عبد القادر الشاوي
الوقائع والتطورات
لا أذكر شيئا مما حدث في صباح ذلك اليوم الذي كانت شمسه أقل دفئا من المعتاد. شهر نوفمبر من عام 1974 الذي عدت في أسبوعه الأول من فاس وَلَبِدْتُ في منزلٍ اقتسمته مع أفرادٍ من مدينتي في حي (المعاريف)، ولم أعد أنتظر شيئا إلا:
1- أن تتوالى الحملة التي أسميناها فيما بعد بالشرسة، وقد كانت عنيفة مفاجئة مسعورة تُقَاد بالليل وفي الفجر وخلال النهار، فتذهب بجميع من وقع في الشباك إلى جحيم الاعتقال الذي أوَّلُه التعذيب الفظيع، أو،
2- أن أنجو بنفسي فأغادر البلد في أقرب فرصة إلى مكان في الخارج (الذي صار أملا في النجاة) غير مأسوف على نضال طبقي صار يطوقني بالاعتقال على الأرجح، كنا نخوضه بهيام وسذاجة وافتتان من أجل قيام الجمهورية الديموقراطية الشعبية. وماذا أقول بعدُ، إلا أنني اعتقلت فعلا وقولا.
الواقع شيء آخر تماما. فلم يكن لي لا هذا ولا ذاك، كما تصورت من شدة الترقب وقفقفة الخوف. أن الخيال شيء أخر تماما. توالت الحملة وصارت تحصد الكثيرين إلا من اختبأ أو فر أو حالفه حظ ثوري. وبقيت أنا في حال من التردد، مع علمي بهذا كله فضلا عن الأخبار التي كنت أتسقطها من المصدر الثوري المتواري، أقدم رِجْلا تريد الهروب، وتتأخر بي الرِّجْل الأخرى تلك التي تريد المرابطة في الوهم.
وهكذا اعتقلت في صباح ذلك اليوم الذي كانت شمسه أقل دفئا من المعتاد من شهر نوفمبر بتاريخ 13 منه.
هذه هي الحقيقة، وعادة ما أقول هنا كما قال شاعر فلسطيني بعد الهزيمة: لقد ولدت من جديد!!. قال صاحبي الذي يقرأني: جديد هذا، وأي جديد هذا!!
المسألة غير المفكر فيها أن من اعتقل قبلي وقبل الآخرين من مناضلينا الشرفاء، رغم أنهم أبلوا البلاء الحسن، كما يقال، تحت سياط التعذيب، أرْخوا حبال ذواتهم ولم يسعفهم الصمود، فأعطوا أسماءنا لجلاديهم، وصرنا في اللائحة المطلوبة دون أن نكون على بينة من ذلك، ولا خطر على بال أحد بسبب كتاب الصمود الذي قرأنا فيه المقاومة وعدم الاستسلام للعدو. ولما تمت محاصرتي في الثانوية التي كنت أدَرِّس فيها شيئا من اللغة والأدب لم أجد، في الواقع، أي سبب وجيه يدعوني إلى المراوغة، ولاحقا، وأنا تحت التعذيب، لم أجد ما يدعوني إلى الصمود، ثم ولا أي سبب أخير يساعدني على التنكر. وهنا أقول، إن مبدأ الانسجام الذاتي الذي قاومت به شيئا كثيرا طوال مدة السجن جاءني من هنا. من اليأس، من شيء من العدمية، والقليل من السخرية، والله أعلم!!
التطورات الأخرى هي التي حدثت، والمواقف الغامضة هي التي انقشعت. فاقرأ معي ما يلي في هذا الباب لتعرف ذلك:
كنت أستاذا للغة العربية وآدابها في مدينة مزعجة لم تكن، في الواقع، إلا “الدار البيضاء” في تلك السنوات الأولى الملتهبة من بداية السبعينيات. أما الحي الأخير الذي سكنته فكان في أعالي المدينة، وأنت تسير في الاتجاه الذي يقود إلى ناحية (المْذَاكْرة)… حيث الخلاء وذلك الانفتاح المبهر على سماء كانت تبدو في تلك الأيام، مع وجود سحب عابرة سابحة توحي بفصل شتاء قادم، كبيرة تتراقص فيها جميع الخيالات المهوِّمة… الثورية منها والرومانسية. وبالنسبة لي شخصيا، كانت تبدو لي السماء وقد حط أديمها هناك على بلاد (مْزَابْ)، في متناول الخيال تماما، حتى أنني بقيت طوال أيامي الأولى في الاعتقال، وخاصة عندما كان يخف التعذيب وترتخي الحراسة الدائمة ويسبح الرفاق المعصبي العيون جميعا في أيامهم وأوهامهم، مشدودا إلى منظر تلك السماء القريبة الحانية الممتدة على أرض (مْزَابْ) حيث كنت أخرج لفسحة تدعوني إلى الترويح عن النفس واستلذاذ المنظر البديع الذي لم يكن له مثيل في الخلية السياسية ولا في البرنامج النضالي بكل تأكيد.
وصلت إلى (درب مولاي الشريف)، الذي كنت أعرف موقعه من حي شعبي بالدار البيضاء، منهك القوى، المعنوية بصورة خاصة، بل قل: كنت منهارا من جراء ما كان قد وصلني، قبل ذلك، من أخبار منكرة تتحدث كلها عن الانهيار الضخم الذي أصاب منظمتنا الفتية التي، والحق يقال، رضعنا فيها، يقينا، حليب الصمود وآيات الولاء للقيادة، وأقسمنا بآمال الثورة الموعودة بأننا سنبقى على العهد إلى أن يسقط النظامُ فريسةً وأن تقوم دولتنا منتصرة. في سيارة (الفياط) دسوا رأسي بين أفخادهم فشممت روائح عطنة قذفتها نفسي إلى الخارج في تثاقل وعياء. أدركت أننا وصلنا بعد أن داروا بي في السيارة دورات خلتها في مكان مهجور. توقعت كل شيء إلا أن أصل سالما. عرفت أنهم يريدونني في أصدق حال لكي أعترف بأسماء من سيأتون بعدي لا محالة.
وبدأت الإجراءات الباردة لاستضافة الوافد الجديد، أنا، المعصب العينين الذي حُمل في سيارة فياط إلى (الدرب): الاسم واللقب، وانزع ثيابك كلها، ولا تترك فوق جلدك عُرْيَا يسترك. اللباس العسكري، القيد المعدني، العصابة فوق العينين لأنه لا يجب أن ترى شيئا في هذا المكان الصارخ بالعذاب. ثم الزاوية التي أركنوك فيها قبل المناداة عليك وأنت في الحيرة الأولى المفرطة في الخوف تلك التي قَلَبَتْ دماغك قلبا لا قِبَلَ لك به أبدا. أنت الآن، وهذا هو الألم الذي يحس به المهزوم عادة حتى وهو يقاوم الهزيمة: ماض بدون مستقبل، شخص بدون هوية. أصبحتُ رقما بين أعداد متواصلة، جسد مستباح ليست له ذاكرة، حيرة بدون وجود. نفسُكتناقضات متلاطمة. دماغك بين الأخذ والرد يوازن بين اللحظات في أتم استعداد للوفاء أو لتوقيع السقوط.
لم تكن قد مرت سوى لحظات قصيرة، فبدا لي، في حقيقة الحيرة إياها، أن كل شيء أعِدَّ بعناية، ولو أن فيها فوضى مرتجلة، لكي يكون التعذيب مناسبة للاعتراف. غير أنني حُمِلت ونُهِرتُ ودُفعتُ إلى حجرة أدركت أن بها محققين متحفزين، وعرفت منذ البدء، وأنا مذهول، أن قَدْرِي لدى هؤلاء مُهِمٌ. أدركتُ حقيقتي إذن. وإلا كيف يعقل أن يجتمع قوم شداد، فيما يبدو، على فرد أعزل بالتأكيد لو لم أكن بالنسبة إليهم صيدا مُهِما أحمل من الأسرار ما سوف يفكون به عُقَد الحركة الماركسية اللينينية.
أكتشفت، قبل التعذيب، أن أسئلة المحققين شكلية سطحية مبهمة، بعضها تافه لا يستطيعون الوصول به إلى أية حقيقة مطلوبة. بالقدر الذي كنا نعرف نحن. فهمت أن القصد، وخصوصا بعد أن تناهى إلى سمعي صراخ حاد فيه توسلات وأدعية ونحيب ملأ المكان بالقسوة، هو الوصول إلى الغاية المنتظرة بأسرع طريقة ممكنة، ولم تكن تلك الطريقة الممكنة، إلا التعذيب الذي تنجلي به الحقائق في عرف الجلادين. نقطة.
تقول التعذيب؛. لأن ما قد يُروى منه لا يمكن أن تصفه لغة. أولا لأنه عنف متواصل يعتصر الكيان الفردي فيكون مصحوبا بالألم الحاد والصراخ الممض والرغبة في الافتكاك والتخلص. ثم لأن التفكير في حال التعذيب يشرع، بكيمياءٍ غريبٌ تركيبُها فيما يبدو، في إرسال موقفين: فإما الصمود النسبي بأقل الأضرار الممكنة، لأن الجسم هنا يقاوم الآلة الجهنمية المشحودة للقيام بالفعل المؤذي وإحداث التأثير النهائي بغاية الإخضاع، أو الاستسلام للوحش البشع الذي حوّلك، تخويفا وتهديدا ورعبا، إلى فريسة سهلة بعد أن وهبْتَهُ نفسك، كُرْها، فداء لجسدك.
وتخرج من التعذيب لكي تعود إليه في كل حين، لأنه لا ينتهي بالصمود ولا يخف بالاستسلام. إذا اعترفتَ خوَّنك رفاقك، وإذا لم تعترف أماتك جلادك. والنتيجة هي هي لمن بقي على قيد الحياة لاهيا وكذا لمن غادرها صارخا: نهاية تجربة. عليك الآن أن تعالجها بالنسيان حتى تهنأ، أو أن تكتبها بمداد الفخر، كما يدعي الصامدون، لإسكات نباح النرجسية الذي يتولاك. يا إلاهي كم كان التعذيب، والاعتقال قبله، حياة ملأى بالأوهام لمن لم تكن لهم حياة في الوجود.
أما (الدرب) فَحَدِّثْ عنه ولا حرج
“عشرون عاما وهذا الدرب يرفض أن يسير…”
(أدونيس)
من يقول (الدرب) يقول التعذيب. كمن يقول السجن يقول الحرمان، أو من يقول الوجود يقول العدم. إنه التلازم الذي به تتحقق الوظيفة في كثير من الأحيان. وظيفة (الدرب) أن تَسْلُكَهُ إليه. لا مفر، لأنه الوجهة الوحيدة المكتفية بموقعها، المنغلقة على بنايتها. وهذا حين أدركت، بطبيعة الحال، أن (درب مولاي الشريف) ليس ممرا (للموت) ومكانا له فقط، وقد اشتهر بذلك بين سكان الحي منذ أن كان مخفرا رسميا للشرطة، بل إنه “مجهول” لا يمكن الاستدلال عليه. وهنا الخطورة: الوجود معلوم والمجهول معدوم. والذين وصلوا إليه مكبلين قد غشيت أبصارهم عصّابة لا يبين من خلالها أي شيء لا يعرفون. لا يعرفون “المجهول”. والعالم لا يعرف. ولكن، من يعرف يا ترى؟ الجلادون فقط، يستوي في ذلك من كان منهم مشرفا على أدوات التعذيب، أو أولئك القائمين على التحقيق الذي هو التعذيب المعنوي بالتأكيد، أو حراس (الأرواح المتهالكة)، نحن، في الغرف التي لا يغرب عنها الضوء في الليل ولا في النهار.
كنت وحيدا معلوما بنفسي في (الدرب) المجهول. لا أعرف من جاء قبلي ولا من أتى بعدي. ولما أدركوا أنني لا أملك أكثر مما يملكون تركوني في الممر لأيام، ثم ألحقوني بالغرفة التي سكنها قبلي حالمون مثلي، فكان منظرنا الشامل بعد أن ألبسونا (الكاكي) العسكري على شبه بفرقة من الجنود الحيارى الذين انهزموا في معركة لم تقع أبدا، أو الذين انهزموا في معركة أوقعهم عدوهم فيها وهم لا سلاح لهم إلا الصمود فغدر بهم النصر، النصر المفترض بطبيعة الحال.
في (الدرب) بدأت أستعيد ذاتي وبعض أمجادي. قلت من أنا؟، فلم أظفر في البداية بأي جواب، أو لعلي قلت في الجواب: أنا واحد من الجماعة المناضلة المحتجزة هنا. فكان أن هجرت الأسئلة المقلقة. حَسْبِيَّ الذاتُ أنني نجوت من الموت (الذي هو في “الدرب” اغتيال كما لا تعرفون)، ونجوت، فيما أظن، من الانهيار الشامل، وأقول الشامل حصرا (الذي هو في “الدرب” تحطيم للصمود وسلخ للكرامة)، ونجوت بنفسي من المحاسبة التي كانت تطرق بابي طرقا، باب الدماغ أقصد، في الليل والنهار، وما بينهما بحكم الفراغ، داعية حافزة، جارفة متوترة، تريد لي أن أقول بالكلام البوَّاح ما كنت أخجل، بحكم تركيبي النفسي المعقد، من قوله لغيري. الغير من الرفاق. الغير من الناس الآخرين. الغير الذي يطالبني، سريا، بالانسجام والمسؤولية والانضباط والتفاني وسحق التفكير البورجوازي الصغير المرافق لتكويني منذ الشباب الأول في مدينة من مدن الشمال. أقول المحاسبة، وأعني أن تتهاوى في عزلتك المفرطة، فتشرع في نهش ضميرك وفكرك والحميمية المركبة من حب وقهر، إلى أن تظهر عليك علائم بثور مدماة كنا نسميها تلطفا بـ(النقد والنقد الذاتي)، والنقد الذاتي أكثر، ولعله النقد الذاتي حصرا. الآن يبدو لي، بحكم التغيير، أن الأمر لا محالة كان على علاقة بالجلد المازوخي الممعن في الإيذاء والتجريح.
الحاصل أيضا، أن في هذا (الدرب) الصارخ مات (اقرأ: اغتيل) عبد اللطيف زروال. الواقعة صعبة وعنيفة، وعلى نفسي المكلومة معقدة، ولا أستطيع أن أكتب عن الشهيد دون أن تحاصرني، في هذه السن المتقدمة الآن، دموع الرفقة والمحبة. ولو لم يمت (اقرأ: اغتيل) في (الدرب) الذي نجوت منه أنا لَمَا كان لي ألما. مصيبة. ولَكَان لي أن أدعي في شساعة الحلم ويوم الحساب، كما فعل الغير، براءة صمود. لا، لم أفعل، وها أنذا أجتر غصة عاثرة ترافقني، وحسرة مضجرة تزعجني، لا أملك إلا أن أقول: عجبي، كيف لم أُوَفَّق في المراوغة؟
في السجن يا هوى
“قيدي أما تعلمني (مُحَطَّما)، أبيت أن تشفقا أو ترحما..”
(المعتمد بن عباد، مع التحريف:
سألتني حبيبتي، قبل أن تتخلى عني، وأنا في سجن (اغْبيلة) عن (الدرب) فقلت لها: إنه بعدَ التعذيبِ العذابُ!. لو كان (طائرة) و(كهرباء) و(ببغاء) والماء المخلوط بالدِّدِتِ (DTT) الذي يصيب الجهاز العصبي ويتلف الكبد، فضلا عن القِنَان، لقلنا هذا جزاء عظيم يلقاه مَن اعتقل وهو على نضال ضد العدو الطبقي. المشكلة أيضا أنه الصمت واستغوار الذات والماضي والمراجعة واليأس والبرحاء. والمشكلة أيضا أنه كل ذلك وغيره في دائرة محكمة من العزلة والوحدة. فكان السجن، كما أدركت حبيبتي قبل أن تتخلى عني، فسحة وعودة، وكان بالنسبة للبعض الآخر ولادة، وهو بالنسبة لجميع المناضلين الآن الطريق في العلن نحو الارتباط المتجدد بالحياة… الحياة المحكومة بقوانين السجن، ولكنها الحياة كما لم تكن في (الدرب) وعدمه.
والواقع أن السجن في بدايته، وإلى نهايته بطريقة أخرى، كان امتدادا للعزلة المفرطة، وفي نظام الاستجبار المرعب… هذا إلى شيء آخر لم يكن من الوارد تماما: العقيرة النضالية الآن، وقد علت بالصراخ مدفوعة بإرادة الانتقام، شرعت تطالب بالمحاسبة. نعم، المحاسبة. طبعا. هل انهار الجمع أم البعض فقط؟. وإذا كان الانهيار جماعيا فهل نحن فيه على نفس المستوى من الخيانة أو من الصمود؟ أما إذا كان البعض فقط، فأين هي وجوههم؟، وما القاعدة العامة للانتقام منهم يوم المحاسبة المتوقعة؟
فتية قالوا جهارا: نحن نريد إطلاق صرخة الهزيمة الجماعية، لأن العذاب الذي لحق بنا كان أليما لا يمكن أن يُحتجز في رئة أو أن يُعتقل في عقل. هيَّا بنا إلى اللعب، هيا إلى المحاسبة.
في السجن رأيت، لأول مرة، وجوه من لم أكن أعرفهم أو عرفت بعضهم بالاسم الحركي فقط. خرجنا جميعا إلى العلن بعد أن غادرنا السرية مكرهين، وعلينا اليوم أن ندشن البناء الذاتي الفردي والجماعي والنضالي والعائلي والحياتي والدراسي والسياسي والوجداني والعقدي والعاطفي والاجتماعي… البناء الذي كان يغادر الشباب شيئا فشيئا، وهو الذي كان يغادر الإيديولوجية بالنسبة للبعض، والنضال بالنسبة للبعض الآخر، والسياسة لِقِلَّة. هو البناء المفهوم كحرية في أتون الأسر، والذي يعني، بعد الخيانة أو الصمود، ان المناضل الطبقي صار شيئا آخر لم يكن عليه من قبل. الكل، بدرجات متفاوتة، كان في حِل من تقديم الحجج التبريرية الكافية، صادقا مع نفسه أو مدعيا مع غيره، لأنه كان قد حول نفسه إلى “أسطورة” صغيرة تفوح بالمعاناة مثلما تفوح الجِيَّف بالروائح العفنة.
في قمة التبرير السائغ هناك المسخ، وهذا، أي المسخ، صيغة معدلة للتَّحول، وهذا، أي التحول، شكل من أشكال الانقلاب الذي يطبع السيرورة، وهذه، أي السيرورة، مجرى حياة لا تستقر على حال، والحال، كما لا شك تعلمون، هو الحال: أي ما نحن عليه قبل أن نصير شيئا آخر… والذات لا تحب الفراغ أيضا. وهكذا في يومِ حَيْرةٍ وقلقٍ وجودي يَطِلُّ العمرُ الجميلُ عليك من النافذة الصغيرة مبتسما ودودا داعيا الزمن الحرون، والحرمان البارد، والوقت المنقضي، للتضامن جميعا، بدون تردد، من أجل إطلاق سراح المعتقل السياسي. أقصدُ لم أعد كما كنتُ، وفي هذا البيانُ كُلُّهُ.
وصلت إلى السجن وأنا على شيء من الفردية الداعية للأنانية التي اختمرت في طور الاعتقال والتعذيب والتحقيق والصمت والإذلال، فركَّبتُ في دماغي، استعدادا للمواجهة، أنني البطل بعد المناضل، الصامد بعد المنهزم، القائد بعد الجندي، الكاتب بعد القارئ، الهائم بعد الثابت، المعلوم بعد المجهول، القادر بعد اليائس، النرجسي الفائر بعد الطهراني البليد… وأشياء أخرى عفوية، يقينية، غير مدركة. وانتهى الأمر.
كنت على مذهب الجماعة في السجن لأن المخالفةَ بَيْنُونَةٌ (قل: قطيعة وهجر)، والتميز مدعاة للاشتباه. وكنت، فقط، في المجرى الذي يجري بنا جميعا في اتجاه، أو عكس، الأيام الثقيلة بالتأكيد، الرهيبة في بعض جوانبها بالطبع، تلك التي لا تترك فسحة للأمل إلا لِمَن جعل من خياله أمَلَه. هكذا، رغم علمي بثقل السنوات، حوَّلْتُ نرجسيتي إلى عزلة. أما اليقين التام الذي جعل هذه العزلة على شَبهٍ كبير بالانقطاع الذي يطلبه الصوفيون لذاتِه وَلَهُم فيه خلوة محببة فكان في الإقرار التام، وخصوصا بعد المحاكمة التي أدانت الجميع ولم تبرئ المُخْتَل حتى، بأن العقوبة، رغم زمنها المحدد، طويلا كان أم قصيرا، أقْفَلَتْ علينا أبواب الزنازن في ظلمة نفسيةٍ لا نهائية… رغم النشيد الحار الذي كان يبكيني ويُلْهِبُ دمعي: لم يَعُدْ يقبل الهوان، إذْ ذَوَتْ صرخة الظامئ، إيمانُه يُسَدِّدُ خُطاهُ، شمسُ الحقيقةِ هُدَاهْ، والأفق الأحمر يسير، لتكسير أيدي العبودية، وأنياب الفقر الوحشية، يَهُبُّ الثوار، ولهيب النار… يا سلام مع اللحن الحزين الشجي المثقل بالكبرياء!.
الحياة تدعو إلى المفارقة. وفي السجن، بعد اليأس وربما في قمته الشامخة، تدعوك أيضا إلى المقاومة. ولذلك أحب أن أُصَوِّرَنِي اليومَ، كطريقة للاعتداد بالنفس في يأس العمر، على هيئة ذلك المقاوم الأعزل الذي دُعِيَ للمواجهة المفروضة في حلبة إسْمَنْتِية لا تَتَّسِع إلا له… كلما حرك جزءا منه انكسر عليه بالضرورة!
الحصيلة النهائية مؤكدة ولكنها، لِمَنْ خبر الحرية، قد تكون هزيلة: 150 يوما من الإضرابات، أو ما هو، بالساعات الطوال، قرابة ألفيْ ساعة من الألم والحرمان.
أذكر تماما تلك الليلة المُدَوِّخة التي أطْلِقَ فيها سراحي قُرْبَ الفجر بعد 5475 يوما. أذكرها الآن بعد أربعة وعشرين عاما حين هَمَسْتُ مُلتَاعا لِمَنْ كان ينصت إلي: والآن، إلى أين سنذهب أيها الرفيق بعد 180 شهرا؟
كانتِ الوجهةُ، في نَظَر الحرية، معلومةً، ولكنها في نظر الحياة غير معلومة… أو على الأقل لم تكن معلومة بالبداهة.
باب الخلاصة
“وما نيل المطالب بالتمني، ولكن تؤخد الدنيا، (إذا استطعت)، غلابا”
(مع التحوير، طبعا).
إنني أكتب على مسافة زمنية لا تشبهني في النسيان. أكادُ أقرأنِي لِوَحْدِي في صمت مُذِلٍ كأنني أقرأ أحزاني. حكايتي لا تعنيني إلا أنا، ولا أحب أن يَملني الآخرون. عَصِيُّ كياني وأعلم أن السجن في الرأس، عَطَبَه في البدن، مَدَاهُ في الروح، أرْكانَه وتداعياته في وجداني. والألم الذي خَفَتَ مع الأيام لم يغادر أيامي… بل أراه، يا صاحبي، جمرا ورائي وَقُدَّامي.
السجن، في حالتي، أنْ تَكْتُبَه لا أن تُغَادِرَه. وقد قيل: إن الكتابةَ سَبَبٌ كافٍ للحرية، وإنَّ المغادرةَ انتقالٌ موهومٌ في الزمن… ولا أعرف من القائل. أيكُونُ أنا؟.
يوليوز (تموز) 2014
المصدر مجلة كيكا
هذه الشهادة الأدبية كتبت خصيصا لملف مجلة “بانيبال” عن “الكاتب والسجن”، سوف تنشر بالانكليزية في القسم الثاني من الملف في العدد رقم 51 (خريف 2014). نشرتها مجلة كيكا باللغة العربية بالاتفاق مع الكاتب و”بانيبال”.