– جحيم الحرب ومثال الرياضة
منذ زمن عريق نسبيا، أكد السيد بيركلي أن “الوجود إدراك”. وعلى امتداد الأزمنة والعصور، قديمها وحديثها، ظل الحس السليم يلهج فيما يشبه النطق بحكمة أو مثل سائر: “لا يؤمـن الإنسان إلا بما يـراه”. والحس السليم لا يكذب، ولا يذهب إلى طريق الخطأ والباطل، ولا يأتيه الخطأ والباطل. أو هكذا يتوهم على الأقل. وإذا كانت الشعوب قد أمكنها الاعتقاد أن الحرب ضد العراق كانت حربا قانونية، فلأنها شاهدت ذلك، وبأمهات عيونها رأته.
فما معنى رؤية الحق ومشاهدة القانون؟ يمكن في أقصى الحالات رؤية انبعاث المسيح، في المنحوتات واللوحات الفنية ورؤية نبالة النبيل عبر وقاره المتعجرف والصلف، لكن هل تمكن رؤية الحق؟ هل توجد فرجة تتيح رؤية القانوني في صورة البداهة المؤكدة للأمور غير القابلة للنقاش؟ ما الإستراتيجية التي تبدت بها الحرب شيئا آخر غير صدام القوى الوحشية؟
لا يبدو الأمر هَيِّناً. فالدول فيما بينها في “حال طبيعية”، ولا وجود لقانون ينيف عليها، ولتصفية خلافاتها، وحدها القوة تشرع القوانين، ومع ذلك، تم الشروع في تقديم الحرب النفطية ضد العراق بصفتها عملية بوليسية تهدف فرض احترام القانون على مجرم جانح. وقد وقع وصل شرعية هذه العملية بنمط من التعاقد المجتمعي الدولي، انخرط فيه جميع الفرقاء، بل وعينوا سلطة تحكيمية ممثلة في هيئة الأمم المتحدة. غير أن المحاولات السابقة للولايات المتحدة قصد تحرير خصومها باءت بالفشل: ذلك أن قصف طرابلس “لمعاقبة القدافي الإرهابي”لم يكن مقنعا؛ كما لم يكن مقنعا هدم مركز باناما -سيتي ووفاة ألفي (2000) مدني قصد “اعتقال الرئيس مهرب المخدرات”. ومن ثم، لم يكن كافيا وصم صدام حسين بجميع المثالب قصد تبرير هذه الحرب. ولم يكن كافيا تكرار العبارات الدالة على ضرورة سيادة القانون في هذه المنطقة من الخليج، وإنما وجب إبراز ذلك وإظهاره بحيث يكون مرئيا ومدركا للعيان.
الإظهار: أي إرفاق وقائع الحرب بحركية قابلة للتعرف عليها مباشرة بصفتها علاقة قانونية. وقد كان في الإمكان، مثلا، محاكمة الرئيس العراقي، وهو مصفد اليدين بين دركيين، ونحن نعرف أن هذه الفكرة ما فتئت تراود الذهن المريض للرئيس بوش وزوجته والقادة الأوروبيين. لكن، وفي سبيل هذا، كان من الواجب اعتقاله، وبالتالي إعلان الحرب عليه. وكان بالإمكان كذلك مهاجمة العراق وإسرائيل بكيفية متزامنة، بهدف إبراز أن زمن القانون قد حل وأن خرق القانون المشترك لا يمكن القبول به أبدا، وأن الشرطة ليست لها صداقات خاصة وتضرب جميع الجانحين وبنفس الصراحة الواضحة والظاهرة. ولكن يجب أن نتوقف عن الحلم…
ولن يتبقى بعد ذلك إلا إدراج وحشية قانون الأقوى ضمن إطار ذهني معد سلفا يسمح باحتواء الحدث ضمن مجال الحق. وقد كان هذا الإطار هو إطار المقولات الرياضية.
فلماذا الرياضة؟ ألأن هذه الفرجة النبيلة تحاكي الحرب عبر استعمال القوة والخدعة والسرعة، أم لأنها تتطلب مثل الحرب منتصرا ومنهزما؟ لا. إطلاقا، بل لأن الرياضة شكلت منذ قرن ونصف المرجع المجازي الأساسي للحق والقانون. ويتعلق بمواجهة محكومة كليا بقواعد قبلية تشكل واقعا بالقوة (إن هدفا بعد صفارة النهاية ليس هدفا). وهي معركة مرئية ومعلنة يسبق فيها القانون الحدث (اليوم والساعة والمكان وهوية المتبارين، تحدد الحدث اللاحق)؛ إنها معركة مرئية وبسيطة حيث تمكن معرفة المنتصر عبر بضعة مقاييس أو عمليات الإضافة الأولية : النصر يُرَى ويُحْسَب. وهنا يتحقق ما اعتبره پاسكال مستحيلا: إحقاق الحق بالقوة. وفي الرياضة، لا تتم المواجهة إلا ضمن الإطار الذي تشخصه القواعد.
يتبع
ألفـــــــه: إيف فارگاس
تــرجمــــة : عبد الجليل بن محمد الأزدي / بلعز كريمة