كفى استهزاء بأطفالنا في المدرسة العمومية !

كفى استهزاء بأطفالنا في المدرسة العمومية !

- ‎فيرأي
252
0

اسماعيل الحلوتي

في الوقت الذي تتسارع الأحداث، ويحتدم النقاش حول إيجاد السبل الكفيلة بإنقاذ منظومتنا التعليمية، مما وصلت إليه من تقهقر فاق كل التوقعات، ولم يكن أحد حتى من كبار المتشائمين يتكهن ببلوغه. وبينما وزارة التربية الوطنية والمجلس الأعلى للتربية والتكوين، يسابقان الزمن بحثا عن أنجع الوسائل الممكنة للخروج من الوضع المتأزم وتجاوز المعضلة القائمة، يأبى بعض المحسوبين على القطاع، الفارغة قلوبهم من روح الوطنية الصادقة، الفاقدين لأي إحساس بالمسؤولية والمفتقدين لأبسط الشروط الإنسانية، إلا أن يتفننوا في الإساءة إلى قدسية الرسالة التربوية الملقاة على عاتقهم، ونكء جراح أهلها من الشرفاء المخلصين وإحباط الأسر المغربية، التي تتطلع بشوق كبير إلى غد مشرق لفلذات أكبادها…
فما كنت أتصور إطلاقا، قدوم يوم تبلغ فيه الدناءة والاستهتار مداهما، ببعض من ائتمنتهم هذه الأسر والدولة على تربية وتعليم أطفال في عمر الزهور، تشع عيونهم بالبراءة وتخفق أفئدتهم بشغف التعلم والرغبة في الاكتشاف، إلى الحد الذي يبيح فيه “مدرس” لنفسه انتهاك براءة تلميذته بالقسم الأول ابتدائي على ما يبدو، من خلال تصويرها في شريط فيديو، تداولته العديد من المواقع الإلكترونية والاجتماعية عبر الشبكة العنكبوتية، مما أثار غضبا واسعا في صفوف المواطنين ووصلت أصداؤه إلى البرلمان. فالشريط / الفضيحة، يظهر طفلة تحملق بعينين زائغتين، وكأنها تستعطف مدرسها بأن يرثي لحالها، ويخرجها من المأزق الذي وضعها فيه أمام أقرانها، بيد أنه تمادى في تسلطه وغيه منتشيا بعدم قدرتها على رسم رقم “5” في السبورة بشكل سليم. ذلك أنه بدل التدخل بحس تربوي هادف والأخذ بيدها لمغالبة تعثرها، ودفعها نحو انطلاقة صحيحة تزرع في نفسها بذور الأمل، استمر للأسف الشديد في التشهير بضعفها وهو يأمرها بمواصلة خربشاتها: “زيدي أبنتي… الرضا” ويلتفت إلى زملائها ” شفتو كيفاش تاتكتب خمسة؟” ثم يخاطبها من جديد: “كملي أبنتي مازال ماسالتيش.. كملي” ووسط تعالي ضحك التلاميذ، يصر على المزيد من اضطهادها بلا رحمة: “زيدي أبنتي، طلعي شوية، هادو دروج؟ …هادي خمسة ولا خنشة؟ خنشة ديال الفاخر.. تاتضحكي.. ويلي ويلي على الزين.. هاداك راه سلك معوج” ترى من أين يتسلل مثل هؤلاء إلى حقل التربية والتعليم؟ وأين نحن من قول أمير الشعراء:
قم للمعلم وفه التبجيلا،،،،،،، كاد المعلم أن يكون رسولا
في اعتقادي المتواضع، أن المدرسة لم تكن يوما فضاء لصنع الفرجة المذلة للإنسان والحاطة من كرامته، ولا كانت مصنعا تافها لإنتاج أشرطة فيديو تثير الاستياء والامتعاض، بل هي مشتل لاستنبات العقول النيرة، لما تلعبه من أدوار طلائعية في حياة الأطفال ومؤازرة أسرهم على حسن إعدادهم للمستقبل، عبر مجموعة من التعلمات والخبرات والمعارف، التي من شأنها تنمية شخصياتهم وتطوير مهاراتهم وصقل مواهبهم، تصحيح أخطائهم وتعزيز مكتسباتهم في أجواء تربوية طبيعية، تساهم في تأهيلهم إلى ولوج معترك الحياة مسلحين بعتاد العلم والمعرفة. وتجسد مجتمعا مصغرا خال من الشوائب والتشاحن، وتحرص على ضمان تكافؤ الفرص وترسيخ القيم الإنسانية في الأذهان، تكريس أسس الديمقراطية، والتربية على حب الوطن واحترام حقوق الإنسان…
