بقلم جان فرانسوا كليمان
دراسة عن ديوان الكوغر الغاضب نشرت ضمن مواد كتاب: برينو مرسييه الشاعر الانساني.
إن أول ما يقابل المرء عند قراءة أشعار قصائد الكوغر الغاضب هي تلك الصيغ التي تلعب على تلاقي الكلمات. تلك الجناسات التي تلعب دور العلامات المكلفة بإبراز الاتجاه الذي يجب قصده لمن يبتغي بناء المعنى.
يتم تقديم سبب هذا الجنون على أنه خارج عن ذات المتكلم بما أنه يعتبر متضررا ويذكر بالدور المدمر للمال ولظواهر التعرية المالية.. لكنه بالنسبة إليه كمحب للحياة وملذاتها يظل هناك أمل و”حلم خلاص” وهو هنا الجعة البلجيكية والمؤسسات المنتجة لها..
لكن قراءة إشارية لا تثير الانتباه إلا إلى ما هو جوهري، أما قراءة أشمل فيمكن أن تكون أكثر اقتحاما واستقصاء للنصوص. لأنه ما هو الشعر في نهاية المطاف ؟ أليس هو انتزاع الكلمات من معانيها أو من خطاباتها التي تفقدها كثيرا من قيمتها. والشاعر هو من يستجلب إكراهات عادة ما تكون غائبة في كتابة النثر.. فهنا تغيب القواعد التقليدية للنظم الشعري الفرنسي . يفلت برينو مرسييه من شبكات المفروضات الواجبة التي كانت تعرف الشعر على أنه ترابط محصور إلى حد ما بين جملة احتمالات. فلم يعد هناك أي حساب للأبيات كما أن القوافي فقيرة وهي في الحقيقة سجوع ليست كلماتها ذات أصوات متماثلة، والكلمات كاملة التطابق الصوتي نادرا ما تحضر. طول أبيات الشاعر في هذا الديوان يتفاوت، وتكون دائما أصغر من البحر الفرنسي الطويل ما عدا في قصيدة “خديجة”. أما تأثيرات تجاوز جملة البيت الشعري إلى لاحقه مثله مثل الوقف في منتصف البيت قلما تعتمد في هذه الأبيات البسيطة التي يتغير طولها باستمرار، والتي تنفصل أيضا تبعا لوحدات المعنى، وهو ما يوافق في نفس الوقت نظاما في التعبير عن المعنى وفوضى في الشكل المعروض، أي نفسا غير منضبط لقياس هو دون شك علامة على نوع من القلق غالبا ما نجده عندما يتم اختيار بحور شعرية متنوعة ومختلفة كما عند شعراء مثل ملارميه وميلتون وشلييه..
والشعرية هنا تكمن في استعمال كلمات قلما تتداولها اللغة المعهودة، كلمات مختارة بعناية في المعجم الشعري القديم وكذلك في صيغ تركيبية وجمل تضمر بعض مكوناتها.. فتجد تلك الكلمات غير المألوفة تتزاحم وسط الأبيات وبذلك يصير الشعر هو ما يقرأ بالاستعانة بالمعاجم أو في حالة غياب الإرادة في العودة إلي تلك المعاجم فيكون ما يسمع بنفس اغترابي يشير إليه الاقتراب من الأدب الاستشراقي ومعجمه ذي اللون المحلي مثل “العود، بيصارة، ملحون، قصيدة، بوسبير، بوسمارة مبروك، الحافة، دار البيضاء، وسام”، كلمات قد تبدو مألوفة للقارئ المغربي، وإن كانت تثير دهشته حين يشبه الملحون مثلا برقصة، لكنها غريبة على من لم يستأنس بالمجتمع المغربي..
يفرض الشاعر على نفسه إكراها آخر: تفكيك الجملة وبترها، أو نوعا من الخروج عن القاعدة يصل حد جعل اللازم متعديا.. واعتماد الإضمار وترتيب كلمات وجمل دون ربط. وتلكم كلها أشكال تكثيف غالبا ما تتضمن مجانسات صوتية. لكنه برينو ميرسيه لا يمضي إلى حد الفصل بين أجزاء الكلمة وحروفها.. وهي المسالك المعتمدة لديه لتصريف استعارات عدة في حين يراهن الشعر المعاصر على اختفاء الاستعارة.. وهي استعارات تضاف إلى تلك التي تعبر عن ذاتها في الأبعاد الصوتية المنطوقة. ومعلوم أن اختيار الحروف الصامتة في اللغة الفرنسية يختلف بين النصوص النثرية والنصوص الشعرية. ولعل تردد حروف مثل T (1025 مرة في الديوان) و R (1225 مرة ) بالمقارنة مع حروف مثل L (1129 مرة ) و M (555 مرة ) قد تحمل في طياته معنى من المعاني. فإذا كانت المجموعة الأولى تتفوق على الثانية، سيدرك المستمع ربما ما هو جوهري أي نوع من التوتر لا يمر عبر النص بل عبر رنين صوتي متميز كان بالإمكان أن يكون رنينا مغايرا.
إذا كانت الشعرية لا تحتل إلا شطرا في الديوان فلأن الكتابة النثرية مهمة كثيرا. فبماذا تخبرنا تلك الكتابة؟ إنها تخبرنا بدوافع الرحالة والسياح، خصوصا منهم من يقصدون المغرب حيث تثبت الدراسات المتوفرة أن دوافعهم متنوعة، تزداد وتنقص سلبا وإيجابا حسب الحالات؛ منها المادية البحثة من حيث البحث عن رغد المقام بأرخص الأثمان ومنها ما يرتبط باقتفاء أثر أحاسيس وانفعالات قوية كالقطع مع المعيش اليومي والحياة العادية التي سرعان ما يتم العودة إليها بعد ابتعاد مؤقت. كما أن هناك السفر للقاء أناس آخرين ومشاهد ومناظر مغايرة بالنسبة للجوالين المتأملين، وهناك كذلك ممارسة الرياضة وبعض الأنشطة الثقافية التي تعد دافعا أيضا لبعض الممثلين المستهلكين، هي أشبه بتأمين ما هو كامل الأمان..
لكن لا تحضر أي من تلك الدوافع في هذا الديوان الذي موضوعه الرئيس هو انتظارات رحالة. والسؤال المركزي هو لماذا يهرب “سويسري سعيد” عاش “طفولة سعيدة” من خلال التلفاز نحو إيسلندا، وليبيا والعراق وهايتي، ومن خلال السفر نحو كرواتيا وفلسطين ومصر وإيطاليا .. والمغرب (حيث يزور مدن طنجة وشفشاون والعرائش والبيضاء والجديدة والصويرة، ويخص كل واحدة بقصيدة).
والجواب واضح جلي: لم يعد الشاعر يجد نفسه في جنة بلد طفولته فيقوم راحلا هاربا.. فسويسرا اليوم “مجتمع مأزوم قاتم الأمد” يعيد “لعبة مأتم طائرة” ولا يوجد بها غير”الفارين من الكنائس الباردة الحزينة ومن أجراسها الصامتة” فهذا عالم يرشح برائحة الموت. وبالتالي يقول الشاعر: ” أريد هجر مستنقعات الأرض سجينة عقول تعبد المادة”.
ولماذا التوجه بعد كرواتيا وإيطاليا نحو الشرق الجديد في فلسطين ومصر والمغرب؟ يأتي الجواب كالتالي:”كان الأمل يأتي من إفريقيا.. بعيدا من أكواخ الحضر القذرة.” وهذا الأمل يكمن في إمكان تذوق متع يسيرة آنية من شرب لسجائر الماركيز والنرجيلة أحيانا وبعض النبيذ وكحول أقوى (الويسكي)، ولقاء بعض الوجوه الأنثوية وسماع عود وسام وصوت فيروز حين لا يكون هناك صوت آذان المؤذن للصلاة…
هذا الجواب خطير لأنه إذا كان الرحالة يهرب من مدن الشمال فإن ما يجده في الجنوب هي مدن أخرى في أوج تطورها “تولد محطات ركاب جديدة” ومعها كما يبدو في أحد القصائد أشكال حكم متسلطة يسميها الشاعر استبداد “الضفة الجنوبية” متضمنة ” قوانين الملالي!” وهناك حركات احتجاج تسمى هنا أيضا “ربيع العرب” يمكنها أيضا البروز في هذه البيئات الجديدة ” لضيق العيش”. هناك خطر أن يتم تحطيمه بسرعة.
إن ما يجعل الحلم قائما هو غياب التحليل السياسي. إنه يحمل فقط طوبى حالمة: ” لاشك أن العمال منتصرون” وأن يوما ما ستقام ” أمة حرة”. لكن الأمر ليس اعتمادا لطوبى كارل ماركس لأن الثورة هنا لن تكون في المدن، لكنها على غرار ماو في بلدان يفترض أنه ما زالت تطبعها الصبغة القروية. ويضيف الشاعر انه لحسن الحظ هناك فكر جان جونيه :”لطريق الشعوب منير مثل منارة أنا عليها حارس أجير.” فهو يعطي لنفسه دورا كما لو أنه يبرر شعره:” يمزج القصيد صوتينا ولغتينا على أنغام العود”. إن الشاعر يغدو في إدراكه لذاته “منارة مؤذنة حية”. ويشير أنه مفتتن بالإسلام لأسباب جمالية محضة لان المنارة التي “تجعل المسجد غاية في الأنوثة، فتنتني بحسنها.” وينتهي في الأمثولة المؤسسة من خلال تحوله إلى إسماعيل جد العرب مؤسسا بذلك للمذهب الإسلامي المسيحي، إلى جانب مذهب اليهودية-المسيحية.
ولمواصلة هذه التحاليل التي قمنا هنا فقط برسم خطاطاتها العامة والناتجة عما يسميه جيرار جينيت الانتباه الجمالي بعبارة معرفية، فلا بد من قراءة الديوان. إن ما يكشفه طلب الرحيل الذي نجده فيه هو أهمية الحلم في خلق علاقة جديدة بالعالم الماضي أو الآتي أكثر منه بالفضاء المغربي. ونفهم أهمية نصوص مثل هذه التي سنطالع من أجل تدبير أكثر عقلانية للتسويق السياحي في المغرب، بما أننا أمام نص يحثنا على جعل التصنيفات الحالية معقدة ومركبة، تلك التصنيفات المؤسسة فقط على عروض تخص الجسد أو الفكر أو العلاقات الاجتماعية أو تأملات المجال. ورغم أن الطلب المعبر عنه هنا هامشي فمن الواجب بناء منتوجات للاستجابة له. ولمن سيكلف نفسه عناء القراءة ليس الشعر دائما شعريا جدا. وفي الأساس هذا هو السبب الذي يجعله يمنح متعة حقيقية بل وربما أعمق الانفعالات مما لا يمكن لمن يجعلون العقل مقابلا للإحساس أن يفهموه.