في مملكة والدي … !

في مملكة والدي … !

- ‎فيرأي
148
6

 

بقلم :سميرة مسرار

كثيرة هي الأوقات التي كنت أهرب فيها من حاضري إلى طفولتي لأبحث عن أحلام طفلة صغيرة. لم أكن أعرف لذلك سببا، ربما كان كل هذا مجرد لحظات تعب تجعلني أحن لفترة اللامسؤولية وحياة اللعب، أو ربما كان التعرض لصدمات الحياة يدفعني إلى الفرار بجلدي والتملص من النفاق الذي يحيط بنا، أو لحظة إشتياق لأب محب سرقه الموت ! عدة تساؤلات تطرق باب العقل دون القدرة على الوصول لجواب مقنع.

حنيني لطفولتي ذو ارتباط قوي ومباشر بأبي. فمنذ صغري وأنا لا أفارقه حتى أصبحت أفضل عالم الرجال على عالم النساء الذي اقترن دائما في مخيلتي الصغيرة بالضعف والعمل اللامتناهي في المطبخ والتربية والخضوع لكلمة الرجل الأقوى. فضّلت عالم الرجال لأنني أعجبت دائما بقوة أبي القيادية في المنزل ذلك أن الكلمة الأولى والأخيرة كانت له لا لغيره. كنت أجالسه باستمرار حيثما كان يجلس مع إخوته أو أصدقائه، يعجبني حديثهم وتضحكني ذكرياتهم وألاعيبهم التي كانوا يمارسونها على بعضهم البعض …

كانت جلسات أعمامي كثيرة ومتواصلة، غير أنها لم تكن تستهويني مع أنني ما زلت أحفظ كل حكاياتهم عن ظهر قلب. كانت الطفلة التي تسكنني تشعر بتفاهتها لأنها لم تكن إلا مناسبات للتفاخر في النسب والأموال والأبناء والأحفاد وأمجاد العائلة. ومع ذلك كانت تراقبها وتستأنس بها لأنها كانت تفتح لها فضاءات واسعة للدخول شيئا فشيئا إلى عالم الكبار.

وأنا الآن في رحلة هروبي إلى زمن ولّى وانتهى، أتذكر أنني عندما كنت في سن السابعة من عمري ذهبت مع أبي لحضور عرس كان يقيمه عمي على شرف باقي أعمامي والعائلة بمناسبة زواج ابنته .

كان عمي صاحب العرس يحب الدنيا والضحك بشكل كبير، وكانت له أساطير في المزاح والمقالب التي كان يمارسها على إخوته. أما عمي الكبير فكان رجل دين وأخلاق وزاهدا في الدنيا بشكل لم أعرف له مثيلا، كان وسيم الوجه، ذا لحية بيضاء، دائم الابتسامة ومحبّا للعطاء والصدقة.

خلال مأدبة هذا العرس الشهير، والذي ما زلت أتذكره إلى يومنا هذا، حاول عمي صاحب العرس أن يخلق حدثا للمرح على حساب عمي الزاهد الذي خلق لنفسه زاوية وحشر نفسه فيها فصار لا يعرف من الحياة سوى العبادة والدين. كان حاملا للقرآن الكريم، فكان حديثه كله استشهادات بالآيات الربانية. كان يُشهد له بالتقوى والاستقامة ومع ذلك رغب أخوه المفلس في أن يورطه لارتكاب خطأ يشبه أخطاءه أو يزيد عليها. آنذاك كانت الأعراس تعتمد في تنشيطها على فرق المغنيات أو ما يسمى بـ«فرقة المرساوي». وحتى يصل إلى هدفه المتمثل في إسقاط عمي الزاهد في فخ الفتنة، فقد طلب عمي صاحب العرس من إحدى الشيخات، وكانت الأجمل وذات قوام رشيق وشعر طويل، التحرش به وإغرائه بجميع الوسائل حتى تسقطه في فخها خاصة وأن الارتباط بالشيخات بصفة شرعية أو غير شرعية هو نزول إلى الحضيض في مجتمع يعتبرهن وكرا للشيطان يجتمع فيه الرقص والغناء والخمر. هكذا كان ولا زال ظن المجتمع بالشيخات وإن كان لا يقام عرسا إلا وكن حاضرات فيه بجمالهن الفتان ولباسهن المفضوح المتميز وأجسامهن المكشوفة المتمايلة على أنغام الموسيقى .
أصر عمي ان تحاصره في فضاء يصعب عليه الخروج منه. كان هدفه الإيقاع به ليستسلم للخطيئة حتى لا يظل في مدينته الفاضلة بعيدا عنه وعن رفقائه في السوء فوق هذي الأرض، الآن وانا اتذكر ذلك الحدث أحسست بخجل عمي وندمه على لحظة ضعف امام انثى ، أما العم العربيد فقد أشفى غليله إذ وجد في فتنة أخيه مبررا لكل لياليه فمضى على هذا الحال لا يُعير اهتماما لأحد لأنه كان قد وقع تحت سلطة جاذبية الملذات التي أنْسته الشرف وكل شيء، بل أنْسته حتى نفسه…

وقع كل هذا ليلة ذلك العرس البهيج المحيّر الذي لا زالت موسيقاه ترن بذاكرتي. لم أكن أعي شيئا مما كان يحاك في عالم الكبار، ولكني كنت أحس بعمي الزاهد أسيرا وسط دائرة إخوته المتكالبين عليه للإيقاع به وهو بدون سلاح أمام حسناء فاتنة تتقن فن الإغراء والملاعبة.

لم يكن صِغر سني يسعفني لفهم ما كان يجري، بل لم أكن أعير له اهتماما كبيرا لأن الأهم بالنسبة لي كان هو مرافقة أبي. ومع ذلك فقد كنت أشاهد الحدث كما لو أنني كنت أمام مشهد من مشاهد السينما يكثر فيه الاعتداء والمقاومة، ويظل المشاهدون مشدوهين أمام هزيمة البطل. لم يستوعب عقلي الصغير في ذلك الوقت ما كان يحصل؛ كنت فقط أحس بضحك الكبار وجلوسهم على شكل حلَقة وهم يركزون على تسلسل الأحداث.

كنت أتابع كل هذا وأنا طفلة، وأتعجب الآن من حياة الناس التي يمكنها أن تنقلب رأسا على عقب لمجرد لسعة ضمير، بل أحاول فهم نفوس خلق الله وهي تركض نازفة تحت ثقل الندم حينما يعترف المرء بخطيئته، فيبكي ويتأسف ويتحسر ويطلب المغفرة. ذاك ما حدث لهذا العم الزاهد الذي لم يستطع التحرر أبدا من ماضيه، ولعله كان يلازم المسجد ليهرب من الناس ويتقرب أكثر من خالقه. ولعله كان يحجّ لهذا السبب مرارا، فكنت أتخيله ــ وأنا صغيرة ــ يطوف بالكعبة وهو يبكي أو يتنقل حافيا بين الصفا والمروة ليحس بألم المشي رغبة منه في نسيان ضعفه أمام جمال وإغراء الأنثى، هل كان الخطأ هو السبب أم فتنة المرأة الشيخة وجاذبيتها التي جعلت المجتمع يرفضها باعتبارها فتنة ؟ لكم تعجبتُ من قوة الرجال التي كانت تستهويني ولكم أشفقت لضعفهم، ولكم تحيرت أمام ضعف المرأة وقوتها الخارقة في الوقت نفسه، ذلك أن المجتمع المتسلط جعلها تبدع في امتلاك الحيلة والجاذبية اللتين جعلتا منها الأقوى في عالم قد يبدو أنه لا زال تحت سيطرة الرجال !

وسط كل مشاهد هذه المسرحية لم ينتبه أحد لتلك الطفلة التي كانت تسكنني والتي كنت أشاهد من خلال نظراتها ما كان يجري وأنا عاجزة عن مقاومة إحساسي بحالات الرعب القاتل التي كانت تتشكل خفية عني ثم تنكشف أمامي كابتسامة مولود جديد.

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،