كتاب: الرياضة والسياسة والفلسفة.. الأسياد والعبيد في مملكة الرياضة ( 21

كتاب: الرياضة والسياسة والفلسفة.. الأسياد والعبيد في مملكة الرياضة ( 21

- ‎فيرياضة
1497
6

ديمقراطية الرياضية فلسطينيون يشاركون في مهرجان انطلاقة الديمقراطية في المدينة الرياضية في بيروت

4-لِـحِسَاب مَنْ تَشْتَغِلُ الرياضة؟
من الموائم عدم التوقف هنا وعند حدود الرياضة الموهومة والمأمولة، قصد الذهاب عميقا نحو الرياضة الواقعية، الرياضة كما هي وكما تمارس، والاستفهام أو التساؤل: لماذا تشكل الرياضة موضوع كل هذه المؤاخذات والمعاتبات. ومن أين يأتي هذا التكالب الهوسي عن القمل في رأس الرياضة؟ هل يتم ذلك بالنسبة للسينما والمسرح والسيرك والأغنية؟ أم أن هذه الأشكال الفرجوية ناصعة البياض مثل الثلج؟ يوجد في الأندية الرياضية رواج الأموال غير المشروعة، أكيد، لكن ما المكان الذي لا تروج فيه وتدور هذه الأموال؟ هل هو التلفاز أم المستشفيات العمومية؟ وعند تفحص جميع محافل المجتمع ومستوياته ومؤسساته وإداراته، سيتبدى لنا بسرعة شديدة أن الرياضة ليست أفضل كما ليست أقبح ما يمكن تقديمه كمثال ونموذج.
وإذا كانت الرياضة تعامل على هذا النحو من القسوة والإذلال والإهانة من لدن الجميع ومن لدن الرياضيين أنفسهم، فلأنها تؤطر قيما. وهذه القيم ليست رياضية، بل قيم سياسية تنتجها وتصدرها للخارج، لعموم المجتمع.

فمنذ نهاية القرن التاسع عشر، شكلت الرياضة آلة بيداغوجية عجيبة : إذ رسخت في الأذهان فكرتين سياسيتين من التعقيد بمكان ألا وهما فكرة الديمقراطية الانتخابية وفكرة التقدم التاريخي للبشرية. إن الرياضة هي الحقيقة المجتمعية الوحيدة التي تعرض التقدم في فرجة. ومن اللازم ملاحظة أن كل جديد إيجابي في الحياة البشرية يُؤَدَّى عنه ببعض الخسائر الموازية. وعلى العكس من ذلك، فإن تحطيـم رقم قياسي جديـد يمثل تقدمـا لا يلحق الأذى أو الضرر بأي كان (ضمن خانة الوقائع الرياضية، لا يشمل هذا الأمر سباق باريس- داكار وفرجات كولونيالية أخرى)؛ وذلك لدرجة أن فكرة التقدم هذه التي حاول فولتير وديدور ثم كانط تشييدها على أمثلة ملموسة دون بلوغ ذلك بشكل واضح، وجدت تحقيقها الصارخ والمتألق في الإنجازات الرياضية. إن الرياضي لهو رجل التقدم. ليس الإنسان الأعلى، بل الإنسان الـمَزيد أو الإضافي: أسرع، أعلى، أبعد، أثقل، وانتظروا ! إن غدا أفضل لناظره لقريب ! يحمل الإنجاز الرياضي على كاهله ثقل الديمقراطية والحرية والسعادة، وبكلمة واحدة ثقل التقدم. وكل من يتحدث اليـوم عن التقدم، لا يمكنه أن يمتنع عن رؤية الجنس البشري وهو يجري مقابلة رياضية عظمى. وها هو العلم والصيدلة والطب والقانون، تعلن التحدي ببطولة. ومن وجهة نظر أخرى أدلوجية، تخضع السياسة نفسها للرياضة لدرجة أنها تحاكي وتقلد لغتها وطرائقها كي تمنح نفسها شرعية أخلاقية وديمقراطية وتقدمية. إن الرياضة هي واجهة التقدم والديمقراطية. ففي تاريخ البشرية، استند كل نظام سياسي على فرجة تبرره وتجعله مستساغا من لدن الفكر الجمعي. ذلك أن النظام العبودي الروماني اتكأ على ألعاب السيرك، والفيودالي الإقطاعي على المنافسات والملكية المطلقة على الإعدامات العمومية، والليبرالية الانتخابية على الرياضة. وأشكال الفرجة هذه ليست ضرورية، أو لا ضرورة لها، خارج وظيفتها السياسية، وكل منها يختفي استتباعا عندما يترك نظام سياسي موقعه للنظام اللاحق.
إذن، عندما يقع الاحتجاج ضد غياب الحرية وحضور الاستبداد في الإنجاز الرياضي، فذلك لأسباب معقولة ووجيهة. فمن المعقول تماما مساءلة الإنجاز باسم الديمقراطية، غير أنها تتم باسم رياضة متخيلة في حين يتعين القيام بها من وجهة نظر الرياضة الواقعية. وبعبارة أخرى، عوض الحديث باسم مثال رياضي، من الأفضل الحديث بلغة التاريخ السياسي. لقد أعطت الرياضة للديمقراطية الانتخابية صورتها الواضحة وطهارتها الذهنية، ومن المعقول ملاحظة أنها لا تشبه إطلاقا هذه الطهارة. إصنعي ما أقول، ولا تصنعي ما أصنعه، هذا هو خطاب الرياضة الموجه للسياسة، تصرفي كما يبدو أني أتصرف عندما أتعاطى مع الفرجة، واحترسي أساسا من الذهاب لاستراق النظر في الكواليس وخزانات الملابس وقاعات التدريب. أمعني النظر جيدا في إنجاز انتصار الإنسان الذي يتجاوز نفسه ولا تفتشي عن الآلة التي تنتقيه وتنتخبه لتجعل منه إنسانا آليا ممسوخا ومشوها.
كلمة بخصوص المعجم: حينما يعمل شخص في خدمة آخر، نقول إنه “يشتغل لحسابه” ونقول إن سيارة “تشتغل ب” البنزين. وبعد! فيمكن القول إن الرياضة “تشتغل لفائدة” الديمقراطية وإنها “تشتغل ب” الاستبداد، وهذا تحديدا ما لا يطاق. فليس من المحتمل أن تكون الرياضة آلة لصناعة قيم الديمقراطية والتقدم وأن تصنع هذه الآلة كل هذا ضمن مناخ عبودي ومنحط. وفي الإمكان التساؤل ماذا ستشبه الديمقراطية لو أنها بدل أن تشبه الرياضة مثلما هي معطاة في الفرجة، شرعت في محاكاة وتقليد واقعها داخل كواليس إنتاجها! ستشبه ما هي عليه، لأن استبداد الإنجاز والنجاح بأي ثمن، بعبيده وأسياده وبسياطه، يشبه مِثْلَ الأَخِ التوأمِ الاستبداد الانتخابي بلوبياته ومموليه وأحزابه السياسية وغيرها؛ وعلى العكس، لو كانت الرياضة تشبه الديمقراطية التقدمية التي تنتج صورتها، ولو أن الرياضة كانت عالما للحرية والنقاش، فقد يوائم التخوف من عجزها عن الاستمرار في الوجود، لأنه لن يعود بإمكانها بعد أن تقدم تلك الفرجة الممتعة التي تتطلب شروط تدريب طاغية وقاسية. وستنجز الديمقراطية الرياضية على حساب الفرجة الرياضية وستفقد الرياضة فائدتها في ضمان وكفالة واجهة الديمقراطية السياسية. إن رياضة ديمقراطية ستكون باهتة جدا بل ومزعجة كثيرا لدرجة العجز عن الاشتغال بصفتها الخيط الأدلوجي الموجه للنظام السياسي الليبرالي.
يريد الطهرانيون رياضة على صورة الرياضة، رياضة رياضية بمعنى ما. والحال أن الرياضة لا يمكنها أن تكون على صورتها الخاصة لأنها لم توجد في ذاتها ولا توجد لذاتها. وإذا صارت الرياضة شفافة فإنها ستختفي. ويجب القول إننا لانصطف إلى جانب العدميين الرياضيين الذين يدعون إلى قبول كل شيء باسم الفرجة الجيدة والممتعة. ذلك أن الدفاع عن القيم الإنسانية للحرية والصداقة (في الرياضة كما في مجالات أخرى) يمثل معركة جوهرية. والنضال ضد الطغاة يمثل دائما مسألة ملحة ومستعجلة. ومن المحتمل – في الواقع- أن الديمقراطية السياسية الشفافة ليست في حاجة إلى طغاة رياضيين يفبركون لها صورتها الشعبية. ولكن حين تغادر الأنظمة السياسية الاستبدادية كليا وبصفة نهائية ممرات الديمقراطية، فلن تعود الأخيرة في حاجة إلى صورة تبينها، إذ ستصير واضحة في ذاتها، وستفقد الرياضة وظيفتها المثالية وربما المبرر الأول لوجودها على ما هي عليه. وحينذاك سيذهب طغاة الإنجاز الرياضي وستمضي الرياضة كذلك وتنقضي لأن إنجازها الرئيس أنها ظلت تجعلنا نعتقد خلال قرنين (أو ثلاثة) أن الديمقراطية توجد في قعر صندوق الاقتراع وأن التقدم أمر بسيط.

يتبع

ألفـــــــه: إيف فارگاس

تــرجمــــة : عبد الجليل بن محمد الأزدي / بلعز كريمة

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،