فجأة انتبه الجمهور إلى ان الإعلام لم يعد هو ذاك الصوت المحايد الذي ينقل الخبر ويرفه على المتلقي بل غدا جزءا من مسار التغيير. فأحداث الربيع العربي وما تلاها تثبت أن المنابر الإعلامية بمختلف تلاوينها ليست آلية لنقل الخبر وتسويقه بل جزءا من منظومة إيديولوجية وسياسية توجه الأحداث وتضبطها حسب الحاجة الاجتماعية والسياسية. ويكفي أن تتأمل عناوين الصحف المغربية والمواقع الإلكترونية وتقارن بينها لتميز الانتماءات الحقيقية لكل منبر من المنابر ومواقفها من الأحداث اليومية للسياسة الوطنية لدرجة انك تعرف حديث الصحيفة قبل أن تفتحها. وهذا يجرنا إلى السؤال المحوري: هل للإعلام أخلاق؟ وهل يتنافى الانتماء مع القيم المجتمعية؟ وما هي مقاييس المهنية التي يتحدث عنها رجال الإعلام؟
تناسلت الردود على الانتقادات الأخيرة لوزير الاتصال للمضامين الأخلاقية لبعض المسلسلات المدبلجة المعروضة في بعض قنوات القطب العمومي، كان آخرها رسالة بعض ـــ”المثقفين”ـــ (بين قوسين وعارضتين) المنتمين لفيلق العلمنة والإباحية، وقد توقفت جل الردود عند تحليل سلطة الوزارة الوصية على الإعلام وقدرتها على التأثير في القرار. واتسمت غالبية الآراء بسمة الانطباعية التي يغيب عنها العمق المطلوب في قراءة المشهد الإعلامي وتموجاته وإنجازاته. وفي هذه الحال لا يختلف المتخصص والصحفي عن الانسان العادي. فعموم المواطنين على اختلاف انتماءاتهم لا تمل من التساؤل عن هذه العلاقة وعن تأخر إصلاح هذا القطب العمومي الخاضع لإرادة نخبة فرنكفونية تأتمر بأوامر السيد الفرنسي وما دور وزارة الاتصال ومن يعرقل الإصلاح…وغير ذلك من الأسئلة. وما لم يتوقف عنده الكثيرون، ربما لأسباب ذاتية، أكثر منها معرفية، هو أن “صرخة” الوزير هي في حد ذاتها تعبير عن نجاح مسار مأسسة الإعلام في أفق إنهاء فكرة تحكم الدولة وتوجيهها للرسالة الإعلامية من خلال الوزارة أو الآليات المختلفة. فالمقارنة البسيطة بين حالة النقاش الحالي والحالة القديمة حيث الإعلام لم يكن يتجاوز وظيفة التبشير والتهليل بله والتوجيه، والآن لم يعد متاحا للوزير أو اي مسؤول أن يغير في نظم الاشتغال دون ترسانة قانونية معتبرة. إذن فهو مسار من التحرير الذي جعل الإعلام يتحرك في مساحة كبرى من حرية التعبير دون قيد أو شرط.
لكن استقلالية الإعلام عن الدولة ووصايتها فتح المجال لبروز أنواع أخرى من التحكم ليس داخليا فقط بل دوليا، لأنه المجال الذي تتحرك خلاله الإيديولوجيا للتعبير عن مشاريع مجتمعية ثاوية وراء العرض البارز. فعلى سبيل المثال كان مشاهدو التلفزيون الأميركي يجهلون كيف كان مذيعو شبكة NBC يتفننون في التنويه بقدرات الأسلحة المتطورة التي وردتها شركة “جنرال الكتريك” أثناء حرب الخليج إلى الجيش الأميركي في حين أنهم لم يخرجوا عن كونهم يمدحون الشركة التي تدفع لهم رواتبهم. نفس الشيء يمكن ملاحظته في الإعلام المصري الخاص الذي داوم خلال السنوات الأخيرة على التقلب تبعا لمصالح رؤوس الأموال وأجنداتها. لهذا يعتبر سيرج لاتوش الإعلام المعاصر جزءا من شبكة العولمة التكنو – اقتصادية والثقافية التي تجتاح العالم اليوم، القائمة على زعزعة نظام القيم وتوليد هائل لأزمات أخلاقية على بنية المجتمع. ومن هنا تبرز ضرورة وجود “قانون للسلوك الحسن” كما يقرّر لاتوش. لكن مفهوم القيم في حد ذاته خاضع للتجاذب. فالأكيد أن وظيفة الإعلامي لا ينبغي أن تكون وعظية بالأساس لكن في نفس الوقت ينبغي أن يكون المعيار هو مدى التعبير عن الفضاء المنتج/ المتلقي. فحدود الحرية المقصودة ينبغي أن تنضبط بمجموعة من النظم التي تجعله تعبيرا حقيقيا عن المجتمع المستهلك/ المتلقي وليس فرضا وتوجيها نخبويا للآراء الشاذة فكرا وتعبيرا كما هو حال إعلامنا العمومي الذي استغل حالة الانتقال لفرض مساره الفرنكفوني الخاص. والشذوذ يخشى دوما من الديمقراطية لأنه نخبوي مفروض على المتلقي وحين يعرض على شمس الانتقاء يكون مصيره الرفض والإقصاء. لذا أخشى ما تخشاه النخبة المفروضة على الإعلام الممول بأموال دافعي الضرائب هو صوت المجتمع حين ينتقل من حالة التلقي إلى حالة التعبير.
الآن انتهى دور الدولة وتحكمها في المشهد الإعلامي، والترسانة القانونية التي أنتجت وتنتج هي ترسيخ لهذه الاستقلالية المنشودة، من دفاتر التحملات إلى الكتب البيضاء إلى قانون السمعي البصري، لكن الإشكال المطروح هو أنه حين تغيب الدولة تحضر اللوبيات الاقتصادية والسياسية التي جعلت من الإعلام آلة لتوجيه فهوم الناس ومسلكياتهم. فما نعيشه الآن من انحطاط قيمي في الإعلام ليس نابعا من المجتمع أو قيمه او عاداته بل هو نتيجة لتحكم نخبة فرنكفونية مأجورة في المشهد ومن خلاله تحاول فرض قيمها أو القيم المكلفة بفرضها. لذا فحين نتحدث عن قيم المجتمع ومبادئه لا ننطلق من رؤى طوباوية بل من تصور واقعي لعلاقة المجتمع بذاته وذاكرته وانتمائه، وما يمارس الآن في القناة الثانية وبعض برامج القنوات العمومية الأخرى هو إجرام في حق هذا الشعب ولحمته المجتمعية. لذا فغياب الدولة ينبغي أن يعوض بحضور فعلي للمجتمع وآليات المراقبة المدنية من خلال جمعيات المشاهد والمستهلك والجمعيات الحقيقية وليست المأجورة. آنئذ يمكن الحديث عن إعلام حر ومسؤول.