وليس عيبا أن يخطئ تلميذ عند مراحله الأولى من التعلم في النطق بكلمة أو يعجز عن كتابة حرف أو رقم، مادام الخطأ يعتبر من بين مكونات الفعل البيداغوجي، الذي يتعين على المدرس حسن استثماره في الاتجاه الصحيح، بما يفيد الناشئة في تخطي ما يعترض مسيرتها الدراسية من تعثرات، ومساعدتها في الاهتداء إلى طرق الصواب، وإنما العيب في أن يستغله ضعاف النفوس وإن على قلتهم، في تجريح تلامذتهم وتعريضهم للسخرية، مما قد يولد في نفوسهم براكين من الغضب ويؤدي بهم إلى الهدر المدرسي، فضلا عما يتسبب لهم فيه من عقد نفسية مزمنة وهي الدرجة الأخطر. وأكيد أن من يقدم على هكذا سلوك حيال تلامذته، غالبا ما يكون شخصا غير سوي، تلقى في صغره تربية سلبية أثرت على تشكيل شخصيته، دون القدرة على التخلص من رواسب الماضي، وبوعي أو بدونه يعيد إنتاج معاناته بنقل الأذى إلى أبنائه وتلامذته. على كل حال، ومهما كانت الظروف والمبررات، فلا ينبغي بأي حق الإفلات من العقاب، وربط المسؤولية بالمحاسبة وفق المنصوص عليه دستوريا، حتى نتحاشى المزيد من الاستخفاف والتهاون في أداء الواجب…
أطفالنا في حاجة ماسة إلى إشباع حاجياتهم ورغباتهم الضرورية، وتحريرهم من هواجس الخوف والقلق، بشكل يضمن لهم نموا طبيعيا واكتساب شخصية قوية. وباعتبار المدرس حجر الزاوية في العملية التعليمية – التعلمية، فإنه في ضوء المستجدات التربوية الحديثة والتطور العلمي والتكنولوجي، مطالب بمواكبة المتغيرات والتحولات العميقة، لتجديد طاقاته وتطوير معارفه وتحسين أدائه المهني، من خلال اقتراح آليات التبسيط والإرشاد، والعمل على تحضير الفضاء الأنسب للتحصيل، مستعينا في ذلك بالمتوفر لديه من التراكمات ووسائل الإيضاح ومختلف طرائق التدريس والتواصل، أن يحاول تكوين مجموعات عمل متجانسة تتفاعل فيما بينها، وأن يكون مجندا لمواجهة المفاجآت، ويملك تصورا احتماليا لكيفية تدبير وضعيات التعثر لدى المتأخرين دراسيا لسبب ما، لأنه ملزم بالتقويم المستمر والسهر على تجاوز المعيقات باستحضار الواجب المهني، أما وأن يلجأ إلى استغلال صعوبات المتعلم وتعميق آلامه، للنيل من إنسانيته وجعله عرضة للسخرية، فذلك ما يعد إخلالا بالمسؤولية التربوية والأخلاقية، يضر بشرف المهنة ويتنافى مع أبسط حقوق الطفل، ثم كيف لمثل ما أقدم عليه مدرس الفيديو من فعل شنيع، أن يساهم في إعادة بناء الثقة والمصداقية للمدرسة الوطنية ومد الجسور بينها والأسرة المغربية؟
الفيديو المشؤوم أساء إلى المنظومة التعليمية وكافة أطرها التربوية، وأضر كثيرا بنفسية الطفلة البريئة وبأسرتها، مما يستدعي التعجيل بعرض حالتها على طبيب أخصائي لمعالجتها، ويبقى المتضرر الأكبر من هذا الحدث غير المحسوب العواقب الوخيمة هو صاحبه، لأنه كشف عن اضطراباته النفسية ومدى عجزه في التصدي للصعوبات الحاصلة لدى تلميذته، إذ لو كان مقتدرا ومتمكنا من مهامه إلى جانب ولوعه بتصوير الأشرطة “الوثائقية”، لكان أبان عن مؤهلاته في معالجة المشكل بالطرق التربوية السليمة، ونشره بين العموم دون إظهار ملامح التلميذة لتعميم الفائدة، لكن الأصح من ذلك، هو عدم التغاضي عن هذه الفضيحة الشنعاء، واتخاذ ما يلزم من إجراءات قانونية في حق الجاني، حتى يكون عبرة لمختلف العابثين بمستقبل أطفالنا..
علينا في إطار الإصلاح المرتقب، تطهير القطاع من الشواذ، الانكباب على إعداد مدرس كفء، والارتقاء بأوضاعه المادية والاجتماعية، ليساهم بحكمة في تذليل الصعاب أمام المتعلمين، ويقودهم باقتدار إلى تأسيس تعلمات جديدة وابتكار معارف حديثة، تضمن تحبيب العملية التعليمية وتمرير مضامينها بيسر. ويتوجب العناية بأطفالنا وحماية حقوقهم، الوعي التام بأهمية العنصر البشري كرأسمال لامادي، وما يشكله من ثروة وطنية هائلة، تقتضي حسن استثمارها في رفع تحديات العصر، واكتساب الخبرات القمينة بامتلاك مقومات التنافسية، وإنشاء مجتمع قادر على الالتحاق بالدول الصاعدة…

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت