لا حل لمشكلة الطائفية إلا بالديمقراطية

لا حل لمشكلة الطائفية إلا بالديمقراطية

- ‎فيرأي
353
0

محمد-بوبكري

محمد بوبكري

لا جدال في أن التنوع الثقافي والمذهبي والطائفي والعرقي خاصية أساسية لكل المجتمعات البشرية، وأن الدول تختلف وتتمايز عن بعضها البعض حسب الطريقة التي تنهجها في التعامل مع هذه الظاهرة.
وتعود الأسباب الكامنة وراء انفجار الصراعات الطائفية إلى طبيعة العلاقة التي تقيمها المجتمعات مع موروثاتها الثقافية والتاريخية، إذ يجعلها انغلاقها سجينة لتاريخها ورهينة له، ما يفضي إلى جمودها وتكلسها ويعوق نموها… هكذا نجد أن بعض الطوائف تتخذ مرجعا ومقياسا خطابات ووقائع حدثت في أزمنة بعيدة لتبرير خلافاتها السياسية والاجتماعية مع طوائف وجماعات أخرى، فنجد عند المسلمين، على سبيل المثال، اختلافات بين الشيعة والسنة حول الخلافة والإمامة، كما نجد اختلافات عند المسيحيين بين الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت حول موضوع العقل والروح…
وترجع هذه الأسباب أيضاً إلى غياب ثقافة التعددية الفكرية لدى المجتمع، وإلى عدم استيعابه لقيمة التوافق وفعاليتها، وإلى وجود مصالح ضيقة، أو أهداف سياسية، عند بعض الجماعات أو الأشخاص المهيمنين على الطوائف والمجتمع، والذين لا يسعون إلا لتحقيق مصالحهم الخاصة، غير عابئين بالأخطار والمآسي التي يمكن أن تترتب عن ذلك.
ينجم الصراع الطائفي أيضا عن تفشي ثقافة التعصب لدى الأفراد والجماعات، وعن التفسير الخاطئ للدين من قبل بعض الأفراد والجماعات بغية توظيفه لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية خاصة. ويؤدي تسييس التنوع الطائفي الذي تقوم به جماعات الإسلام السياسي إلى تحول هذا التنوع إلى حروب طائفية تهدِّد وحدة المجتمعات التي تتكون منها.
كما يتحول الصراع السياسي إلى طائفي في حالات كثيرة، إذ قد يحدث نتيجة عجز الحاكمين عن تقديم برامج سياسية واجتماعية للمجتمع، أو فشل القوى السياسية التي تعتمد الدّين أيديولوجية في الحكم، بعد الوصول إلى الحكومة عن طريق انتخابات غير نزيهة كما هو عليه الحال اليوم في المغرب…
إضافة إلى ذلك، ينتج الصراع الطائفي عن عدم امتلاك أطراف الصراع الطائفي في الوطن لأية رؤية سياسية واستراتيجية، ما يجعلها لقمة سهلة في يد بعض الأطراف الأجنبية التي يخدم هذا الصراع الطائفي مصالحها الإستراتيجية الدولية.
ويشكل الفقر والإقصاء الاجتماعي أحد العوامل الأساسية التي قد تضعف الروح الوطنية لدى الأفراد، خاصة إذا كان البلد يمتلك موارد لا توزع بشكل عادل بين المواطنين والجماعات والجهات والأقاليم، ما يتسبب في عدم تمكين المواطن من حدّ معقول من العيش بكرامة، ويصيبه بخيبة تجاه الدولة، ويدفعه للبحث عن هويات أو مؤسسات فرعية توفر له الحماية…
ينفجر الصراع الطائفي كذلك عن عدم امتلاك الحكومات لأي مشروع يتضمن خطة تنموية مدروسة، مثلما قد يكون متعمدا ومقصودا لتعزيز مكانة بعض الطوائف وإقصاء أخرى.
تجسد الطائفية اليوم أحد مظاهر الأنظمة الاستبدادية التي تستغلها السلطة للتغطية على هيمنتها على المجتمع واستئثارها بكل شيء، إذ يحدث تنويع التمويه على الاستبداد حسب الأهداف والظروف، فيتم الحكم تارة باسم الدين، وتارة باسم الطائفية السياسية…. وهذا ما يفسر قيام الأنظمة السلطوية بتوظيف الطائفية والقبلية لعرقلة العمل الديمقراطي للحيلولة دون تطوير أي مشروع ديمقراطي في البلاد…
كما يُعتبرُ ضعف وإضعاف التنظيمات الحزبية التي يُفتَرَضُ أن تؤطر المواطنين وتدبر اختلافاتهم وفق مرجعيات فكرية منطلقها قيمة المواطنة عاملاً قويا في إخصاب أرضية الطائفية التي تبث التفرقة في المجتمع وتشق وحدة صفوفه. زد على ذلك أن أغلب ما يسمى بـ “الأحزاب الديمقراطية” في المغرب لم تمارس بعد القطيعة مع الفكر الطائفي والقبلي، كما أنها لا تعي أن البنية العميقة للمجتمع طائفية، وأن انفجارها يمكن أن يحدث في أي وقت…
فضلا عن ذلك، يتم اليوم توظيف الإعلام لإثارة النزاعات الطائفية داخل البلدان غير الديمقراطية من لدن بعض القوى العظمى بهدف تفتيتها حتى يتسنى لها ضرب وحدتها من أجل إعادة رسم الخريطة السياسية لبعض المناطق بكيفية تتلاءم مع الاختيارات الإستراتيجية لهذه القوى…
تؤكد الدراسات التاريخية أن الصراعات الطائفية شكلت على الدوام أخطر تهديد لوجود المجتمع والدولة معا، إذ تتسم الحروب الطائفية بشراسة مدمرة، وتقوم على العصبية التي تتسبب دائما في خسائر بشرية ومادية مهولة. كما أنها تعود بالمجتمع إلى عهود التخلف الفكري والتوحش، فتسود مختلف الصراعات الطائفية والقبَلِية والعرقية، ما يفضي إلى سيادة التشرذم والتجزئة بين أبناء الوطن الواحد. علاوة على ذلك، فآثار تطاحناتها تظل محفورة في الذاكرة والنفوس لزمن طويل، وقد تشكل مدخلا لحدوث انشقاقات داخلية تقوض البنيان السياسي للدولة وجغرافيتها. ولا تتوقف آثارها المدمّرة عند حدود البلد الذي دارت فيه رحاها، بل قد تمتد إلى المنطقة المحيطة به لتشملها، نظرا للتداخلات الثقافية والاجتماعية والتاريخية الموجودة بين هذا البلد ومحيطه الجغرافي…
ولمعالجة المشكلات الطائفية في البلدان التي تتكون مجتمعاتها من فسيفساء من الهويات الثقافية والقبلية والدينية، ينبغي بناء المواطنة والديمقراطية، حيث ثبت تاريخيا أن الديمقراطية هي الاختيار السليم الذي ينبغي أن ينهض عليه أي مشروع يسعى إلى معالجة مشكلة الطائفية جذريا. فبدون الديمقراطية، لا سبيل لإيجاد حل لتلك المعضلة. فالنظام الديمقراطي هو وحده الذي يعترف بالتنوع ويحميه، وهو الذي يوفر الشروط لكافة الأفراد والجماعات لتشارك في بناء هوية المجتمع ومستقبله. كما أن المواطنة تشكل قاعدة أساسية لمعالجة مشكلة الطائفية، حيث إنها تقتضي المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. فلن ينجح أي مشروع لمعالجة الطائفية إذا لم يجعل جميع المواطنين متساوين…
لذلك، ينبغي أن تتخذ الدولة موقف الحياد وتكون منصفة وموضوعية لتتمكن من تحقيق مبدأ المواطنة، إذ تقتضي “دولة المواطنة”حياد الدولة تجاه مختلف الهويات الثقافية للمواطنين وانتماءاتهم. ويعني ذلك أنه لا أحد فوق القانون، وأنه ينبغي أن تتاح الفرص لجميع المواطنين بصرف النظر عن عرقهم أو جنسهم أو ثقافتهم أو طائفتهم.
ويشكل احترام إنسانية الإنسان المدخل السليم لتحقيق الاستقرار في البلدان المتسمة بتنوعها الثقافي والطائفي والعرقي واللغوي والجغرافي… وهذا ما يجعل من الدولة “دولة الإنسان”. كما أن احترام إنسانية الإنسان هو مدخل لبناء مواطنته، حيث لا تقوم الدولة المدنية إلا على أساس المواطنة التي تجعل جميع المواطنين أعضاء فعليين في مجتمع حقيقي يتم التعامل فيه بمبدأ أن كل مواطن هو الدولة، والدولة هي كل مواطن، ما يعني أن الدولة أساسا هي تجمع لكل المواطنين دون تمييز بينهم على أساس الدين أو المذهب أو الجنس…
وتتميز “دولة الإنسان” بكونها دولة تعدُّدية تعكس مصالح كافة فئات المجتمع وطوائفه وجماعاته، ولا تسمح لأي منها ببسط سيطرتها على البلاد والمجتمع بناء على أي اعتبار ديني أو ثقافي أو عرقي. وبهذا المعنى يكمن دور الدولة في احتضان الهويات المتعددة والتركيز على تضييق الهوة بين مختلف الهويات عبر وضع برامج وخطط تروم بناء ثقافة مشتركة وهوية وطنية جامعة تتيح للجميع فرصاً متساوية. كما أنها دولة المؤسسات التي لا مكان فيها للقرارات الارتجالية أو الفوقية. وهي دولة يكفل فيها الدستور والقانون كافة الحقوق والواجبات، وتكون القوانين فيها ملزمة للجميع، وليست مجرد إطار شكلي لا يحظى بأي احترام من قِبَلِ النافذين. أضف إلى ذلك أنها تكونُ “دولة مواطنة”، لأنها تبذل قصارى جهدها لتحقيق الاندماج الوطني بناء على أن “الوطن للجميع”.
وبقدر ما تحترم الدولة هذه المبادئ والأسس وتنجح في تطبيقها، فإنها تنجح في أن تكون دولة وتحقق الاستقرار المجتمعي، حيث إن الطائفة والقَبيلة تقوضان الوطن والدولة وتحولان دون ظهور الإنسان. تبعا لذلك، فتحقيق المواطنة واعتماد “الديمقراطية التوافقية” التي تجمع ولا تفرق، وترسي دعائم شراكة دستورية بين كافة أطياف المجتمع، هي ما يرسخ استقرار الوطن، كما أن الحرص على ضمان حياة كريمة لأبناء الشعب هو ما يعزز انتماءهم لأوطانهم وليس لطوائفهم…

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت