في شتاء أحد أيام سنة 1996، حضر والدنا الى مخيمات اللاجئين الصحراويين مع بعثة الامم المتحدة المشرفة على الاستفتاء في الصحراء ( المينورسو )، من أجل تحديد هوية من يحق له من قبيلتنا المشاركة في استشارة الصحراويين الموعودة. و كانت مناسبة ليتعرف الوالد على وجوه أبنائه الخمسة الذين هجرتهم جبهة البوليساريو منذ سبعة عشر سنة و هم صبية، و انقطعت أخبارهم في زمن كانت فيه وسائل ووسائط الاتصال و التواصل منعدمة. أمضى الوالد ثلاثة أيام في المخيمات، و كان يسمح لافراد اسرته بلقائه كل مساء بعد انتهاء عمل مكتب الامم المتحدة. و لما حانت ساعة مغادرته للمخيمات و كنا نحن أبناؤه الخمسة ووالدتنا و بعض المقربين معه لوداعه، التفت الي و سألني أين أخوك الاكبر لماذا لا اراه معكم؟. و قد كان أخي الذي يسأل عنه جالس بقربه.
ليست حالة عدم تعرف والدي على ابنه، ولا حالة فرقته عن أسرته استثناء في واقع الاسر الصحراوية منذ اندلاع نزاع الصحراء سنة 1975 و ما نتج عنه من لجوء و تهجير تجسده المخيمات الصحراوية فوق التراب الجزائري. لكن الاستثناء أن تتكرر نفس تجربة الفرقة القسرية معي ( الابن ) فأبعد أنا الآخر عن ابنائي القصر الخمسة، و من طرف من فرقني قسرا منذ أزيد من 34 سنة عن والدي. و السؤال الذي تثيره هذه المسألة هو: لماذا على الاسر الصحراوية أن تبقى مشتتة، و لماذا و لمصلحة من تستمر هذه المأساة الانسانية التي ستدخل بعد شهرين عقدها الخامس؟.
فعادة تعرف حالات اللجوء الجماعي بأنها هروب من نزاع مسلح أو اضطرابات ظرفية بسبب صراعات عرقية، لكن الناس ما تلبث أن تعود الى منازلها او اوطانها بعد زوال الخطر المهدد للحياة. فهل لا يزال الخطر يتهدد الاسر الصحراوية في المخيمات بعد ازيد من عقدين من وقف اطلاق النار؟. حسب نظرية جبهة البوليساريو و الجزائر فإن تواجد الادارة المغربية في الصحراء يهدد حياة الصحراويين، لكن الوقائع على الارض تثبت العكس، ففي الاقاليم الصحراوية يعيش اكثر الصحراويين حسب احصائيات بعثة الامم المتحدة للاستفتاء في الصحراء التي جرت بعد وقف اطلاق النار. كما أن الآلاف عادوا من المخيمات الى المغرب بعد ذلك الاحصاء، و لم يسجل أن الادارة المغربية عاقبت او ميزت أي منهم عن بقية السكان اللهم تمييزها الايجابي للعائدين بمساعدتهم بمنح نقدية و مساكن و توظيف لتسهيل اندماجهم في المجتمع. و هناك من الصحراويين من يذهب من المغرب في زيارات الى المخيمات دعما لجبهة البوليساريو و يلتقي قياداتها العسكرية والامنية و تقام له الاحتفالات و يعود للمغرب دون أن يمنع من العودة أو يتعرض للمساءلة عدى حالة واحدة حدثت منذ خمسة سنوات. و في المقابل تمنع قوانين جبهة البوليساريو على سكان المخيمات الصحراوية العودة الى وطنهم و تصنف فعل العودة الى ارض الوطن ( الذي هو حق كوني و انساني ) على أنه جريمة خيانة يعاقب عليها بأكثر من 10 سنوات سجنا عدا عن التشهير بصاحبها و الصاق به شتى النعوت المسيئة. و قد شاركت الجزائر في جريمة منع عودة الصحراويين بحكم سيطرتها الامنية على حدود المخيمات، حيث اعتقلت الكثيرين أثناء محاولاتهم الفرار من المخيمات و سلمتهم للبوليساريو حيث امضى العديد منهم سنوات طويلة في سجونها و منهم من قتل أو بقي مصيره مجهولا الى يومنا هذا. كما منعت السلطات الجزائرية في أكتوبر 2010 والدي من زيارة اسرته في المخيمات و احتجزته في مطار هواري بومدين قبل أن رحلته في طائرة الى اسبانيا رغم أن جواز سفره المغربي صحيح و لا يتطلب التنقل بين المغرب و الجزائر تاشيرة دخول و ما تزال تمنعني من رؤية ابنائي في المخيمات منذ اربعة سنوات من ابعادي عنهم.
و يسجل التاريخ أن جبهة البوليساريو هي الحركة الوحيدة في العالم التي لم تطالب يوما بعودة لاجئيها الى ارضهم، وهو أمر يثير أكثر من تساؤل حول حقيقة نواياها تجاه الصحراويين، و يؤكد بالاضافة لتضييقها على من يحاول من اللاجئين الصحراويين التقرب من مكاتب مفوضية غوث اللاجئين للمطالبة بتسوية وضعه القانوني كلاجئ ( المطالبين ببطاقة اللاجئ )، أنها إنما تستغلهم كما يستغل البعض المدنيين دروعا بشرية، فما ارادة ابقاء الصحراويين لاجئين الى الابد رغم انتهاء الظروف التي نزحوا بسببها ( النزاع المسلح ) الا تأكيد على نية الجبهة ابقائهم دروعا لحماية مصالح قادتها في الاسترزاق و التسول بصور عيش اللاجئين تحت الخيام منذ عقود، و تهديد دائم لاستقرار المنطقة فهم حطب الحرب التي تهدد بها البوليساريو في كل مناسبة كلما ضاق هامش مناورتها. و تستخدمهم الجزائر في صراعها المفتعل مع المغرب ورقة ضغط داخلية لإستمرار اجتماع نخبتها الحاكمة غير المتجانسة، و مبرر للحضور على الساحة الدولية.
و لأنه لم يعد هناك من مبرر لبقاء الصحراويين مشتتين، و لأن الحزام الدفاعي المغربي ليس هو سبب التشتيت كما تدعي البوليساريو، و لأن المغرب لا يمنعهم من العودة الى ارضهم و لم يثبت أنه صادر ممتلكاتهم و لا عاقب العائدين منهم رغم حملهم السلاح ضده، و لأن جبهة البوليساريو و الجزائر هما من يمنع و يجرم عودة الصحراويين الى ارضهم و تواصلهم فيما بينهم. فعلى المجتمع الدولي أن لا يبقى مكتوف الايدي أمام هذه المأساة الانسانية التي يعيشها الصحراويين منذ عقود، و أن يبادر الى مساعدتهم في العودة الى وطنهم و استعادة حياتهم الطبيعية من خلال الضغط على جبهة البوليساريو لرفع يدها عن المدنيين الصحراويين و تمكين مفوضية غوث اللاجئين من مسئوليتها في حمايتهم الى غاية أن يحدد كل منهم مصيره بشكل حر و مستقل.
المبعد الصحراوي الى موريتانيا: مصطفى سيدي مولود
نواكشوط في: 27 يوليو 2014