رشيد لزرق
إن لقبنا كـ”اولاد الشعب” لم يكن يؤسس لسياسة الريع والامتيازات ولا كان يحمل ثقافة إقصاء الآخر ولا ابتـُدع بدافع الحقد والكراهية لنخبٍ بعينها، بل يظل المبتغي العميق هو التأسيس لولوج الحقوق الدستورية الجديدة، التي جعلت جميع المغاربة سواسية دون تمييز أمام أحكام الميثاق الأسمى للأمة المغربية، مهما اختلفت أوضاعهم الاجتماعية، لا فرق بين ابن وزير وابن عامل وابن فلاح… الكل شركاء في الوطن، لديهم حقوق وعليهم واجبات.
من هذا المنطلق، حرصنا كتيار شبابي على بلورة اختيارنا الحداثي الشعبي باستقلالية. هذا السبيل لم تستسغه القيادة الحالية التي احترفت التنظيم دون وعي فكري، وتيار عائلوقراطي استحب السلطة دون عمق شعبي، اجتهدا معا في حملة تسفيه قيادات التيار، فقط لأننا لم ننجرَّ معهم إلى لعبة المصالح الشوفينية.. لم يستوعبا أن يكون حلمنا أكبر من منام بعض الأفراد، إنه مغرب صاعد متجدد، يعرف التحول بعقول وسواعد أبناء شعبه عبر التحلي بالشجاعة والمسؤولية والمواطنة الدستورية، وقبل كل ذلك كله إحساس بالوطنية البناءة. وعبر توظيف المقاربات العلمية التي درسناها في الجامعات المغربية، ومعها إدراكنا الطبيعي لهموم القوات الشعبية. رفعنا هذا التحدي من أجل استكمال المشروع الحداثي الشعبي، دون الاكتراث لدسائس الشبكة العائلوقراطية التي تريد أن تجعلنا واجهة للتوريث، كما لم نجارِها في لعبة التحول بين الطوائف، ورفضنا الانجرار وراء “دهاقنة” التنظيم.
لقد تشبثنا بخطنا السياسي القائم على الوضوح والمعرفة، مقتنعين بأن تثبيت البنية الحداثية الشعبية هو مبادرة جماعية ومسؤولية تقع على عاتق كل القوى الدستورية المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ومن هنا، انطلقت مبادراتنا الرامية إلى تأسيس قطب حداثي شعبي، وذلك بتجميع كل القوى ضمن كتلة حداثية تكون الأداة السياسية القادرة على ترسيخ قيم الحرية والتعايش واحترام الآخر، باعتبارها الشروط الموضوعية والذاتية الكفيلة بتأمين التحول المجتمعي الكبير.
إن عملية ولوج المغرب إلى عالم الدول الصاعدة هي، بكل تأكيد، رؤية مستقبلية قوامها أسس علمية ومنبعها بصيرة ثاقبة ومناعة معنوية عالية، تقوم أساسا على تمكين شابات وشبان هذا الوطن من حق ولوج عالم الحرية السياسية وإحقاق العدالة الاجتماعية القائمة على تمتيع كل المواطنين بقسط من الثروة الوطنية، وذاك هو الحافز لانخراط الشباب في عملية التغيير المجتمعي المتعاقد عليها.
نعم، إن المرحلة تفرض مراجعة حقيقية للمشهد السياسي المغربي وزعاماته الحزبية الرجعية والغارقة في التقليدانية والمتورطة في ملفات الفساد، فإعادة اكتشاف معنى الذات الحزبية تستلزم مواكبة التطورات العالمية والثورة الرقمية وما سيأتي بعدها… وذلك عبر تحقيق التوازن السياسي والمرور من دمقرطة الدولة نحو دمقرطة المجتمع، والذي يتطلب تأسيس كتلة حداثية تحصن الخيار الديمقراطي وتساهم في إثراء التداول السلمي حول السلطة. كما أن مناورة قوى التدين السياسي الخارجة بمظهر الزاهد في السلطة في انتظار لحظة “القومة”، كلها عوامل تدفع إلى عرقلة صعود الوطن، وتدفعنا كشباب حداثي شعبي إلى تطوير الأداة السياسية التي تؤسس للبديل الكفيل بإعطاء الشباب المغربي إمكانية الاختيار بين البدائل المعقولة، الشيء الذي لن يتأتى من خلال سياسة المقعد الفارغ التي تجعل رفاقنا خارج التاريخ، ولا من خلال مغازلة قوى التدين السياسي تحت لافتة الحوار الإسلامي العلماني رغم حسم الوثيقة الدستورية في إسلامية الدولة المغربية و”علمانية” جهازها التنفيذي “الحكومة”.
إن البديل الحداثي الشعبي يقتضي من كل الأصوات المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، الصبرَ والصمودَ لضمان التأويل الحداثي للدستور؛ وهذا المطلب يستوجب نضالا مجتمعيا شاقا، عميقا ومسؤولا. بعيدا عن قتل الحاضر والمستقبل بساطور الرجعية وماضوية الصراع.
كذلك، فالأسباب التي أفضت إلى انطلاق الحراك الشبابي لازالت موجودة، وذلك بالنظر إلى طبيعة السياسات الحكومة الفاقدة لاستراتيجية واضحة، وذلك يظهر جليا في اختياراتها الاقتصادية اللاشعبية، فتدبيرها الشأن العام بدون برنامج اقتصادي قابل للتطبيق جعل الوطن ضمن دائرة الفراغ، مما يجعل تحدي الولوج إلى مصاف الدول الصاعدة ضربا من المحال. كما أن انشطار المعارضة إلى “معارضات” فوت على الوطن ثلاث سنوات من عمر الدستور الجديد؛ وسمح أيضا لبنكيران بعرقلة تنزيل الدستور والاتجاه نحو التأويل الأبوي للدستور وسهولة التنصل من وعوده الانتخابية، وفي مقدمتها شعار الحزب الحاكم (العدالة والتنمية)، في انتخابات 25 نونبر 2011 “صوتك فرصتك ضد الفساد” الذي كان يستدعي الالتزام بفتح ملفات الفساد المتمثلة في التملص الضريبي، تهريب الأموال،…
إن بنكيران جعل الفساد قوتا سياسيا للاستهلاك الإعلامي، برفعه شعار “عفا الله عما سلف”، إذ سارع إلى العفو عن المهربين، وأغرق البلاد والعباد في الديون، ورفض سن ضريبة على الثروة، وقدم أرقام نمو لا تطابق الواقع بتبريرات شعبوية، مع الانبطاح اللامدروس لتوصيات المؤسسات النقدية الدولية على حساب المستضعفين.
هذا الوضع شجع القوى “العائلوقراطية” على إحياء تحالفاتها القديمة عبر محاولة ترميم آلياتها العتيقة بالعودة من باب الأوليغارشية الحزبية، في ظل جهل مركب يرفض استنطاق الواقع، فالمجتمع يمر بحراك نتيجة عوامل متشابكة، وهذا الحراك لا يتلاءم مع القوالب الجاهزة التي يضعونها للقوات الشعبية والتي هي في الغالب نسخ حرفية لنماذج أجنبية. إن البديل يستدعي القدرة على الإبداع والإجابة عن أسئلة المرحلة وليس الاستهلاك السلبي، عبر طرح سؤال جوهري: ما هو اختيار اليوم؟
الاختيار الحداثي الشعبي هو الحل.