من إعادة دراسة كل جهد فكري متصل بالعمل القومي، سواء كان لأفراد أو لحركات أو لمراكز أبحاث ودراسات، وفحص سلامة هذا الجهد في ظل الوقائع التي هي في النهاية محك سلامة أي فكر وصحة أي منهج تحليلي.
في ضوء هذه الدراسة، التي ينبغي أن تكون محصنة من الأهواء والأغراض والحساسيات، يمكن أن نبدأ الخطوة الأولى في رحلة التجديد المطلوبة.
الأمر الثاني أن نتمسك وبحزم بالتأكيد على الوجهة الوحدوية والنهضوية للفكر القومي، الذي قلنا انه ليس فلسفة ولا إيديولوجية، بل تأكيد على هوية جامعة تنطوي على مشروع نهوض، وبالتالي أن نتعامل مع كل جهد فكري أو حتى سياسي يسعى من أجل وحدة الأمة ونهضتها بأنه أحد روافد الفكر القومي العربي. أيّاً كانت خلفياته العقائدية والإيديولوجية.
فالفكر الماركسي العربي والعروبي الساعي لوحدة الأمة ونهضتها هو جزء أساسي من هذا الفكر، وكذلك الفكر الإسلامي المتنور المتطلع إلى نهضة الأمة ووحدتها بعيداً عن كل أشكال التعصب والغلو والتحريض الطائفي والمذهبي ، والأمر ذاته ينطبق على أصحاب الفكر الليبرالي الوطني الذي يربط بوضوح بين الحرية كقيمة إنسانية سامية وبين الاستقلال الوطني والقومي وبين الوحدة والنهضة والعدالة والتقدم.
حتى فكر أصحاب الانتماء لدوائر إقليمية كالفرعونية والفينيقية، أو القومية السورية أو المغاربية أو مثيلاتها ، فيمكن أن ندرجهم ايضا في سياق الفكر القومي العربي في حال أنهم لم يقدموا فكرهم رافضا للانتماء العربي بل يعتبرون دائرة عملهم خطوة نحو الدائرة الأوسع.
الامر الثالث في اطار الحديث عن تجديد الفكر القومي العربي لا بد من التمييز بين منطلقات هذا الفكر التي تثبت التطورات سلامتها خصوصاً لجهة التأكيد على تجاوز كل الانقسامات التناحرية والعصبيات التفتيتية في اطار هوية عربية قومية جامعة، وبين الحاجة المستمرة لهذا الفكر، كما لأي فكر إلى المراجعة التي تغتني بالممارسة والتجربة، كما تسعى إلى مواكبة كل التطورات المحيطة والاستجابة للتحديات.
وفي هذا الاطار أيضاً اعتقد ان اول المهمات المطلوبة هو تحرير العقل العربي الذي هو شرط اساسي لتحرير الارادة العربية، وكلاهما ضروريان لتحرير الارض والموارد والطاقات.
ومن اجل تحرير العقل العربي، وهو اساس الفكر لكل الافراد والامم، لا بد من منظومة معرفية عربية تتفاعل مع المنظومات المعرفية في العالم لكن لا تستسلم لها أو تسقط في افرازاتها، بل منظومة تعيد اتصالنا بانتاج امتنا المعرفي والحضاري وتخرجنا من عقد النقص المستحكمة ببعض مثقفينا تجاه منظومات الآخرين، وهنا اقترح ان يكون احد موضوعات ندوات قادمة هو “المنظومة المعرفية العربية” وان يكون د. زياد حافظ امين عام المنتدى القومي العربي والموجود معنا اليوم، من المشاركين فيها.
في ضوء هذه الاستدراكات الثلاث البالغة الأهمية (والتي تخرج دعاة الفكر القومي العربي من دائرة السجال والتناحر وحتى التصادم مع أفكار عديدة أخرى قد لا تتطابق تماماً مع أفكارهم لكنها تتقاطع حينا، وتتكامل أحياناً، فتغذي بتقاطعها وتكاملها دوحة الفكر القومي العربي على اتساعها) ندخل أكثر للإضاءة على مداخل أراها ضرورية لتجديد الفكر القومي.
1- لا بد من الاهتمام بربط الفكر القومي العربي بالوقائع المعاشة أو الحقائق اليومية في حياة الأمة، فلا يبقى هذا الفكر أسير صوامع فكرية أو تأملات نظرية، بل يستند إلى أبحاث ميدانية ودراسات واقعية، وبالتالي فإن اهتماماً اكبر يجب أن يبذل لإحداث مراكز أبحاث، أو تطوير الموجود منها، بحيث تشكل مرشداً فعليا لتوجهات الفكر القومي ورؤاها، بل لتجديده في ضوء الواقع أولاً وأخيرا.
2- لا بد من الاهتمام بأبحاث ودراسات نقاشية عميقة للعلاقة المتوازنة بين الفكر القومي العربي والدين عموماً، والإسلام خصوصاً، فلا نندفع كردة فعل إلى التنكر للدين عموماً وللإسلام خصوصاً، بسبب ممارسات بعض التنظيمات أو الجماعات، وبالمقابل لا نندفع مجاملة أو مسايرة، أو ربما خوفاً، إلى الاستسلام لفكر هؤلاء والتبرير لممارساتهم.
إن في الفكر القومي العربي المعاصر، لا سيّما في مدارسه الكبرى كالبعث والناصرية، كما في أدبيات مفكريه الكبار، عناصر دقيقة للعلاقة بين العروبة والإسلام ينبغي استحضارها، والبناء عليها، والتأكيد على أن الإسلام يحصن العروبة من العنصرية والشوفينية، والعروبة توفر الفضاء الأمثل للإسلام للإفصاح عن فضائله الكبرى في التسامح مع اديان أخرى والانفتاح على حضارات أخرى والالتزام بالقيم الأخلاقية العليا كما تحصن الحركات الاسلامية من مثالب التمذهب والتعصب والانغلاق.
وفي استحضار العلاقة بين العروبة والإسلام، ينبغي تجاوز الحديث عن أكثرية وأقلية، ففي أمتنا (والكلام للعلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين) اكثريتان أولهما عربية فيها المسلم وغير المسلم، وثانيهما إسلامية فيها العربي وغير العربي، وبالتالي لا بد من التدقيق في المصطلحات والمفاهيم في ضوء تجربة الأمة الغنية حيث العروبة هي ضمانة المواطنة المتساوية لكل مكونات المجتمع وحيث ينبغي الابتعاد عن المصطلح السام الرائج: الأقليات بدلاً من الحديث عن جماعات أو اقوام أو حتى مكونات متنوعة.
3- لا بد من إعطاء المضمون الاقتصادي الاجتماعي للفكر القومي العربي حيّزاً كبيراً من الجهد الفكري المتصل بمشروع الوحدة والنهوض في الأمة، بل هنا نستطيع أن نجد مساحة واسعة للتجديد الفكري تقوم على مواكبة مجريات العصر وتطوراته الاقتصادية والاجتماعية وهي مجريات متسارعة على غير صعيد، كما تقوم هذه المساحة على مواكبة احتياجات مجتمعاتنا المتنامية في ضوء اقتصادٍ يتراجع فيه الإنتاج لصالح الريع بكل ما يحدثه ذلك من تشوهات اقتصادية واجتماعية نرى أثارها السلبية اليوم.
إن تجديد الفكر القومي العربي مرتبط إذن برؤية علمية ودقيقة للتنمية المستقلة، التي لا تكون تنمية ولا مستقلة إلا في ظل تكامل عربي أوسع، وكذلك للعدالة الاجتماعية التي لا تكون عدالة ولا اجتماعية إلا إذا ارتبط الفكر القومي، نظرياً وعملياً، بتوفير خطط لزيادة الإنتاج وتكافؤ الفرص.
وفي هذا المجال ينبغي أن يقوم تجديد الفكر القومي العربي على إيجاد حل عميق وغير تقليدي لإشكالية العلاقة بين الصراع الطبقي داخل المجتمع، وبين الصراع القومي مع أعداء الوطن، فلا نستسهل فكرة إسقاط طبقات بأسرها بذريعة الفرز الطبقي، ولا نستسلم لفكرة تحكم قلة غنية، أيّاً كان اسمها وصفتها، بمقدرات وطن وشعب وفئات كادحة منتجة.
4- من المآخذ الكبرى التي يأخذها البعض على الفكر القومي العربي انه فكر منتج للاستبداد ومبرر له ومدافع عنه، وان ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان غائبة تماماً عنه.
طبعاً أنا من الذين يعتقدون إن جميع الأفكار السائدة في امتنا والعالم حين دخلت حيّز التطبيق كانت تنتقل إلى ممارسة الاستبداد، سواء كانت دينية أو ماركسية أو حتى ليبرالية التي عرفت بشقها الرأسمالي الامبريالية استبداد شعوب أخرى عبر الاستعمار والامبريالية واستبداد شعوبها نفسها أيضاً باساليب متعددة.
لكنني اعتقد أيضاً أن سقوط حملة أفكار أخرى في الاستبداد، والأمثلة ماثلة أمامنا، لا يعفينا من صوغ معادلات فكرية بين حقوق المجتمع وحقوق الفرد، بين حرية الشعوب وحرية الإنسان، وبهذا لا يقدم الفكر القومي هنا حلاً لمعضلة عربية فحسب، بل ربما يقدم حلاً لمعضلة إنسانية كبرى حيث لا يجوز باسم مصلحة الأمة تجاهل حقوق المواطن، ولا باسم حرية المواطن الدوس على استقلال الوطن وسيادته وكرامته.
من الناحية الفكرية تنبه البعث، ابرز مدارس الفكر القومي لهذه المعضلة في دستوره عام 1947، كما تنبه جمال عبد الناصر عبر الربط بين حرية الوطن وحرية المواطن، وعبر العلاقة بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، وفي المنحى ذاته جاء تنبه المشروع النهضوي العربي المعاصر حين ربط الديمقراطية بالوحدة والاستقلال والتنمية والعدالة والتجدد الحضاري، مؤكداً على أن لا مقايضة لأحد هذه الأهداف بأي هدف آخر.
5- في تجربة الحركة القومية العربية المعاصرة، برزت إشكالية ألقت بظلالها على العمل القومي العربي بكل تعابيره وتجلياته، وهي العلاقة بين القومي والقطري، بحيث لا تطغى النظرة القومية الشاملة على الخصوصيات القطرية فتفقد صلتها بالواقع، ولا يتم تجاهل الأفق القومي للنضال الوطني داخل كل قطر، فيفقد هذا النضال إحدى أهم دعائمه ويتحول إلى إحدى مفردات التجزئة بدلاً من أن يكون احد ركائز تجاوزها.
الصلة بين القطري والقومي، هي صلة بين الحلم والواقع، فالحلم إذا فقد صلته بالواقع تحوّل إلى سحابة صيف سرعان ما تختفي، والواقع إذا لم يتحصن بالحلم يتحول إلى مستنقع تتآكل فيه كل الأجسام الحية أو تأكل بعضها بعضاً.
تطوير هذه الصلة وتعميقها وترجمتها إلى صيغ عمل واقعية هو احد سبل تجديد الفكر القومي العربي وأدواته، التي ينبغي أن تكون مادة دراسة ونقاش بين مفكرين وممارسين من مختلف منابت العمل القومي العربي وتجاربه لاستنباط الوسائل الضرورية لتجديد الفكر والعمل في آن.
6- يتفرع عن عضوية العلاقة بين القومي والقطري، ضرورة البحث في الصلة بين الفكر القومي العربي ومختلف المجموعات الاثنية التي يتكوّن منها الوطن العربي الكبير، فلا يكفي أن يبقى الخطاب القومي العربي منصباً على بيان التماثل بين أبناء الأمة وأقطارها وإبراز عناصر الهوية الواحدة من لغة وثقافة وتاريخ ومصالح مشتركة ومصير واحد فحسب، بل يجب أن يتوغل في فهم الهويات الفرعية وفي دراسة سبل بناء علاقة بينها وبين الهوية القومية الأوسع في إطار فهم خصوصية كل منها واحترام طرق حياتها وأصناف اختياراتها,
7- تجديد الفكر القومي العربي يحتاج أيضاً الى ربطه بما يجري حولنا في العالم كله، من متغيرات ومستجدات، من قوى صاعدة وقوى مأزومة، فلا يبقى الفكر القومي العربي مجموعة أفكار نظرية تصلح لكل زمان ومكان، بل كذلك أفكار متحركة مع تحرك الزمان وتفاعلاته مع المكان.
في تجربة الحركة القومية المعاصرة، لا يمكن فهم الفكر القومي العربي بمعزل عن دور العرب في صياغة حركة عدم الانحياز في خمسينات وستينيات القرن الماضي، وعلى دورهم في تشكيل فلسفة الحياد الايجابي والاستقلال عن المعسكرين الكبيرين آنذاك، وما كان ذلك ليتم لولا أن حركة التحرر العربية، ولا سيّما بحركتها القومية بجناحيها الناصري – والبعثي، قد تنبهت مبكراً إلى الأزمة البنيوية لقوى الاستعمار القديم (البريطاني – الفرنسي)، ولنمو نوع جديد من العلاقات الدولية يقوم على توازن دقيق بين اطرافها، وعلى اتساع حركة التحرر العالمية، بل على المساهمة العربية في هذا التوسع، وبالتالي سعت إلى صياغة جديدة لدور العرب في عالمهم المعاصر. وهي صياغة باتت احد ابرز ركائز الفكر القومي المعاصر…
تجديد الفكر القومي العربي اليوم يحتاج إلى وقفة مماثلة بعنوان “العرب والعالم” تحدد دوراً للعرب في تحرير العالم من منطق الهيمنة والتبعية في آن، لأن الهيمنة من الخارج لا تتحقق إلا بوجود ثقافة التبعية في الداخل، التي بدورها لا تتعزز إلا بوجود الهيمنة.
في إطار تجديد الفكر القومي العربي ببعده العالمي لا بد من أن يكون موضوع “العرب والعالم” موضع بحث ودراسة معمّقين على المستوى الفكري العربي، بل عنوانا لمراكز متخصصة في هذا المجال.
8- ما ينطبق على تطوير الفكر القومي العربي بما يتناسب مع تطورات الوضع العالمي، ينطبق بشكل أقوى على تطورات الوضع الإقليمي لا سيّما فيما يتعلق بعلاقة العرب بدول الجوار، وهي علاقة يجب أن تكون لها منطلقاتها الفكرية والسياسية المتحررة من أي اعتبارات وحساسيات راهنة من سياسات أو حكومات أو أشخاص.
وبقدر ما يرتبط الفكر القومي العربي بمشروع وحدة الأمة ونهضتها ينبغي أن يهتم أيضاً بتكامل دول الإقليم على قاعدة مثلث عربي – إيراني – تركي (بغض النظر عن اللحظة الراهنة وتعقيداتها) فمثل هذا المثلث هو مثلث الاستقلال والتنمية بكل ما في الكلمة من معنى، فهو يصون استقلال أركانه السياسي والاقتصادي والحضاري، كما يوفر قاعدة اقتصادية واسعة لتنمية مستقلة تجعل من هذا الإقليم منظومة كبرى من المنظومات القائمة حالياً في العالم.
طبعاً لهذا المثلث مقوماته الثقافية والحضارية والتاريخية المشتركة، وهي أمور قد تغني الفكر القومي وتوفر له أبعاداً متجددة.
كما أن التركيز على هذا المثلث لا يعني أبدا إغفال العلاقة مع دول الشرق والجنوب الأفريقي كأثيوبيا ودول القرن الأفريقي ودول الساحل والصحراء فكلها توفر عمقاً استراتيجياً وحضارياً للأمة العربية يشكل البحث في أسبابه ومقوماته عنصر تجديد حقيقي للفكر القومي العربي.
9- تجديد الفكر القومي العربي، كفكر ينطلق من وحدة الأمة ويسعى إلى تحقيقها، يحتاج أيضاً إلى تجديد ما يمكن تسميته بفكر الآليات والأدوات والبرامج الكفيلة لتحقيق أهداف المشروع النهضوي العربي.
وعلى الرغم من عمق الارتباط بين الفكر والممارسة في مسار الفكر السياسي، فهو في الفكر القومي العربي سمة رئيسية لهذا الفكر الذي لم يقدم نفسه يوما كفلسفة في الكون، أو كإيديولوجية في بناء نظام عقائدي محكم، بل كان للممارسة دور كبير في اغنائه وتطويره وتعميقه.
من هنا فان أبرز ما يحتاج اليه تجديد الفكر القومي العربي هو الانتقال من مرحلة “الإيديولوجية” إلى مرحلة “المشروع” الذي يمكن أن يتلاقى حوله حملة إيديولوجيات متعددة، ومن مرحلة الشعار الصارخ إلى مرحلة البرنامج التفصيلي، فربما نختلف على الشعار الذي غالباً ما تتحكم بجماليته الصياغة اللفظية أو أحياناً القافية الشعرية، ولكننا قد نتفق على البرنامج التفصيلي أيّاً كانت خلفية طارحه.
وفي الإطار ذاته فان تجدد الفكر القومي العربي مربوط بصياغة هذا المشروع النهضوي العربي، وببرامج العمل التفصيلية المتصلة به سواء على مستوى المراحل أو داخل كل قطر.
فالوحدة العربية مثلاً تحتاج اليوم من الفكر القومي العربي إلى ما هو أكثر من الحديث عن أهميتها وتعداد حسناتها وايجابياتها ، والدعوة إلى تحقيقها، ، بل المطلوب من الفكر القومي العربي أيضاً أن يحدد مراحل تحقيق الوحدة وأشكال تطبيقها، والمبادرات التدرجية المطلوبة لتحقيق التكامل القومي (كالسوق العربية المشتركة، وسكة حديد عربية واحدة، وإلغاء التأشيرات وبناء التكلات الإقليمية وصولاً إلى الإعلان عن اتحاد بين قطرين أو أكثر تتوفر لديهما شروط إقامة صيغة عمل وحدوية بينهما).
الوحدة العربية أيضاً تتطلب من أهل الفكر القومي العربي الانكباب على دراسة أدوات تحقيقها ودراسة تجارب الأحزاب الوحدوية وأسباب تعثرها، كما دراسات كل أشكال الاتحادات النقابية والجمعيات العربية المتخصصة والمؤتمرات الجامعة وتحديد عناصر القوة في كل منها كما عناصر الضعف.
وتجديد الفكر القومي العربي مرتبط بشكل خاص بتوفير مشاركة شبابية أوسع في كل صيغ البحث والفكر القومي، وصولاً بالطبع إلى صيغ العمل القومي التي لا تقوم أساساً إلا على الشباب بحيويتهم واندفاعهم المتكاملين مع حكمة الشيوخ وخبرتهم.
فالتراكم هو احد شروط التجديد الفكري عموماً، والفكر القومي خصوصاً، لأن هذا الفكر، بكونه فكراً جامعاً ينبغي أن يكون جامعاً للأجيال والمراحل، كما للتيارات والجماعات .
تجديد الفكر القومي العربي مرتبط أيضاً بتطوير الصياغات النظرية والعملية لمشاركة المرأة العربية في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بل أن في الاهتمام بدور المرأة نزج بطاقات كبرى في عملية التنمية والتطوير، وفي إبعاد شبح التخلّف والتزمت عن بعض شرائحنا الاجتماعية.
وتجديد الفكر القومي العربي يحتاج كذلك إلى الاهتمام بالمنظومة التربوية العربية. منهاجاً واعداداً ومدرسة ومعلماً، بل يجذرها القائم في البيت والمجتمع، بما يجعلها منظومة تحافظ على الجذور وتواكب روح العصر، وتنمي الفكر النقدي عند الطالب.
10- لقد كتب على امتنا ان تقاوم على مدى قرون غزوات واحتلالات ومؤامرات وكانت في مقاومتها هذه تترجم انتماءها القومي افضل ترجمة، إذ تتداعى اقطار الأمة جميعها إلى القطر الجريح أو المكلوم لتعينه على مقاومة المستعمر الظالم، حتى جاء انشاء الكيان الصهيوني في فلسطين، ومحاولاته الامتداد إلى خارجه، بجيوشه أو مشاريعه، ليكون، كما بات معروفاً حاجزاً في وجه الوحدة العربية بين مشرق الوطن ومغربه، ولضرب فكرة الهوية العربية الجامعة لصالح استثارة كل انواع الهويات الغريبة والعصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية لاقامة كيانات على شاكلة الكيان الغاصب لكنها تدور في فلكه.
فاذا كان الفكر القومي العربي هو القاعدة الرئيسية لانطلاق فكرة المقاومة العربية الواحدة، فان أي تجديد لهذا الفكر يجب ان ينطلق من ربط الأمة بفكرة المقاومة وثقافتها ونهجها، واغناء المقاومة بكل ما تحتاج من زاد فكري وعمق استراتيجي يمكنها من الانتصار على اعدائها، وتعزيز وحدة الأمة حولها لأن انتصار المقاومة مرتبط بوحدة الأمة من حولها أولاً وأخيراً. كما ان ثقافة المقاومة هي واحدة من ابرز ركائز الفكر القومي العربي
* * * *
بالتأكيد، هناك مجالات أخرى لتجديد الفكر القومي العربي سيكون النقاش مفتوحاً للتطرق إليها، ولكن يبقى أن الشرط الأساسي لتجديد أي فكر أو مؤسسة يبقى في الإقرار المستمر بالحاجة إلى التجديد وفي الإقلاع عن التفكير إن ما وصلنا إليه من فكر او عمل هو نهاية المطاف.
وفي الختام، هناك خطران يتهددان الفكر القومي العربي اليوم في آن، وهما خطر الجمود الذي لا يعترف بالوقائع والتطورات، وخطر الشيطنة، شيطنة الأفكار والأدوات والرموز المدافعين عن العروبة كهوية جامعة للأمة، وعن التقدم كشرط لمواكبة العصر، والهدف من هذه الشيطنة ان يصبح الفكر القومي الوحدوي خارج التداول، فيتم الانقضاض على مجتمعاتنا ودولنا ومؤسساتنا لتفتيتها وتمزيقها في غياب الرابط الجامع.

معن بشور

دمشق في 27/10/2014

ندوة مقومات الفكر القومي العربي

الواقع والافاق

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت