فاتح ماي، أو بكلمة أفصح وأوضح: “فاضح ماي” بعد فقدانه للكثير من حمولته الاجتماعية، هكذا أسماه ذات نشاط عابر، المسرحي والفنان الساخر، المغضوب عليه تلفزيونيا لما يزيد عن عشرين سنة، السيد: أحمد السنوسي الملقب ب”بزيز”، الذي ظل يرفض بقوة العودة إلى قنوات التضبيع على أنقاض كرامته. فاتح ماي، يوم استثنائي في حياة شعوب الدول المتقدمة، المحترمة لحقوق الإنسان، والتي جعلت منه عيدا أمميا للشغل، تستحضر فيه أهم المكتسبات وتطالب بالمزيد، بينما هو عندنا “فاضح” ماي، لأنه يفضح تلكؤ وإخفاقات الحكومات المتعاقبة، في الالتزام بوعودها وتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان العيش الكريم للمواطنين، كما أنه يكشف عن تراجع دور النقابات، عن تشرذمها، غياب الديمقراطية لدى زعمائها الخالدين، وتعثرها في تأمين الحماية الاجتماعية وانتزاع الحقوق المشروعة للشغيلة…
فاتح ماي 2014، أتى مغايرا لسابقيه، عندما أبى رئيس الحكومة السيد: بنكيران، بفطنته ودهائه المعهودين، إلا المزيد من الإمعان في إذلال النقابات وإضعافها، بعد أن خارت قواها وفقدت بعض مقوماتها، وكما سبق له أن فعل بها في مناسبات عدة، خاصة عند إقدامه على الزيادات المتتالية في المحروقات، واستصدار قرار بالاقتطاع من رواتب المضربين عن العمل، وإغلاق كافة قنوات الحوار الاجتماعي، سارع من جديد إلى إرباك حساباتها ومباغتتها على بعد يومين من انطلاق تظاهرات “الاحتفال” العمالي، متعهدا بالزيادة في الحد الأدنى للأجر لموظفي القطاع العام والجماعات المحلية لبلوغ 3 آلاف درهم، ولمأجوري القطاع الخاص بالاستفادة تدريجيا من زيادة نسبتها 10 بالمائة، موزعة على مرحلتين: 5 منها الأولى ابتداء من فاتح يوليوز 2014، والثانية في فاتح يوليوز 2015. هذه “الزيادة”، وإن بدت لبعض المستهدفين إهانة لهم، وللبعض الآخر أنها في ظل التهاب الأسعار “عضة من الفكرون…”، ولا يمكن إلا قبولها، ورأى فيها الموالون وأنصار الحزب الأغلبي، إلى جانب ما رافقها من تدابير أخرى كاستفادة الأبوين من نظام التغطية الصحية، لفتة إنسانية جديرة بالاهتمام، فقد ذهب بعض الظرفاء إلى القول: إنه بالنظر إلى الانقراض شبه التام، للفئات التي يقل دخلها الشهري حاليا عن ثلاثة آلاف درهم في الوظيفة العمومية، فالغلاف المالي المخصص لهذه الهدية المسمومة، لن يتجاوز في أحسن الأحوال تكاليف رحلتين أو ثلاث رحلات في طائرة خاصة، كالتي أقلته بمعية بعض وزرائه إلى مدينة الرشيدية، لحضور جنازة الطالب: عبد الرحيم الحسناوي رحمه الله، المنتمي إلى “منظمة التجديد الطلابي” التابعة لحزب “المصباح”، والذي لقي مصرعه بجامعة ظهر المهراز بمدينة فاس، إثر صدامات عنيفة بين فصيلين طلابيين، ندينها بشدة ونأمل أن يتم تطويقها قبل انتقال العدوى إلى جامعات أخرى…
وفي علاقة بهذه “اللفتة”، لم يشأ الاتحاد العام لمقاولات المغرب، الشريك الرئيس في الحوار الاجتماعي، إلا أن يعبر عن امتعاضه وقلقه العميقين حيال القرار الحكومي الانفرادي، معتبرا نفسه غير ملزم به مادام يكتسي طابعا سياسيا وليس بعدا اجتماعيا، محذرا من كون الزيادة المنزلة بالمظلات، سوف لن تساهم عدا في تآكل القدرة التنافسية للصناعة الوطنية، وستؤثر سلبا على مناصب الشغل في القطاع الصناعي، والدفع بالمقاولات إلى الارتماء في أحضان القطاع غير المهيكل. وأعدتها النقابات أنها من بين أسوأ الزيادات في حياة المأجورين، ولا ترقى إلى أبسط حدود انتظارات الطبقة العاملة وعموم الشغالين، وأن كل ما جاءت به الحكومة من مقترحات، هي مجرد ترقيعات وذر للرماد في العيون…
وعلى عكس ردود الفعل المتباينة حولها، فقد جعلت منها الحكومة ثمرة حوار جاد ومسؤول، لا يمكن الاستهانة بها على المستوى الاجتماعي، لما تشكله من إجراء حاسم في تعزيز السلم الاجتماعي ببلادنا، والرفع من قدراتها على مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عما قد يترتب عنها من استتباب الأمن ودعم الاستقرار، لتشجيع السياحة وجلب الاستثمار. وطالبت أرباب العمل، بضرورة تفهم الموقف الذي أملته ظروف المرحلة، والتعامل معها بإيجابية والانخراط الجماعي في تنفيذها… قد يكون مشكل عدم التواصل بين رئيس الحكومة والآخرين، راجعا إلى ما يعانيه من تعنت وحول في العينين، أو ربما يكمن الخلل حسب منظوره الخاص في قصر بصر معارضيه وضعف بصيرتهم، لذلك يراهم يتآمرون على نسف كل ما يتعارض وأجنداتهم، غير مبالين بآمال وأحلام الشعب. ومما يزيد الهوة اتساعا، اعتقاده السائد برضا المغاربة عما يحققه لهم من “إنجازات”، وتعويلهم عليه في النهوض بأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، فصار أكثر إيمانا بأنه يسير في الاتجاه السليم، قصد إعادة التوازن المالي إلى الميزانية العامة للدولة، وأنه عازم على ألا يخذل أحدا بعد تخلصه من عدوه اللدود: شباط، في فتح الأوراش الكبرى ومعالجة الملفات العالقة، وألا تتأخر النسخة الثانية من حكومته في تفعيل مقتضيات الدستور، ومباشرة الإصلاحات المتعثرة والمتأخرة، متى وكيف؟ الله وحده الأعلم …
عموما، أمسى رئيس الحكومة واثقا مما يتخذه من قرارات وما يجترحه من حلول، حتى وإن كانت مؤلمة ومنهكة للجيوب، فإنه يجدها تصب في تصحيح ما أفسده الآخرون، وأن حزبه ليس حزبا سياسيا يبحث عن المقاعد، ويسعى إلى الشهرة وتحقيق المنافع الذاتية، بل هو تيار إصلاحي له مرجعية إسلامية واضحة، غايته التضحية من أجل المصلحة العليا للوطن. فيا سبحان الخالق الرحمان ! بربكم متى كان المصلح يلجأ إلى استغلال طائرة في ملك الدولة، لأغراض حزبية؟ إن أملنا وثيق في أن تبادر جميع الفصائل الطلابية، بعيدا عن منطق الثأر والانتقام، إلى الحوار الهادئ والرصين، لتجاوز الخلافات ونبذ العنف، وأن يتوقف مسلسل الاقتتال الرهيب بينها، حتى لا يضطر سيادة الرئيس إلى ركوب الفضاء مرة أخرى تفاديا لأخطار الطيران، ولئلا يخل بما دعا إليه وزراءه من ترشيد وتقشف في الإنفاق…
قد نشك في كون “الباطرونا” غير قادرة، في ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي تجتازه البلاد، على إخراج حفنة دراهم من خزائنها، للحد من آلام الطبقة الكادحة وإخراس الحناجر الصادحة، وأنها لحفظ النظام العام، ستتحمل على مضض هذه الضربة المفاجئة، لكننا على يقين تام، بأن حيل السيد بنكيران لم تعد تنطلي على أحد من أفراد هذا الشعب العظيم، وأنه عبثا يمهد للاستحقاقات المقبلة ويلعب ورقته الأخيرة، في محاولة فاشلة للتصالح مع الناخبين واسترداد ثقتهم، سيما بعد أن أظهرت الانتخابات الجزئية الأخيرة، في دائرتي سيدي إفني ومولاي يعقوب بمدينة فاس، مدى قدرة المواطنين على التمرد ومعاقبة المتنكرين لتعهداتهم.. فالشعب منذ تلقيه أول الصفعات، المتجسدة في أول زيادة في أسعار المحروقات بتاريخ: 12 يونيو 2012، أي بعد مرور ستة أشهر فقط على اعتلائه كرسي الرئاسة، أمهله بما فيه الكفاية للوفاء بوعوده، إلا أن الأمور ازدادت استفحالا وتأزما: نظام المقايسة، الرفع من الضرائب، الارتفاعات المهولة لأثمان النقل والمواد الأساسية، ولا شيء غير تقويض ظهور المسحوقين. والأكيد، أنه لن يصدق بعد اليوم تباكيه، إلا المغيبة عقولهم. نسأل الله لهم الشفاء العاجل…
حكومة السيد بنكيران، إن لم تكن الأفظع والأبشع، فهي على الأقل امتداد لسابقاتها، من حيث تضييق الخناق على الطبقة المتوسطة وتوسيع دائرة الفقر والهشاشة، تفتقر إلى الفكر الاقتصادي المنتج، وإلى البعد الاستراتيجي والرؤية الثاقبة في استشراف آفاق المستقبل، وتعجز عن اقتراح بدائل تحقق إقلاعا صناعيا واقتصاديا يساهم في خلق الثروات. فلا هي هيأت مشاريع تنموية ناجحة ولا عملت على تقوية الاستثمار لإنعاش الشغل… فالزيادة الحقيقية في الأجور والتعويضات، هي تلك التي يحظى بها علية القوم من وزراء وبرلمانيين وقضاة وولاة وعمال… وما على سعادته إلا أن يتهيأ في ما تبقى من أيام معدودات، للعودة إلى جلبابه وطربوشه، وأن يتمعن جيدا في هذا القول: ” تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وأن تخدع بعض الناس كل وقت، ولكنك لن تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت”…