مرحبا بك في مراكش / ياسين عدنان

مرحبا بك في مراكش / ياسين عدنان

- ‎فيرأي
2481
0

ياسين عدنان

ياسين عدنان

 

عدت من بروكسل إلى مراكش. ثلاث ساعات فقط بالطائرة. من عاصمة الاتحاد الأوروبي إلى عاصمة المرابطين. العالم قرية صغيرة والفوارق بدأت تتقلّص ما بين شمال الأرض وجنوبها. طوبى لنا.

فعلا، بروكسل ليست بعيدة عن الحمراء. وأنت تتجوّل هنا في شوارع مراكش ستكتشف أن حظيرة السيارات في بلادنا قد تجدّدت بشكل واضح في السنوات الأخيرة. نفس العلامات التجارية التي تجوب شوارع بلجيكا وهولندا. نفس الماركات. ومع ذلك هناك بعض …الفرق. في مناخ السير والجولات. في أمزجة السائقين. طوط طوط طوط طوط. السيارات تقف بعد الضوء الأحمر وينام أصحابها. لذا تضطرّ السيارات التي في الخلف إلى إيقاظهم من سباتهم بالمنبّهات. طوط طوط طوط. زعيق في كل مكان. الضوء الأحمر مُباح للاختراق ما لم يكن هناك شرطي يُحصي على المحرّكات أنفاسها. سائقو الدراجات العادية والنارية غير معنيين أصلا بقانون السير. لعلّ القلم مرفوع عليهم. لا ضوء أحمر ولا أخضر ولا بنفسجي.

في الشقة عند أخي طه تدرّبتُ هذه الأيام على الفرز بين أصناف النّفايات: للورق العادي والمقوّى كيس خاصّ من لون أصفر. لعُلب التعبئة المعدنية والبلاستيكية كيس آخر أزرق اللون. والكيس الأبيض لباقي الفضلات المنزلية. أما الزّجاج فله حاوية دائمة بالخارج. إخراج النفايات يخضع لمواعيد أسبوعية محدّدة. هنا كلّ النفايات مرحّبٌ بها وفي أيّ وقت. ليس في الأكياس بل في الشارع العام. هناك قرب الحاويات المليئة عن آخرها. الحاويات مملوءة على الدوام… وعن آخرها. حاويات الأزبال المُتهالكة أضحت مرتعًا للكلاب الضّالة والقطط المتشرّدة.. وللميخالة الذين يُشرِّحون الأكياس في عرض الشارع وينهشون محتوياتها أمام المارّة. والنفايات متراكمة على جنبات الطرق وعند مداخل العمارات والروائح الكريهة تنبعث من أكوامها. ماذا يحدث في مراكش؟ من يريد تحويل هذه الحاضرة / البُستان إلى مزبلة كبيرة؟

مراكش مدينة حرّة وأهلها مُحِبّون للحياة. الحركة تتواصل في شوارع المدينة وأزقتها حتى وقت متأخر من الليل. مثل بروكسل تماما. ولأن النساء شقائق الرجال، فالطريق العام مفتوح في وجوههن أيضا. وحركة النساء لا تنقطع. صباح مساء. مثل بروكسل. فقط هناك فرق صغير، لكنه موجع. اضطررت لتناوُل غدائي في محلِّ للسمك. المكان مختلط والشارع مختلط ولا إشكال هناك. فمراكش مدينة سياحية وبناتها مُنطلِقات. مرّت فتاة أمام المحل بلباس صيفي، ليس متهتّكا ولا شديد التبرّج.. صيفيٌ فقط. بادرها أحد النُّدُل بكلمات غزل لم تكن عفيفة على الإطلاق. الفتاة لم تتقبّل التحرش فانفجرت في وجهه بشتائم من العيار الثقيل. لسوء حظ أمّه أن كلَّ الشتائم سقطت على رأسها. وكانت نابية جدا. ومع ذلك ظل النادل يبتسم ببلاهة. قلت لزميله الذي كان يسهر على خدمتي: “لا أعتقد أن أمّ صاحبك تستحقّ كل هذه اللعنات”. فأجابني وهو يُرغي: “والله العظيم.. والغريب أنّو حالّ فمُّو كيف الحمار. لو كنت مكانه لعرفت كيف أُخرِسُ تلك العاهرة. أقسم أن أبول عليها أمام الملأ.” سدّ الوغد شهيتي. لعنتُه في سرّي وقمت لأدفع الحساب. وأنا بِالباب همستُ في أذنه: “ما رأيك أن هناك حلا آخر لم يخطر على بالك؟” نظر إليّ بارتياب، فواصلت: “ألا يكلّمها أصلا”. ظلّ متحصِّنا في صمته ونظرته المرتابة.. فغادرت.

لم نعد كما في السابق ننتظر طويلا لنشاهد الأفلام الحديثة. سعدتُ كثيرا وأنا أجد نفس الأفيشات التي خلّفتُها في قاعات بروكسل تُزَيِّن واجهة ميغاراما. شاهدت خلال عطلتي في بروكسل ستة أفلام (هل عطلة بلا سينما؟) وبقي هناك فيلم تمنّيت مشاهدته ولم يسعفني الوقت. قلت: هي مناسبة لأستدرك الأمر. وكذلك كان، ولجت الصّالة هنا. الصّالة مكيّفة. حديثة كمثيلاتها هناك في الضفة الأخرى. لولا بعض التفاصيل التي يقيم فيها الشيطان. كُنا قِلّة في القاعة. لكنها قلة ساحقة ماحقة. قلة كافية لتدمّر الفرجة وتُحيلها إلى صداع رأس. لم أشاهد فيلما بقدر ما كنت في امتحان لضبط الأعصاب. شبابٌ يتسامرون في الخلف. يتكلمون ويقهقهون وكأنّهم في مقهى. أمامي سيّدة لم تتوقّف عن تبادل الإيميلات والرسائل الإلكترونية عبر الفايسبوك والواتساب وما إليهما. حين نبّهتُها إلى أنّ الأشعة الصادرة من هاتفها تشوّش على مجالي البصري نظرت إليّ شزرًا وواصلت لعبها بالهاتف في نوع من التحدّي لهذا “التافه” الذي “تجاسر عليها” ويريد الاعتداء على حريتها الشخصية، وحرية هاتفها الشخصي. غيّرتُ المكان. لكن المقعد الجديد لم يكن أحسن حالا لأنّ جاري المحترم توصّل على ما يبدو بمكالمة مهمّة. مكالمة تجاوزت الخمس دقائق وكان الرجل مسترسلا فيها بدون عُقد. لمستُ مرفقه برفق لأنبّهه، فاعتذر لي بابتسامة طيبة وقال لمحاوره: “شوف باش ما نطولوش الله يرضي عليك حيت أنا دابا ف السينما…”، واسترسل. لم يكن الختم سلسا على ما يبدو. “حُسن التخلُّص” استغرق خمس دقائق إضافية. وأنا معتقل في صالة يتفنّن رفاقك داخلها في خلق فرجاتهم الخاصة وكأنّهم هنا بالصدفة… أو ربّما بالخطأ.

مرحبا بك في مراكش. هذه مدينتك. هنا تعيش. وهذا واقعك. وعليك أن تفيق من خدر العطلة. أهلاً..

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت