بقلم: فريد أمعضشـو.
عبارة عنوان هذه المادة/ التقرير هي نفسُها عبارة الشعار الذي اختارته جمعية “جسور للبحث في الثقافة والفنون” لمهرجانها الأول في المسرح الفردي، الذي نظّمته مؤخراً، على امتداد يومين، بتعاون ودعمٍ من مندوبية وزارة الثقافة بالناظور، والذي تميّز بتنوع أنشطته وفِقْراته الثقافية والفنية. والواقع أن هذه التظاهُرة (مديرُها هو القاص والناقد المسرحي د. جمال الدين الخضيري) تنضاف إلى تلك المهرجانات والملتقيات التي نُظّمت، في عدد من العواصم والبلدان، عن فن المونودراما (Monodrame)؛ كما في فرنسا مثلا، وكما في مصر وسوريا والعراق والمغرب، الذي احتضن أول مهرجان حول المسرح الفردي، أواخرَ السبعينيات. وعرف قُبيل ذلك وبعدَه انتعاشاً واضحا، وامتدّ إشعاعُه إلى خارج المغرب على يد مجموعة من أعلامه ورواده، وفي مقدمتهم عبد الحق الزراولي ذو الإسهام المُميَّز في هذا الإطار إبداعاً وتشخيصاً وإخراجاً وتنظيراً، دون إغفال إسهامات آخرين في هذا المسرح، الذي يُؤْثِرُ بعضهم تسميته بـ”مسرح الممثل الواحد”؛ من مثل نبيل لحلو، ومحمد أوجار، ومحمد تيمُد، ومحمد الكغاط. ويُرْجِع دارسون سبب انتشاره إبّانئذٍ إلى أنه غير مكلِّف ماديا ما دام لا يتطلب مصاريف كبيرة على الممثلين والأكسِسْوارات والتنقل وما إلى ذلك، ولكنْ لا بد من الإقرار بأنه يحتاج إلى ممثلين أكْفاء يُجيدون تأدية عدة أدوار، ويملكون من الطاقات الإبداعية ما يؤهّلهم للسيطرة على الخشبة، واستثارة جمهور النظارة وشدّهم إليهم. يقول د. مصطفى رمضاني: “إذا كان الممثل الفرد يقوم بكل الأدوار بنفسه، فإن ذلك يعني أنه ينبغي أن يمْلك طاقات كبيرة من الحيوية والخلق من أجل ملء فراغ الرُّكْح، ومن أجل شغْل ذهن ووُجدان المتفرج. فمن طبيعة هذا المسرح أنه يثير الملل ما دام الممثل لا يتغير، وإنْ تغيرت الأدوار. لهذا فإنّ الممثل يصبح هو سيد المسرح، فجسَدُه هو حواره ولغته وإبداعه، وهو شبيهٌ بذلك الفنان الذي عرفناه في فن الحلقة حيث كان يشدّ خيال الجمهور ساعاتٍ طِوالاً، أداؤه في ذلك حيلُه وبلاغته وأداؤه السحري المعبِّر”.
ولعل من أهم فقرات هذا المهرجان الندوة النقدية التي نظمت في يومه الأخير، بمشاركةِ ثلةٍ من النقاد ذوي الإسهامات المعروفة في النقد المسرحي، وقد سيَّرها القاص ميمون حِرْش. فأما أولُ مداخلة فيه فكانت بعنوان “المونودراما فرجة شاملة”، ألْقاها د. جميل حمداوي، وتطرق خلالها إلى جملة محاور مهمة بدْءاً بتعريف المونودراما، ورصْد خصائصها ومقوّماتها تيماتيكيا وجمالياً، وانتهاءً بتبيان مواقف الدارسين منها إيجابا وسَلباً، مروراً بتعقب تاريخها في الأدبيْن الغربي والعربي، والوقوف عند أسباب نشأتها وتطورها وغير ذلك ممّا له صلة بالفن الدرامي الذي نحن بصدد الحديث عنه ها هنا. فمصطلح “المونودراما” مكوَّن من شقين: مونو (واحد)، ودراما (حركة، توتر،…)، مشتقّ – إيتيمولوجياً – من أصل يوناني، ويحيلنا على نوع حديث في المسرح العالمي، ينصرف مدلوله إلى ذلك المسرح الذي يتولى القيام بجميع الأدوار فيه شخصٌ واحد، مستعيناً أحياناً بأدوات ومُعِينات إذا اقتضتها المسرحية الممثلة في حد ذاتها. وبخلاف المسرح الجماعي الذي يتناول قضايا اجتماعية ووطنية وقومية…، فإن المسرح الفردي يهيمن عليه الموضوع النفسي والذاتي؛ إذ يتناول تيمات الاغتراب والقلق والعزلة والإحباط واليأس… ومن الناحية الفنية، تمتاز مسرحيات المونودراما بعدة خواصّ؛ منها وجود شخصية محورية، متعددة الأقنعة، يوكَلُ إليها أداءُ أدوار كثيرة، وتكون – في الغالب – شخصية إشكالية، غير منجَزَة، مُحْبَطة. ومنها تكسير البنية الزمنية الخطية، وكذا صورة الشخصية النمطية، والمزاوجة بين الخطابين السردي والحواري، مع جنوح واضح جدا إلى تغليب كِفّة المونولوج لِما يتيحه من إمكانات للتعبير عن التوتر والهذيان والانفعالات النفسية عموماً.
ويذهب كثير من الباحثين إلى أن المونودراما نشأت في الغرب، خلال القرن 19، وإلى أنها ليست فنا يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الأوربي. على حين يرى لفيفٌ من الدارسين أن المسرح الفردي قديمٌ في الثقافتين الغربية والعربية معاً؛ إذ يقول أستاذنا مصطفى رمضاني: “والحق أن هذا النوع من المسرح ظهر في اليونان؛ حيث كان الممثل هو سيد الحفل المسرحي، ولعل “تيسـﭙيس” هو أروع مثال يمثل هذه الريادة الفنية”. ولكنّ بعضهم ينفي عن هذا المسرح صفة “الفردي”، بدعوى حضور الكورس (الجوقة) فيه إلى جانب شخصية الممثل المحوري. ويجد ناقدون إرهاصاتٍ للمونودراما، عربيا، في فن الحلقة القديم لدى العرب، ولدى المهرّجين ومروِّضي الحيوانات والكوميديين العرب الأوائل. وتعود بداية المونودراما في المغرب إلى أواسط السبعينيات، مع ثلة من رموزها، وفي طليعتهم – بلا منازع – عبد الحق الزروالي. ويؤكد دارسون أن المونودراما، بصورتها الحديثة المعروفة الآن، لم تتبلور إلا في القرن 19، بألمانيا، مفهوماً ومصطلحاً. وتحدث د. حمداوي – عقب ذلك – عن تطور هذا المسرح، كمّا وكيفا، راصداً مميزاته في الآداب الغربية القديمة، في العصر الروماني والعهد الإليزابيثي وغيرهما، وفضاءات ممارسته، وتجلياته، وأبعاده، ودواعي نشوئه وازدهاره في الأدب الحديث خاصة؛ من مثل تنامي النزعة الرومانسية في الأدب والفن، وظهور السُّريالية التي حفِلَ مُنْجَزُها الإبداعي بالحلم والهذيان، وانتعاش الفلسفة العبثية خلال أواسط القرن الماضي، علاوة على أنه مسرح غير مكلِّف ماديا. وأشار الناقد، خلال مداخلته، إلى قلة الدراسات النقدية المُفْرَدَة كليةً للمونودراما، ذاكراً عدداً من الكتب التي خصّتْ هذا المسرح بمباحث وفصول فقط؛ ومنها دراسات لمحمد أديب السلاوي، وصليحة نهاد، وغيرهما. وتجدر الإشارة إلى أن للدكتور جميل كتاباً عن مسرح الممثل الواحد بالمغرب سيرى النور قريباً بحول الله، ولا شك في أن صدوره سيشكل مكسباً مهما للمكتبة النقدية المسرحية العربية التي تعاني نقصا ملحوظا في هذا الصنف الدرامي. وتحدث المُحاضِر، في آخر كلمته، عن مواقف النقاد من المونودراما، أو “الوانْ مانْ شُو” (One man show) بتعبير الإنجليز، التي لا تكاد تخرج عن اثنين رئيسيْن؛ أحدهما يرفضها ويحكم عليها بالفشل، لافتقادها الحوارَ الذي يعد محور المسرح بوصفه فنا جماعيا في أصله وطبيعته. على حين يدافع عنها آخرون، مؤكدين أنها ظاهرة جديدة في عالم الدراما، مُشترطين في إبداعاتها الجودة والتميز واحترام مقومات الكتابة المونودرامية، وأعلن د. حمداوي عن اصطفافه إلى جنب هذا الفريق.
وتمحورت المداخلة الثانية حول “شروط المونودراما على مستوى النص والعرض المسرحييْن”؛ فجاءت مقسّمة إلى قسمين؛ أبرز صاحبُها الأستاذ لحسن قناني، وهو مبدع مسرحي وممثل ومخرج وناقد ومنظِّر للكوميك الصادم، في أولهما شروط فن المونودراما، على مستوى الكتابة الدرامية؛ مِنْ مِثل ضرورة توفر الحكاية (Fable) في نصوصها، واقتناص اللحظة المناسبة لكتابتها، علاوة على وجوب تمثلها مقومات هذا الفن موضوعاً وتقنيةً وجمالياتٍ. على حين تناول في قسمها الثاني شروط العرض المونودرامي تشخيصاً وإخراجاً وديكوراً وما إلى ذلك من متطلَّبات هذا العرض.
وركزت مداخلة د. جمال الخضيري على بيان “خصوصية المسرح الفردي بالمغرب”، من خلال الوقوف، تحديداً، عند إحدى التقنيات البارزة الموظفة في هذا النوع المسرحي، ويتعلق الأمر بـ”الكولاج” (Le collage). ونشير إلى أن ثمة تقنيات فنية أخرى تُستعْمَل في هذا المسرح كذلك؛ من قبيل الرسائل، والصحف، ووسائط التكنولوجيا الحديثة. وقبل أن ينتقل الناقد إلى رصد مظاهر الكولاج في المسرح الفردي بالمغرب، حدّد مفهوم هذه التقنية اعتماداً على التعريف الذي قدّمه لها باﭭيس (P. Pavis) في معجمه القطاعي المعروف في هذا الصدد؛ إذ إنها تقوم على “الكُوبْيِي كُولِي” (Copier/ Coller)، وعلى التوليف بين خطابات ونصوص مختلفة للخروج بعمل جديد مدمج. والواقع أن هذه التقنية مُستقْدَمَة من مجال الفن التشكيليّ، ولاسيما من التكعيبية والسوريالية، وأنها تشبه المونتاج (Montage) في السينما. ولعل المرحوم محمد مسكين واحد من أبرز مسرحيينا الذين أكثروا من توظيف الكولاج في مسرحياته الملحمية.
وصنّف الخضيري الكولاج في المسرح المغربي المعاصر إلى ثلاثة أصناف في مداخلته هذه، التي غلب عليها الطابع التطبيقي، كالآتي:
* الكولاج على مستوى التأليف: ويتجلى في تناصّ بعض مُبْدِعي المونودراما مع خطابات ونصوص سابقة، ورجوعِهم إليها للاقتباس منها واستثمارها في تأليف مسرحيات جديدة، سواء أكان تناصُّهم مع كتابات سابقة لهم أم مع إنتاجات غيرهم. فمن النصوص التي عمدت إلى التضمين والاقتباس من كتاباتٍ سبقت للمبدع نفسِه نذكر مسرحية “زكروم الأدب” للزروالي، الذي كان كثيرَ الاتكاء على مسرحياته السابقة لكتابة أخرى جديدة. ومن النصوص التي قامت على التناصّ مع كتابات سابقة لغير مبدعيها نذكر مسرحية “رجعة ليلى العامرية” لبشير القمري، التي ضَمَّنَها جملة خطابات ومُقتبَسات من كُتاب آخرين.
* الكولاج على مستوى أساليب اللعب؛ كما في “أوفيليا لم تمت”، وهي مونودراما عبثية باللغة الفرنسية، ألّفها نبيل لحلو، ومن ميزاتها حضور السخرية والاستيهام والحُلم وتداخل الشخصيات على مستوى الممثل الفرد.
* الكولاج البصري: ويتحقق في مسرحيات يعْمِدُ أصحابُها إلى إلصاق جملة من الصور والرسومات في عروضهم الدرامية استغناءً بها عن الحوار والكلام. ونجد ذلك في بعض مسرحيات نور الدين ماضران مثلاً.
وعرف المهرجان تقديم ثلاثة عروض مسرحية مونودرامية على خشبة القاعة الكبرى بالمركّب الثقافي بالناظور، وهي: مسرحية “مجنون ليلى” التي ألّفها وشخّصها وأخرجها نور الدين ماضران، ومسرحية “بُوثَغْواوِينْ” بأمازيغية الريف المغربي، وهي من إخراج وتشخيص المبدع فاروق أزنابط، ومسرحية “زُومي عْلِيّا .. نْزُومِي عْليكْ”، بالعامّية المغربية، قام بتمثيلها إدريس الشليحي، وتجدر الإشارة إلى أن العنوان الأصلي لهذه المسرحية هو “ميكرو كراسي” للَحْسَن قنّاني، وقد تولى إخراجها فرقة مسرحية من “جْرَادَة” بالعنوان الجديد، وكانت مفاجَأة بالنسبة إلى مبدعها الذي شارك جمهور الناظور في التفرج عليها لأول مرة. وتخلل المهرجان ورشة تكوينية في فن المونودراما أطّرَها الفنانان الطيب معّاش ونور الدين ماضران، وحفلٌ لتوقيع كتاب قنّاني الموسوم بـ”المسرح والمسألة الحقوقية”.
لقد دشّنت جمعية جُسور بهذا النشاط الغنيّ انطلاقة مهرجانها في المونودراما، وهي تطمح إلى أنْ تجعله تقليدا سنويا، يحضره مُبْدِعو هذا الفن وناقدوه ومنظِّروه؛ لمناقشة قضاياه، وتناول موضوعاته وفنّياته وأبعاده، ولتقديم عروض فرجوية تقرّبُه من جمهور الفن الدرامي، ومن عامة الناس. كما أنها عبّرت عن عزمها على استدعاء أقطاب في هذا الفن من المغرب ومن خارجه، لينتقل المهرجان إلى تظاهرة عربية ودَوْلية، في حال إذا توفرت الإمكانيات لذلك طبْعاً.