عبد العزيز بوتفليقة
في 8 ماي 2012؛ و أمام جموع حاشدة جاءت لتحضر خطاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بمناسبة ذكرى 8 ماي 1945. و أمام رمزية الذكرى، و قبيل 48 ساعة فقط عن موعد إجراء الانتخابات البرلمانية. أعلن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة باللفظ مكررا و مؤكدا بـأن: ” جِيلِي طاب اجنانو” و أنه حان الوقت لتستلم الأجيال الجديدة المشعل. و هو ما فهم منه بأنه إعلان صريح عن عدم الترشح لولاية رابعة غداة انتخابات 2014. حينها كان الرئيس يقوى على الحركة و الكلام و مخاطبة الجماهير. و لا أدل على ذلك أن خطابه دام زهاء 40 دقيقة. و كاد الأمر يتحول إلى يقين بعد تدهور حالته الصحية بشكل لافت بعدها بسنة. فما الذي حدث حتى ينكث الرئيس بعهده فسح المجال أمام الأجيال الجديدة ؟
تبالغ الكثير من التحليلات إلى درجة المغالطة، معتبرة بأن هناك صراعا محتدما بين تيار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بقيادة فعلية ميدانية متمثلة في الأخ الأصغر للرئيس السعيد بوتفليقة، مستشاره الخاص و أمين سره، و نائبه الفعلي المؤتمن على تسيير البلاد. و بين المخابرات العسكرية المعروفة اختصارا ب DRS في شخص “الشبح” الفريق محمد مدين الملقب ب “التُّوفِيق”. و هذا غير صحيح، أو بالأحرى غير دقيق ! لأن كلا المعسكرين يمثلان في حقيقة الأمر معسكرا واحد هو معسكر الحكم. و التجاذب الدائر أو سوء الفهم الكبير الدائر بين الطرفين ليس حول شخص الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بقدر ما هو حول الوضع الصحي للرئيس. فتيار الأخ أو التيار الرئاسي يدفع بعبد العزيز إلى عهدة رابعة، و لا يهم الوضع الصحي بقدر ما يهم أنه لم يبلغ بعد درجة العجز التام المقعِد. بينما يرى التيار الثاني من داخل دائرة القرار بأن بوتفليقة رجل المرحلة، و لكن وضعه الصحي الذي أصبح حديث الجزائر من شأنه الإخلال باستقرار منظومة الحكم، و تأجيج دعوات التغيير التي بدأت أصواتها تتعالى. علاوة على أن التيار المتحفظ على الولاية الرابعة متخوف من أن يصبح الحكم فعليا و كليا _ و هو الحاصل حاليا _ بيد السعيد بوتفليقة، بحيث تمسي العهدة الرئاسية الرابعة عهدة لتنصيب السعيد بوتفليقة رسميا ليس إلا.
من الواضح بأن المعسكر الحاكم سواء معسكر آل بوتفليقة المدني مدعوما بمؤسسة الجنرلات؛ على رأسها الفريق أحمد قايد صالح رئيس الأركان و نائب وزير الدفاع؛ و محيطه من النواة الصلبة المكونة من جنرالات السلطة، يُضَاف إليها كل من الجنرال أحمد بوسطيلة مسؤول جهاز الدرك الوطني، و معه عبد الغني هامل المدير العامل للأمن الوطني. بينما نجد في الجهة الأخرى من نفس المعسكر الحاكم جهاز المخبرات العسكرية، و معه شخصيات مدنية سياسية من داخل فلك السلطة أو كانت من داخل فلك السلطة تمثل تيار التحفظ على العهدة الرابعة نتيجة الأوضاع الصحية لبوتفليقة و ليس على شخصه. قد وصلت إلى الباب المسدود ! فلا هي متفقة على ترشيح بوتفليقة، و لا هي متوافقة على شخصية يمكنها خلافة بوتفليقة ؟ هذا التوتر يفسر الضربة الاستباقية التي قام بها السعيد بوتفليقة في صائفة 2013. حيث قام بتغييرات مهمة؛ على رأسها بتعيين الفريق أحمد قايد صالح رئيس الأركان نائبا لوزير الدفاع، و هي الوزارة التي يشرف عليها الرئيس بوتفليقة باعتبار رئيس الجمهورية و وزير الدفاع و القائد الأعلى للقوات المسلحة. إضافة إلى تغييرات أخرى غير منتظرة، مست جهاز DRS، و وصلت إلى محاولة تفكيك الجهاز صراحة، بإحالة عدد من الأذرع الفعالة و الأقسام الحيوية التابعة للجهاز على مصالح خارجية.
و الحال أن الذين يدفعون بأطروحة الصراع ما بين المؤسسة الرئاسية و عبد العزيز بوتفليقة ثم أخيه السعيد بوتفليقة، و بين تيار المخابرات العسكرية DRS في شخص الفريق محمد مدين يبالغون في التقدير، بل و يخلطون الأمور! لأنه كان من السهل بمكان على الفريق “التُّوفِيق”. حسم الموقف لصالحه في 2013، و ذلك بإعلانه لحالة فراغ منصب الرئيس نتيجة تعذر الرئيس عن ممارسة مهامه. و هو الذي قضى زهاء 3 أشهر متصلة في رحلة علاج أولى بفرنسا. في محاولة لتكرار السيناريو التونسي ل 7 نوفمبر 1987 حين أقال يومها وزير الداخلية زين العابدين بن علي الرئيس المريض الحبيب بورقيبة. سيما و أن هناك عددا من الأصوات قد نادت بضرورة الإعلان عن فراغ منصب رئيس الجمهورية نتيجة مرض الرئيس، و غيابه عن الساحة علاوة على الفراغ الدستوري الحاصل نتيجة غياب منصب نائب رئيس الجمهورية ! و هو التعديل المرتقب و الذي وعد به الرئيس بوتفليقة في رسالة وجهها قبل أيام؛ تُلِيت باسمه ضمن برنامجه الانتخابي. و إن كان الدستور يحيل صلاحيات الرئيس إلى رئيس المجلس الشعبي الوطني أي البرلمان الجزائري في شخص محمد العربي ولد حليفة. كما حدث في دجنبر1978 عندما تولى رابح بيطاط بوصفه رئيس للبرلمان الجزائري؛ المرحلة الانتقالية عقب وفاة الرئيس الهواري بومدين.
و لكن كيف وصلت الأوضاع إلى هذا الحد ؟ الجواب أن معطيات كثيرة على مستوى مجموعة اتخاذ القرار قد تغيرت. فلم يعد الجيش أو تلك النواة الصلبة بالجيش الماسكة بزمام الأمور على حالها، بل انحلت و تفككت بفعل عوامل داخلية و أخرى. علاوة على مناورات خاضها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، و الذي أعلنها صريحة أثناء مفاوضات استقدامه سواء في 1994 أو في 1999، بأنه لن يكون ثلاثة أرباع رئيس ! بل يريد أن يكون رئيسا كامل الصلاحية. بالإضافة إلى معطيين في غاية الأهمية:
الأول: و يتمثل في الصعود اللافت لأخ الرئيس السعيد بوتفليقة قبيل العهدة الثالثة، و تحديدا بداية من 2008 و لا نقول صعوده المفاجئ، بقدر ما كان مجرد خروج إلى الواجهة. و ازداد نفوذه عقب مرض أخيه الرئيس، بحيث أصبح المسير الفعلي للبلاد. أما المعطى الثاني: فهو الفراغ لسياسي الكبير نتيجة الانسحاب المؤثر لعدد كبير من الوجوه السياسية ذات الثقل السياسي الوازن. بداية من المجموعة التاريخية التي نافست بوتفليقة في انتخابات 1999 و فضلت الانسحاب عوض خوض المعركة الانتخابية، بعد تأكدها من أن الانتخابات قد حسمت سلفا، و بأنه لا داعي للمشاركة الصورية. و هم كل من: الراحل المحفوظ النحناح رئيس حركة حمس المقصى دستوريا لعدم توفره على الشروط الموضوعة؛ علما أن خاض انتخابات 1995. و الوزير القوي في عهد الرئيسين الهواري بومدين و الشاذلي بن جديد الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي. و الزعيم التاريخي و مؤسس أقدم معارضة بالجزائر؛ السيد الحسين آيت أحمد مؤسس جبهة القوى الديمقراطية. و الشيخ عبد الله جاب الله مؤسس حركات: النهضة مرورا بالإصلاح الوطني؛ و وصولا إلى حزب جبهة العدالة و التنمية، و مولود حمروش رئيس حكومة الشاذلي بن جديد. و مقداد سيفي الرئيس الأسبق في حكومة الرئيس اليمين زروال. ثم يوسف الخطيب أحد القادة الميدانيين للثورة التحريرية. فقد تخلص بوتفليقة من ثقل الشخصيات السياسية التاريخية المنافسة. و هو ما نتج عنه وجود طبقة أقل وزنا، سواء في انتخابات 2004 أو 2009 . أما معسكر أصحاب البزات الخضراء و النواة الصلبة تحديدا، فقد انقسمت عشية انتخابات 2004 حيث ضعف تأثيرها، قبل أن يتدخل الأجل المحتوم، إذ توفي كل من الفريق محمد العماري قائد الأركان السابق، و قبله وفاة الجنرال القوي إسماعيل العماري أحد أبرز قادة جهاز المخابرات؛ ثم وفاة الجنرال العربي بلخير…و بذلك خلت الساحة للرئيس بوتفليقة، ليطيح بدستور 1996 و الذي لم يكن يسمح بأكثر من عهدتين رئاسيتين.
و الأكيد أن حالة التجاذبات “الخفية” سوف تبقى مستمرة، على الرغم من رجحان كفة التيار الرئاسي بقيادة السعيد بوتفليقة، و الذي يبدو أنه قد حقق تقدما ملموسا، و مقلصا بذلك من دور بعبع المخابرات العسكريةDRS؛ إلا أن الأيام القادمة تبقى حبلى بالأحداث، سيما و أن كل القرائن تؤكد بما لا يدع مجالا للريبة، بأن الرئيس بوتفليقة لا يمكنه مباشرة عمله كرئيس لعهد جديدة. و الدليل تخلفه عن قيادة حملته الانتخابية بنفسه، أو حتى إعطاءه مجرد انطلاقتها ! فكل الحملة تقام باسم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة و نيابة عنه. و عليه، فلا يمكن التنبؤ بمدة الأشواط الإضافية و متى تنتهي و لكن الأكيد أنها بدأت بمجرد إعلان بوتفليقة عن الترشح لولاية رابعة !