قال الراوي بعد ألف صلاة على النبي الحبيب، و الذي صلى عليه أبدا لا يخيب ، ـ يا سادة يا كرام ـ ثم أمر الملك زهير العبيد بذبح الجمال و الأغنام ، و أن يشرعوا بترويج الطعام ، فما كانت إلا ساعة حتى دارت الأقداح و اتسع مجال الأفراح ، و تجاذبوا أطراف الحديث و المزاح ، و أشار الملك زهير إلى عنترة، و قربه إليه في مجلسه ، من دون غيره من من حضر من السادات و الأكابر، و قال له :
ـ نريد منك أن تنشدنا شيئا من أشعارك و تذكر لنا بعض أعمالك
فتقدم عنترة و أنشد و قال :
أتى الدهر بالأمر الذي أنت طالبه.. فعش سالما قد أمكنتك عواقبه
حضرت به فاصفر و اخضر نبته… وزاد ابتساما شرقه و مغاربه
و هذا غدير أنت أعذبت ماءه .. علينا لولاك نهلت ما سحائبه
و فاح نسيم المسك من نار زهره….. وبانت لنا آياته و عجائبه
فلما سمع الملك زهير و الحاضرين هذا الشعر و النظام ، زاد بهم الطرب و الهيام ، و دارت بهم الكاسات و طابت لهم الأوقات ، و انتبهوا لللذات و بادروها قبل الفوات..
و بينما هم في تلك المرومات ، و إذا بغبرة سرعان ما بان من تحتها مائة فارس، يتقدمهم فارس مليح القوام بوجه مثل بدر التمام..
فوقفوا له على الأقدام ، يستطلعون خبره و من يكون بين الأنام ، ثم ترجل ذلك الغلام عن فرسه ، و دنا من الملك زهير و قبل يديه و عانقه معانقة الولد لأبيه ، و جرت على خدوده الدموع ،و شكى من فؤاد موجوع ، و هو يقول بصوت أجش من صوت الحمام :
يا أمان الملهوف و المستجير .. كن معيني على العدا و نصيري
أنت ربيتني صغيرا يتيما… و بنعماك جبر قلبي الكسير
سيدي قد رمى الزمان فؤادي… بسهم فشق ستري ضميري
فلما أنشد الغلام هذا النظام ، تعجب الحاضرون من هذا الكلام ، فما بقي ممن حضر المجلس إلا من رحم هذا الغلام ، و دعا الى نصرته في الحال ..ثم إنهم و تطاولوا عليه حتى يعرفوا حقيقة الحال ، و خاطبه الملك زهير وقال :
ـ اكشف لنا عن حالك و أخبرنا عما جرى لك حتى أننا نتحمل أثقالك ..
فقال الغلام :
أعلموا انني أخ مالك بن الملك زهير ، و امه قد ارضعتني معه و تشاركنا الشراب و الطعام ، و نشأت معه نشأة الكرام ، لكني غادرت الاوطان عند أخوالي من بني مازن ، و لما كبرت و مرت بي الأعوام ، صرت أحب ابنة خالي وأردت أن أتزوجها هذا العام ، لكن تقدم اليها فارس آخر و طلبها من خالي ، فغضبت منه غضبا شديدا ، و تفاخرت معه بالكلام و تبارزنا و تعاركت معه بالصدام حتى تغلبت عليه، و أوثقته بإحكام ، و أعرضت عن قتله و أطلقت سبيله لأنه كان ضيف خالي ، و ليس من عادة العرب الكرام إيذاء الضيف ، تم سمعت بعد ذلك ما كان من خالي و كيف يعيرني بفقري وعسر حالي ، فعزمت أن أقدم لابنة خالي كل مهر غالي ، و إن مت من أجله لا ابالي ..هذا ما جرى من أحوالي …
تم التقيت بابنة خالي و حدثتها عن الأمر ، و كيف عولت على الخروج في طلب المهر، و الإتيان لخالي بما يرضيه و لو بذلت الروح فيه ، فلما سمعت ما أقول صارت تبكي بكاء شديدا ، و دموعها تسيل على خدها تسيل مثل السيل ..فكادت مرارتي تنفقع لرؤية ذلك ، ثم ودعتها و أنشدتها هذه الأبيات :
ودعتها و تركت قلبي عندها .. كيف الخلاص بمهجتى من ذا العنا
فبكيت بفرقتها بدم …. قد ملكت الفؤاد فازداد الضنى
فلما سمعت مني بنت خالي هذا الشعر و القول ، أجابتني بمثله و هي تقول ، صلوا على النبي الرسول :
عليك سلام الله مني دائما … إلى أن تغيب الشمس حين تطلع
عجبت من حب يمد يمينه …. إلى حبه يوم الوداع و يسرع
ثم خرجت من الديار في طلب المهر و الغنيمة …و في غيبتي ظهر عساف ، و كان فارسا جبارا ، أرضه قد أجذبت ، فخرج يغير على القبائل و يحتل المراعي بالعسف و الغصب ، و يضرب المضارب في الأراضي الكثيرة العشب ، حتى أن رعيانه كانوا يرعون فيها دون تعب ، فاتفق أنه اقترب من ديارنا ، و رأى بنت خالي على سبيل الصدفة ، فأرسل إلى أبيها خاطبا و راغبا ،و سأله أن يطلب المهر الذي يريد ، ليدفعه إليه بلا تقصير و يزيد ، و إن رفض هدده بأن يحمل على بني مازن بالنفير ،و يقتل منهم الصغير و الكبير .
فرد عليه خالي بما كان من خطبتها لي ، فلما سمع عساف من الرسول ذلك، غضب و هاج مثل البحر العجاج المتلاطم بالأمواج … و أقسم أن لا يأخذها إلا و هي أسيرة بالسيف..
في الغد الحكاية 27 من حكايات أبي الفوارس عنترة بن شداد
د محمد فخرالدين