فراس عزيز ديب – فرنسا
يقول «إقليدس»: (ساوي الشيئين ثلاثة، فالثلاثة متساوون).
عبارةٌ ردَّدتها يوماً فيلسوفة الإسكندرية «هيباثا» على اثنين من طلابها، أحدهما مسيحي، والآخر وثني، اختلفا في النقاش بينهما أمامها…
مع بدايةِ ما يُسمى «الثورة السورية»، والتي حمل ثوارها منذ أسابيعها الأولى كلَّ شيءٍ إلا أغصان الزيتون، نتذكر كيف حدثت عمليات اغتيالٍ كثيرةٌ لأدمغةٍ وعقولٍ سورية وازنة، كان ما يميز هذه الشخصيات أنهم بالمُجمل يعملون في الظل، وربما حتى عائلاتهم لا تعرف إلا القليل عن طبيعة عملهم، من هنا اتضح أن لوائح الاغتيال تلك هي لوائح «موسادية» بهدف التّخلص من تلك الأدمغة التي تقضّ مضجعها، تحديداً أن فوضى ربيع الدم العربي، استطاعت أن تجعل من أي «ثائرٍ» مشروعَ قاتل، فما بالنا إن كنا نتحدث عن تنظيماتٍ وليدةٍ من رحم التطرف، بغطاءٍ تحرريّ.
تطوّر الأمر ليتحوّل هؤلاء الثوار إلى «دواعش» أنجبت لنا خليفة، سخر الجميع من هذا التنظيم بعد ظهوره رسمياً على الساحة. أعداء سورية ( حتى بعض الوسائل الإعلامية اللبنانية المقروءة والمسموعة، التي ليس لها عنوان، فتهاجمنا وتمدحنا حسب بورصة الدولار القطري)، اعتبروه لعبة مخابراتيّة يتقنها «النظام» في سورية، لكي يبرِّر لنفسه رفع سقف عملياته العسكرية من جهة، واستعطاف الغرب من جهة ثانية، كَونَ الغرب -كما يتوهم البعض- لديه حساسية من المجاميع المتطرفة، وربما لكي نصيب كبد الحقيقة نتحدث عن المجاميع المتطرفة التي لا يشرف عليها فقط. اليوم بدأ الإعلام المعادي، بالترويج لمصطلح، ( انتهاء شهر العسل بين داعش والنظام السوري). هذا المصطلح بدأ يأخذ مكانه في الإعلام، انطلاقاً من فشلين أساسيين عانت منهما الدول المعادية:
الفشل الأول، تجسّد بعدم القدرة على إقناع الرأي العام، بأن هذا التنظيم هو من صنيعة «النظام السوري»، أو كما يحلو لمثقفي الشاشات أن يقولوا إن هذا التنظيم اخترعه «النظام السوري»، لتشويه سلمية الثورة. روجوا كثيراً لهذه الأكذوبة، لكن النتائج لم تأتِ بما تمنت قلوبهم، حتى لو اضطروا في النهاية للاستعانة بـ«وليد جنبلاط» في محاولة منهم للترويج لهذه الفكرة. كانوا يستندون في الترويج لأكاذيب هم على أمر أساسي مفاده: لماذا لم تحدث أي مواجهة مباشرة بين داعش والجيش العربي السوري.
أما الفشل الثاني، فتجسّد من خلال ما شهده الأسبوع الماضي لأول مواجهتين مباشرتين بين الجيش السوري، وإرهابيي التنظيم، إن كان لجهة المعارك التي دارت، في الرقة، أو غزوة التنظيم للسيطرة على «حقل الشاعر» للغاز في ريف حمص.
تبدو الغزوة الداعشية نحو «حقل الشاعر» للغاز أشبهَ بخطأ تكتيكي من قبل الممولين، والداعمين. استعجلوا البحث عن انتصارٍ يكبحون فيه جماح المعنويات المرتفعة للمواطن السوري، بُعَيد خطاب الرئيس الأسد لمناسبة أدائه القسم، إلا أن استعجالهم الأمر جعلهم يرتكبون هفوةً لا يجب أن تمرَّ مرور الكرام.
إنّ حال السيطرة على حقل الغاز، لا يشبه بأي شكلٍ من الأشكال حال السيطرة على حقول النفط. ففي حالة حقول النفط فإن أمر الاستخراج والنقل والبيع يبدو سهلاً، يستطيع القيام بها أي شخص. أما فيما يتعلق بالغاز، فإن هذا الأمر يبدو صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، لأن أمر استخراج الغاز بحاجة لخبراتٍ وتقنياتٍ هائلة تبدأ من عمليه الاستخراج، وتنتهي بعملية النقل التي تحتاج لمعدات خاصة. من هذا المنطلق لا يبدو أن الهدف الداعشي من هذا الأمر هو كسب المزيد من المصادر المالية، حتى الحديث عن ثروات داعش ما هو إلا حديث لتبرير ما تتلقاه هذه الحركة من داعميها. إن الهدف الأساسي من هذه السيطرة هو التخريب لا أكثر ولا أقل، والدفع بالوضع المعيشي للمواطن نحو المزيد من الصعوبة قد تصل نحو الانفجار. لأن هناك من باتَ يريد اللعب على وتر الحالة الاقتصادية الصعبة التي يعيشها المواطن السوري، وهذا يثبت أن هناك من يدير المعركة من خلف الكواليس.
هذا الأمر ينطبقُ تماماً على الإعتداء الذي شنَّته داعش على مقر «الفرقة 17»، تحديداً كان الأسد قد تحدث عن استعادة الرقة «الحبيبة». إذاً يبدو الهدف هو تأكيد سيطرة داعش على المنطقة الممتدة من الموصل إلى الرقة. ليس ذلك فحسب لكن الأمر بات مرتبطاً أيضاً بتحشيد القوات في الجهة الشرقية لمدينة حمص، باعتبار أن إمكانية التمدد الداعشي «متاحة»، تحديداً أن على الضفة اللبنانية هناك من يريد محاورة هؤلاء، لا قتالهم، وكأنه لم يتَّعظ من درس الموصل.
لا يبدو أن درس الموصل قابل لأن يبدِّل النظرة الغربية تجاه ما يجري، أو بمعنى أدق لا يبدو أن أزمة المسيحيين في الشرق تعني لهم أن يبدلوا تحالفاتهم مع عُتاة الإرهاب، من داعش وغيرها. كذلك الأمر نبدو نحن كمن يغالط نفسه عندما نحاول تعويم الحدث المرتبط فقط بتهجير المسيحيين، حيث إن الغرب بات يفهم وكأن مشكلة هؤلاء المتطرفين هي فقط مع المسيحيين، علماً أن الأمر ليس كذلك، وهذا ما عبر عنه الكاتب «ويليام ريمبل» في «صحيفة الغارديان» بتقرير عن المخاطر المُحدقة بمسيحيي الشرق بعنوان «الدولة الإسلامية المسمار الأخير في نعش المسيحيين والعلمانيين والقوميين العرب». نجح الغرب بطريقةٍ ذكية بتحويل مشكلة العصابات الإرهابية من الدخول في حرب مع الغرب الكافر، إلى الدخول في حرب مع الكفار المحيطين، من منطلق الأقرباء أولى بالمعروف، وهذا الأمر عبّر عنه المدير السابق لجهاز الاستخبارات البريطاني «ريتشارد ديرلوف» بالقول: إن التطرف الإسلامي اختلف في طبيعة التهديد الذي يشكله منذ غزو العراق، حيث أصبح يشكل تهديداً للعالم العربي، أكثر منه للغرب الذي لم يعد يشكل هدفه الرئيسي.
هذا الكلام بات واضحاً من خلال توالي الحديث بأن التنظيم يتلقى مساعدات مالية منذ سنوات من رجال أعمال قطريين، سعوديين وكويتيين، أي حلفاء الولايات المتحدة، وأصدقاء «إسرائيل» في المنطقة، وكان آخر المتحدثين عن ذلك، الصحفية السويدية «كاترينا لاغرويل»، في صحيفة «داغنز نيهيتر». لأن الدعامة الأساسية لهذا المشروع باتت واضحة وهي التقسيم، بالتالي هل حقاً أن هناك أزمة تهجير للمسيحيين، أم إن هناك ما هو أصعب بانتظارنا؟ بالمطلق علينا ألا نَسقط بما يريده الغرب لنا بتعويم الحالة المسيحية وكأنها الحالة الفريدة في إجرام داعش، وكأنهم يتعاملون مع باقي الفئات بحالة من الرقي الحضاري، فالغرب بالمطلق لا يعنيه أمر المسيحي، وربما لم تعد تعنيه الديانة المسيحية من أساسها، فهو بات يرى في عيد الفصح عيداً لتكسير البيض، وعيد الميلاد فرصة لالتقاط الصور التذكارية مع «بابا نويل»، لا أكثر. إن قضية إفراغ الشرق الأوسط من مسيحييه هي حالةٌ إعلامية تبدو في بعض جوانبها تسئ للمسيحيين أكثر من أن تستدرّ العطف لهم، لأنها تُظهرهم وكأن الوطن بالنسبة لهم فندقاً يغادرونه عندما تسوء الخدمة فيه، والقصة هي بعكس ذلك تماماً، فمسيحيّو الشرق يدركون أكثر من غيرهم ما جاء في إنجيل يوحنا، الإصحاح 16. «سيطردونكم من المجامع، بل تجيء ساعة يظن فيها من يقتلكم أنه يؤدي فريضة لله». لكن المشكلة الأعمق أن هناك من بات يسعى فعلياً لخلق حالة تجعل المطالبة بدولة مسيحية في الشرق، على غرار ما يطالب به «اللوبي القبطي في الولايات المتحدة»، هي أمر مقبول، في ظل إعادة رسم حدود هذا الشرق، بطريقةٍ قد تجعلنا نتحسر على أيام «سايكس- بيكو».
إن محاولة تعويم فكرة أزمة المسيحيين في الشرق، هي جزء من اللوائح الموسادية التي يتم تنفيذها، لبناء الشرق على أسس الدول الدينية. لو أنهم اهتموا لأمر المسيحيين لما دعموا داعش التي تكتب على أبواب من يخالفها حرفي «الراء» أو «النون»، للتمييز بين من يسمونهم «الرافضة»، أو«النصارى»، أفلا تعقلون!.
هكذا قال يوماً اقليدس، (ساوى الشيئين ثلاثة، فالثلاثة متساوون). عقّبت «هيباثا» من منطلق الاختلاف بالرأي، لكن لم يخطر في بالها أن هناك في هذا الشرق من يريد أن يساوي الثلاثة… لكلٍّ دولته…
الوطن