كتاب: الرياضة والسياسة والفلسفة..تأملات بصدد تعاطي المنشطات (23

كتاب: الرياضة والسياسة والفلسفة..تأملات بصدد تعاطي المنشطات (23

- ‎فيرياضة
1648
0

albert-einstein1أينشتاين

2- طلاق المنشطات أم مُعَايَرَتُـها؟
غير أن الدهشة لا تتوقف عند هذا الحد. إذ يظهر أن هذا القمع الداخلي المحض، يهدف في الحقيقة إلى آثار خارج الرياضة.
ونتحدث عن الآثار ذات الاستعمال الخارجي لأن الملاحظ أن الحملة ضد تعاطي المنشطات مصنوعة أساسا من كلمات، أي أنها لفظية، ولفظية فقط، مصنوعة من كلمات ونقاشات ومناظرات وشعارات، يتكلم الناس ويتحدثون ويشرحون ويبررون : غير أن هذه التفسيرات قليلة الارتباط بالواقع الرياضي، وبالتالي شديدة التغاير. ويطالب أحد البراهين بصحة الرياضيين، وهو برهان ضعيف الإقناع داخل مجال نعرف جيدا أن الرياضة ذات المستوى العالي تولد أمراضا مميزة، لدرجة أننا إذا أردنا الحفاظ على الصحة الجيدة لأبنائنا وبناتنا، فمن الأفضل نصحهم لا بالابتعاد عن المخدرات، وإنما بتجنب المنافسات، إن الرياضة تقتل وتصيب بالأمراض أكثر من المنشطات.
البرهان الثاني، والأكثر تواترا برهان أخلاقي. يطابق بين تعاطي المنشطات والغش. وهو ضعيف لسببين : أولها أن من المعروف كثيرا أن الغش يعني عدم احترام قواعد اللعب، ومن ثم لا يكون تعاطي المنشطات غشا إلا ابتداء من اللحظة التي يكون فيها ممنوعا، غير أن هذا لا يفسر لماذا حصل تغيير قاعدة اللعب بين عشية وضحاها، وما كان مسموحا به بالأمس، صار ممنوعا اليوم، فهذا شبيه بوضع أضواء ثلاثية الألوان وسط الصحراء فقط لمعاقبة القوافل التي تخرق الضوء الأحمر. ومن ثم، فالضعف الأول منطقي، أما الثاني، فذو طبيعة أدلوجية، لأن الشعارات الداعية إلى تخليق الرياضة، ليست موجهة إلى الرياضيين أو إلى المدربين، وإنما تستهدف الأطفال والمراهقين واليافعين: “تعاطي المنشطات ليس اللعب، المنشطات تعادل الغش، يجب عدم تعاطي المنشطات…”. وهذه الشعارات البلهاء يمكنها التأثير في دروس الاستراحة لكنها بعيدة بآلاف الأميال عن الوقائع الرياضية. ومعروف حجم التكاليف التي يتطلبها من الداعمين والبلديات تدريب فريـق أو بطل، ومن المعروف كذلك القيمة المالية الباهضة التي ترتفع إليها التعاقدات الإشهارية في حالة النصر أو الحصول على ميدالية، وذلك دون الحديث عن الأرباح الطائلة والرمزية أساسا التي تعود على الرياضة نفسها. وأمام هذا، نرى أن هذه الحملات تتوجه إلى الشباب لا إلى الرياضيين.
وإذا كانت الرياضـة تـزدري من يتعاطـون المنشطات، فـإن هذا لا يعود بالفضل عليها، بل على الأخلاق المجتمعية. إن الرياضة، وهي ضحية شعبيتها، صارت أداة تربية مدنية لا تعنيها مباشرة وتؤدي عنها الثمن. إنها واجهة المجتمع برمته، وقد وقع تخليقها بإفراط لتكون قدوة ونموذجا ومثالا. وفي عالم صار لايكيا، حيث حياة القديسين والخوف من جهنم لا يستثيران أحدا، وجد الرياضيون أنفسهم ملزمين بلعب أدوار القديسين في مجالاتهم (العدو، الماراطون، السباحة، الملاكمة، القفز على الحواجز…) في حين وجد آخرون أنفسهم يكررون بحزن وتعاسة قُبْلَة جودا Judas المفعم بالأمفيتامين والمترع بالمنشطات والمتعتع بالمسكرات. وبخصوص هذا التخليق العمومي، ليس من الضروري ضبط جميع المذنبين، بل فقط بعض الأمثلة والنماذج الفاقعة، التي تكفي لضرب المثل وأخذ العبرة، إنها مسألة توازن. فلو أن محاكم التفتيش أحرقت جميع الهراطقة وأهل البدع، لخلت المساجد والكنائس عن عروشها ولصارت خالية تماما، أو تماما تقريبا. وقياسا على ذلك، لو أقصت الرياضة جميع من يتعاطون المنشطات، لما عادت هناك منافسات كبرى وبطولات. لذلك، فالمطلوب ليس طلاق المنشطات، وإنما معايرتها، أي تناولها بمعايير معلومة وبمقادير موزونة. نعم للمنشطات. لكن، دون إفراط.
3-التفتيش الرياضي المقدس
لقد حان الوقت لإعمال القليل من الفلسفة. إذ إلى حدود اللحظة الراهنة، تم الحديث عن بعض الوقائع المعروفة جدا، فلماذا يتعين على الرياضة تبنـي قيم لا تخدمها؟ لماذا نطلب من الرياضة الاضطلاع بوظائف أخلاقية، في حين لا نطلب شيئا من السينما والمسرح والباليه والأغنية والأدب والألعاب المتلفزة وغيرها؟
ضمن الكتيب الصغير الذي أصدرته عام 1992 تحت عنـوان: بصدد الرياضة، قدمت فكرة مقتضاها أن النجاح التاريخي للرياضة يؤوب إلى اتصال التفوق- تحطيم الرقم القياسي- بفكرة التقدم. وهذه الفكرة عن تقدم الإنسانية، والتي اقترحتها فلسفة الأنوار في القرن الثامن عشر (ديدرو، فولتير، كانط) شكلت القيمة الأساسية للبورجوازية الثورية في ق 18 (التقدم السياسي) والبورجوازية الصناعية في القرن التاسع عشر (التقدم التقني)، غير أن هذه الفكرة معقدة، ووجدت صعوبة كبيرة في أن تصير شعبية. فما السبب!؟ من اللافت جدا أن التقدم الثوري نحو الحرية تَرَافَقَ مع العنف والرعب، وأن تقدم الإنتاجية خلق البطالة والاستعمار، وأن خلف كل أينشتاين يوجد البطل المرعب لهيروشيما. ووحدها الرياضة، قدمت مثالا بسيطا وشعبيا عن فكرة التقدم هذه.فمعرفة أن كل رقم قياسي سَيُتَجَاوز يوما، وشمت في الذهنيات الجمعية مفهوما لم يتوصل أي فيلسوف إلى عرضه بطريقة مقنعة. لقد هزمت الرياضة الفلسفة فوق ملعب الفلسفة عبر تحقيق شعبية فكرة ذات منحى شعبي ولم تنجح من قبل أبدا في أن تقوم وتتأسس بصفتها حقيقة أولى.
وعليه، فالمسألة تنطرح على النحو التالي: تجسد الرياضة فكرة التقدم وتجعلها بسيطة، غير أن الرياضة نفسها ليست بسيطة، وإنما هي آلة ضخمة تشتغل بالسياسة والمال والإعلام. والفرجة الرياضية تشبه مركز بيت عنكبوت يلتصق تقريبا بجميع بنيات المجتمع (الصحة، المدرسة، الجيش، الأشغال العمومية، وغيرها)؛ ولكي “تشتغل” تربية التقدم، يجب إعطاء فكرة مبسطة عن الرياضة، وتشذيبها وتهذيبها وتنقيتها وتطهيرها. وفي أفق تطهير مؤسسة، يكفي إلصاق بعض القذارات بها ثم إزالتها عنها بضجة كبيرة وضمن فرجة أكبر. فقد تطهرت الكنيسة من البدع التي صنعتها لنفسها لهذا الغرض. وطهر ستالين الشيوعية من تروتسكية صنعها هو نفسه غالبا؛ واختفى التروتسكيون تقريبا قصد التطهر من الستالينيين، ومن المحتمل جدا أن تختفي الرياضة إذا تكبدت عناء التطهر ممن يتعاطون المنشطات.
وبخصوص مسألة تعاطي المنشطات، بدا لي منذ سنوات خلت، أن هذه الحملة تشبه “تطهيرا” يتم على حساب الرياضة ولصالح تربية جماهيرية جيدة. إذ تم تبسيط الرياضة عبر اختزالها في ثنائية: المنشطات /لا منشطات، كي تكون مثالا بسيطا لفكرة التقدم المعقدة، وهي فكرة جوهرية للديمقراطية الليبرالية.
وعندما صدر كتابي عام 1992، اعتقدت حينها أني انتهيت من أمر الرياضة إلى الأبد. وكنت حينها أجهل أن الرياضيين هم فلاسفة أكثر مما أنا رياضي. ومنذ سنتين ونحن نتبادل الرأي ونتجاذب الأفكار والآراء بكيفية حضارية وبصراحة كلية وأنيقة. ومن تم وجدت نفسي ملزما، عبر الرياضيين ومن خلالهم، بالعودة إلى العمل والإياب مجددا إلى تفكر وتدبر أمور الرياضة. وعبر هذه العودة والإياب فحصت الكثير من الوثائق والكتب، فحصا سمح لي باقتراح بعض الفرضيات الإضافية والتكميلية على شكل ملاحظات، لأنني لم أتوفر على الوقت الكافي للتنقيب بما فيه الكفاية ضمن هذه الاتجاهات الجديدة.

يتبع

ألفـــــــه: إيف فارگاس

تــرجمــــة : عبد الجليل بن محمد الأزدي / بلعز كريمة

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت