رضا بن عثمان
أقبر وصول السيد عبد الإله بن كيران إلى منصب رئاسة الحكومة، إلى غير رجعة، ذلك التقابل الأنطولوجي بين اليمين و اليسار. فحتى وإن انفتحت حكومة بن كيران على حزب التقدم و الإشتراكية، فإن هذه الحكومة ستظل تجمعا ليبراليا يسير على خطى توجيهات المؤسسات المالية المانحة من قبيل صندوق النقد الدولي. ولذلك لم يعد هناك فرق لا على المستوى الاقتصادي و لا على مستوى الخيارات المجتمعية بين يسار التقدم و الاشتراكية و الليبرالية-الأمنية التي يقودها ابن كيران اليوم.
وإذا كان جمهور اليسار يعتبر ابن كيران رجلا يمينيا بالنظر إلى ميوله السلطوي ــ وهي في الحقيقة دعاية لا يستحقها لأن سلطويته لا تستهدف سوى الطبقة المتوسطة – فإن جمهور اليمين المخزني يعتبر الرجل يساريا بالنظر لانفتاحه الجزئي على بعض قضايا الإصلاح وحقوق الإنسان. أما الحقيقة فهي أن جميع السياسيين المغاربة المنخرطين في لعبة المخزن إما أنهم يساريون نظرا لتبنيهم أيديولوجية حقوق الإنسان، وإما أنهم يمينيون بسبب دفاعهم عن الهيمنة السياسية الشاملة لاقتصاد السوق. و أصل هذا الخلط بين اليمين و اليسار مرجعه عدم التدقيق في تعريف كل منهما حيث يمكن تحديد هذين المفهومين وفق طريقتين مختلفتين.
هناك تعريف تاريخي لليمين يرجع أصله الأول إلى النظام القديم في فرنسا (l’Ancien Régime)، لكن المفهوم يعبر في السياق السياسي المغربي عن التيار المحافظ على القيم الدينية الإيجابية من أخلاق و احترام أهل السبق و السلطة الحاكمة، إلخ…والذي جسدته الحركة الوطنية. هذا التوجه اعتبر اليسار فكرا منحرفا أدى إلى انزلاقات ليبرالية، و أنه أداة لهدم القيم التي يؤمن بها و يدافع عنها التيار المحافظ، و اعتبر هذا الأخير كذلك أن تحالف اليسار و الليبرالية بلبوسها اللاأخلاقي و هدمها للقيم العريقة يمثل الشر كله و هو ما يتجاهله الإسلاميون الحكوميون اليوم عندما يقيمون تحالفا مبدئيا مع الليبرالية ضانين أنهم يؤدون واجبهم الطبيعي كمحافظين و يمينيين.
أما التعريف الثاني المتعلق باليسار من زاوية الفكر الماركسي و ثورة أكتوبر، يعتبر التعارض بين اليمين و اليسار تقابلا بين الرأسمال و العمل أساسا. فاليساري حسب هذه الرؤية هو من يناضل من أجل قيمة العمل في حين أن اليميني يدافع عن الرأسمال. و من خلال هذا التعريف، يتبين أن صاحب مقاولة صغيرة، رغم طبيعته الرأسمالية قد يكون يساريا نظرا لما يحدثه من عمل منتج في حين أن موظفا حكوميا صاحب حصص داخل تعاضدية، رغم الطبيعة الاشتراكية لهذا النوع من التجمعات، يكون أقرب إلى اليمين بسبب تشجيعه للريع و للاستغلال و للاقتصاد الطفيلي مثله مثل أبناء الأثرياء غير المنتجين و الذين تصرف لهم رواتب دسمة رغم قعودهم عن العمل.
كما أن التقابل الموهوم بين اليسار و اليمين في بلادنا، تغذيه تلك الحقوق المنصوص عليها في دستور 2011، و التي تجد أصولها في أيديولوجية يسارية مرتبطة بحقوق الإنسان مبنية على مساواة وهمية و لا أثر لها في الواقع. غير أن تلك الحقوق تتسم في نفس الوقت بنفحة يمينية تنتصر لقيم ليبرالية، وهو ما يحول دون التمييز بين اليمين و اليسار في ظل التجربة المغربية. و الإجابة بوضوح عن السؤال هل المغرب يساري كسائر الشعب أم يميني كالأوليغارشية الحاكمة؟
و بناء على ما تقدم، يمكن اعتبار كل من يدافع عن القيم الأخلاقية و الكد و العمل أنه يمينى بحسب التعريف الأول و يساري بالنظر إلى التعريف الثاني. لكن لا يفهم من هذا أن تمّت اندثار لليسار و اليمين أو أن التوجهين متشابهين، وإنما هناك يمين متدين حليف لليسار الإقتصادي-الإجتماعي و يسار منحرف أصبح شرطا أيديولوجيا لوجود اليمين الاقتصادي في نسخته الحديثة و العنيفة.
ويمكن فهم هذه الصورة أكثر لو تأمّلنا المعارك التي خاضها اليسار لصالح الشعب المغربي بين اليوم و الامس، حيث تَحوّل إلى ليبرالية فوضوية يمثلها بعض يسار المجتمع المدني وإسلاميو حزب العدالة والتنمية و الأحزاب المخزنية، من أجل خدمة رجال الأعمال لمحاربة اليسار الاجتماعي النبيل و اليمين الأخلاقي اللّذين اجتمعا في حركة 20 فبراير.
و لذالك نحن اليوم بصدد نظام سياسي ليبرالي فوضوي دوره محاربة كل من :اليسار الاجتماعي؛ و اليمين المتدين الذي تمثله بعض التوجهات الدينية المعتدلة ورجال أعمال يحملون مبادئ ذات صلة بالمسؤولية الإجتماعية للرأسمال.
وهو ما يمكن اعتباره عملية تخريب مزدوجة تستفيد منها سلطة المال، مما يفسر النجاح السياسي المهول و التسلق الاجتماعي غير العادي لمن كانوا يعتبرون أنفسهم بالأمس ضحايا 23 مارس، فأصبحوا اليوم متحالفين مع المخزن في خندق واحد مع إخوان ابن كيران ورفاق بن عبد الله… ضد الشعب. ولذلك فإن من المشروع أن تتساءل الطبقة المتوسطة والعمال و المنتجين وكافة الفئات المتضررة، عن هل يمكن لليمين الأخلاقي أن يتحالف مع سلطة المال؟ وهو سؤال تبرره خشية الالتفاف على مصالح تلك الفئات كما فعل حزب العدالة و التنمية عقب الحراك الشعبي سنة 2011.
أعتقد أن تحالفا من هذا النوع مستحيل، على اعتبار أن سلطة المال و اليمين الأخلاقي كيانان لا يجتمعان؛ فالأول يرتكز على منظومة أخلاقية تحن إلى تجارب سياسية عريقة، و الثاني ينبني على قانون الربح المطلق و اللاأخلاقي الذي يفتح الباب أمام كل أنواع الوصولية و الإنحطاط. غير أن التاريخ أثبت أن التحالف ممكن بل مرغوب فيه بين الليبراليين و التيارات المحافظة المنحرفة، التي سرعان ما يتم القضاء عليها و طردها من السلطة باعتبارها مجموعة من السذج يتم استغلالهم من أجل الحفاظ على الأغلبية ضد الشعب. و هي خدعة قديمة يوظف فيها النظام السياسي، التيار اليميني الأخلاقي المدعوم من طرف الطبقة المتوسطة بسلطة المال، والمنبثقة بدورها من اليسار التاريخي بعد التدجين و انحرافه عن وظيفته الشيوعية ضد تغول سلطة المال…
و أمام هذا التحالف الخداع بين قوى المحافظة ضد ما يسمونه زورا يسارا، تشكل تحالف يساري لمواجهة اليمين لا يقل مكرا و خداعا عن سابقيه. فـأصحاب التوجه الأخير يعلمون جيدا أن اليسار الذي يمثله التقدم و الإشتراكية أو الإتحاد الإشتراكي أو التيار اليساري داخل الأصالة و المعاصرة يشكل أكبر خطر اقتصادي على اليسار العمالي الذي لا زالت تدافع عنه قواعد بعض التنظيمات الماركسية الصادقة.
والخلاصة التي لا ريب بشأنها، أنه أمام هذا التقابل الخادع يسار-يمين، و الذي يخفي في ثناياه تحالفا بين اليمين المالي و اليسار اللأخلاقي، هناك تحالفا ممكنا يستطيع مواجهة توحش سلطة المال و أذنابها في اليسار و اليمين الحكوميين ألا و هو الوحدة بين اليسار العمالي و اليمين الأخلاقي. اتحاد وحده كفيل بتشكيل معارضة حقيقية لإحداث ميزان قوى جديد. فهل يعي الطرفان رهان المرحلة أم أن سلطة المال ستسحق الجميع لتجثو على مستقبل المغاربة لقرون أخرى من الزمن.