الاستقالة بعد الفشل قرار شجاع وحضاري

الاستقالة بعد الفشل قرار شجاع وحضاري

- ‎فيرأي
318
6

محمد بوبكري

شكلت نتائج الانتخابات الجماعية الأخيرة بالمغرب كارثة بالنسبة لحزب الاتحاد الاشتراكي، حيث أحدثت زلزالا عنيفا في نفوس أعضائه، كما تم استنكارها من قِبَلِ الديمقراطيين المغاربة. ورغم أنني لم أكتب منذ مدة عن التدبير السيئ لهذا الحزب من قِبٓل زعامته، فإنني أجد نفسي اليوم مضطرا لإعلان موقفي من هذه النتيجة الانتخابية الفظيعة والأسباب التي أدت إليها والإجراءات المستعجلة التي ينبغي اتخاذها.
لا يتكون الحقل الحزبي اليوم في المغرب من أحزاب حقيقية بالمفهوم المتواضع عليه في العلوم الاجتماعية، فالحزب عندنا لا يتشكل من أعضاء يجمعهم مشروع مجتمعي مستقبلي ينهض على قيم ومبادئ ديمقراطية، بل إن أغلب أعضائه هم، في الأغلب الأعم، مجرد أفراد متناثرين لا يجمعهم أي رابط فكري أو أخلاقي، وإنما الرغبة في الاستفادة من الريع، ما يعني عدم وجود الحزب فعلا. وهذا ما جعل أغلب المغاربة ينفرون من العملية السياسية تعبيرا عن رفضهم لانحرافات الزعامات السياسية فكريا وسياسيا وتنظيميا…
لقد حصل الاتحاد الاشتراكي على 3226 مقعدا في الجماعات المحلية في سنة 2009، وحصل في سنة 2015 على 2656 مقعدا، حيث ضاعت منه 570 مقعدا. لكن الهزيمة لا تقف عند هذا الحدِّ لأن الحزب خرج من تدبير المدن الكبيرة، ولن يحصل، في أحسن الأحوال، إلا على “تدبير” جهة واحدة. ويعني ذلك أنه سيفقد تواجده في مجلس المستشارين، ما يؤشر على استحالة حصوله على نتائج تمكِّنه من تكوين فريق في مجلس النواب المقبل…
لم تكن النتائج التي حصل عليها الاتحاد الاشتراكي مفاجئة لأن الطريقة التي اعتمدتها زعامته في إدارة الحزب كانت ستؤدي حتما إلى خسارته في الانتخابات الأخيرة والقادمة. وقد تأكد ذلك خلال الحملة الانتخابية الأخيرة التي عرفت مواجهة المواطنين للأعداد القليلة من الاتحاديين الذين شاركوا فيها بنقد لاذع لزعامتهم، ما تسبب لهم في إحراج كبير. ومن ضمن ما واجهوهم به: “إننا نتعاطف مع حزبكم لأنه قام بتضحيات جسام، وساهم في إنجاز أشياء كثيرة لوطننا… لكن زعامتكم الحالية قد انحرفت عن الاختيار الاشتراكي الديمقراطي، ولا تعمل إلا على تخريب حزبكم. لذلك لن نصوت عليها لأن في ذلك تشجيعا لها على الاستمرار في ممارسة انحرافها وطغيانها عليكم وتدميرها للحزب…”. كما عبر مواطنون آخرون عن امتعاضهم من هذه الزعامة قائلين: “ليس لزعيمكم ما يقدمه لنا، فهو يقضي وقته في الصراخ دون أن يقول أي كلام مفيد، حيث لم يقدم أية مشاريع أو بدائل، ولم يتَجَنَّد لإيقاف مسلسل تفقيرنا من قِبَل الحكومة، كما أنه لم يتخذ أي قرار عملي يمكن أن نستشف منه جدِّيته في حماية الفئات الوسطى والمستضعفين… لذلك فإننا لن نصوت لصالح زعيمكم لأنه انحرف بالاتحاد عن اختياراته، وأصبح لا يخدم الوطن ولا الشعب المغربي، وإنما يخدم مصالحه الخاصة”…
لقد صادق المؤتمر الأخير للاتحاد الاشتراكي على مٌقَرَّر تنظيمي يضمن نسبيا ديمقراطيته الداخلية، لكن ما أن انتهي المؤتمر، واكتشف الزعيم أن هذا المقرر يحول دون تحقيقه لطموحاته التحكٌّمية حتى قام بتنظيم مهرجان خطابي وعقد دورة للمجلس الوطني للحزب في يوم واحد بالرباط. فتم تنظيم المهرجان صباحا وانعقد المجلس الوطني زوالا، ما مكَّن الزعيم من استدراج أغلب من حضروا هذا المهرجان إلى دورة المجلس الوطني دون أن تكون لهم أي صفة. وبذلك تمكَّن من الخروج بقانون أساسي شَطَّب فيه على كل بنود المقرَّر التنظيمي المصادق عليه من قِبَل المؤتمر التي رأى أنها تقيِّدٌه، وعوضها ببنود أخرى تمنحه سلطات مطلقة تمكنه من التحكم في أنفاس الحزب… نتيجة ذلك صار القانون الأساسي الجديد للحزب يتعارض جذريا مع المقرَّر التنظيمي الذي صادق عليه المؤتمر، ما يُعد مسخا لهوية الحزب ومبادئه… أضف إلى ذلك أن المؤتمر الوطني أعلى من المجلس الوطني، ولا يمكن لهذا الأخير أن يغير قرارته. يؤكد كل ذلك الرغبة التحكٌّمية لهذا الزعيم في ممارسة الاستبداد الشرقي على أعضاء حزبه…
لا يتردد الزعيم في انتهاز أي فرصة لإصدار قرارات طرد في حق المناضلين الذين يعارضون أسلوبه التحريفي والتحَكُّمي في الحزب. لكن ما لا يعلمه هذا الزعيم هو أن الحزب ليس عقارا يمكن إخراج الناس منه، بل إنه أحلام ومبادئ وقيم وأفكار ومشاريع… ما يستحيل معه طرد الفرد منها. فقد تطرد الإنسان من منزله أو أي فضاء آخر، لكنك لن تستطيع طرده من قناعاته وقيمه وفصله عنها. وبذلك فإن الزعيم يعبر عن كونه لا يفهم طبيعة الأفكار ولا القيم ولا الإنسان…
أعلن هذا الرجل عقب هزيمته عن أنه لا يفهم أسباب رفض الفئات الوسطى التصويت على حزبه. ولذلك قرر إجراء دراسة “أكاديمية” لفهم أسباب مقاطعة هذه الفئات لحزبه وللعملية السياسية في آن. أظن أن هذا الكلام مُجانب للصواب لأن الزعيم لا يمتلك مركزا للدراسات السوسيولوجيّة والأنثروبولوجية والسياسية والاقتصادية… كما أنه بحكم تكوينه لا يعي طبيعة هذه المؤسسات ولا دورها، حيث قال ذات يوم في أحد اجتماعاته: “إنني لست في حاجة إلى مثقفين لأنني أمتلك الكثير من الأفكار والمشاريع، وكل ما ينقصني هم “المْرُودْ” الذين ينفذون ما أطلب منهم تنفيذه. فأنا لست في حاجة إلى مثقفين لأن هؤلاء لا يعرفون إلا ممارسة النقد والاعتراض. لذلك عليهم أن يتركوا الحزب وينصرفوا إلى الكتابة والتدريس بالجامعة”. يؤكد ذلك أن فكر هذا الزعيم يتعارض جذريا مع طبيعة الفئات الوسطى التي قاطعته، لأنه لا يعي دورها التاريخي في مختلف المجتمعات، فهو يعاديها لأنها تفكر وتتعارض طبيعتها مع طبيعته المستبِدَّة…
إضافة إلى ذلك، لقد التقى أحد المناضلين الاتحاديين بالزعيم، فأراد أن يوجه لهذا الأخير بعض المقترحات حتى لا تحتدم الأزمة السياسية والتنظيمية الاتحادية، فطلب منه أن يتخلى عن كونه طرفا في الصراع داخل الحزب، وأن يكون كاتبا أولا لكل الاتحاديات والاتحاديين بدون تمييز بينهم عبر الانفتاح عليهم جميعا، وذلك حتى يتسنى له جمع الشمل وتجنب انفجار الحزب… لكن عِوَض أن يستجيب الرجل لمقترح هذا المناضل، ردَّ عليه قائلا: “عليك أن تعلم أن الحزب كانت تديره بعض الأسر، وأنا جئت من أجل أن يتحكم فيه “الشْمَاكْرِيَّة”. لذلك أنا أعي ما أقول وما أفعل، ولست في حاجة إلى من ينصحني”. تبعا لذلك، فإن من يحمل هذا التصور عن تدبير الحزب وعن الفئات الوسطى والمناضلين.. لا يمكن إلا أن يفتت الحزب وينسفه.
فضلا عن ذلك، صرَّح الزعيم ذات ليلة في إحدى جلساته الخاصة قائلا: “إن الممارسة السياسية هي فقط التواجد في المؤسسات المنتخبة، ما يستوجب إبعاد أطر الحزب ومثقفيه، الذين أعتقد أنهم يعرقلون دوام وجودنا في الحكومة، وتعويضهم بأعيان قادرين على شراء أصوات الفقراء، ما يمكننا من التواجد في مختلف المؤسسات “المنتخبة” و”الحكومة”…”. وقد دعَّم كلامه هذا بحجة أن هناك أحزابا كثيرة تسمى “إدارية” ليس لها وجود نقابي ولا شبابي ولا نسائي في المجتمع، ومع ذلك تعيش زعاماتها في رخاء مستمر… وفسَّر ذلك بكون هذه الأخيرة عرفت كيف تضمن لنفسها الاستمرار في المؤسسات بدون تعب ولا ّألم… وختم كلامه قائلا:” يلزمنا أن نحذو حذوها لكي نتمكن من الاستفادة من الريع”، ما يفسر إبعاد الزعيم لمثقفي الحزب وأطره، وضربه لشبابه ونسائه ونقابييه، وترشيحه في الانتخابات الأخيرة لأعيان وسخين في مختلف الجهات والأقاليم…
ويتأكد الضعف التنظيمي للزعيم في ترشيحه باسم الحزب في إحدى مدن الشمال لائحة تتضمن ما يفوق العشرين عضوا من أصحاب السوابق والمتابعين قضائيا. كما أنه رشح شخصا مجهولا وكيلا لإحدى لوائح الحزب في إحدى مقاطعات أكبر مدينة بالمغرب، حيث ادَّعى هذا الأخير أنه طبيب مختص، فتبين بعد ترشيحه أنه بائع أعشاب… وقد حاول هذا الشخص ابتزاز المناضلين ماديا، فرفضوا ذلك، وانصرف هو وصحبه إلى حال سبيلهم دون أن يقوموا بأي حملة انتخابية. وبذلك وغيره تم توجيه ضربة قاسية للزعيم الذي يتباهى في جلساته بكونه رجل مساطر وتنظيم.
علاوة على ذلك، لقد انسحب مؤخرا أحد الأعيان من الحزب للترشح باسم حزب آخر. وبعد فشله في الانتخابات مكَّنه الزعيم من العودة إلى قيادة الحزب، وكأن شيئا لم يقع. لكن هذه العودة ليست ناجمة عن اقتناعه باختيارات الحزب وقيَّمه، أو عن الشعور بالذنب، وإنما بدافع الحفاظ على مقعده بمجلس النواب الحالي لأن مصالحه جعلته عاجزا عن العيش خارج هذه المؤسسة خلال الفترة المتبقية لتشكيلتها الحالية. لكن قبول الزعيم بعودته يثير تساؤلات عدة منها: ما هي دواعي هذا القبول؟ وهل تم اللجوء إلى المؤسسات التقريرية الحزبية للبت في ذلك؟ ولماذا لم يتم اتخاذ قرار في حقه فورا بعد ترشحه باسم حزب آخر؟ وما الذي كلَّفته إياه عودته إلى الحزب؟…
بناء على ما سبق، تعود النتائج الانتخابية الكارثية بالنسبة للاتحاد إلى التدبير السيئ للحزب من قِبَلِ زعامته. وبذلك فإن المسؤولية تقع على عاتقها. لكن هذا لا يعني انقراض الاتحاد الاشتراكي، إذ هو حزب مهم في تاريخ المغرب لأنه ساهم إلى حدٌ بعيد في استقراره، وهو ما أكَّده “ميشل روكار” في الذكرى الأربعينية لوفاة المرحوم الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد. لذلك فعندما يقول البعض بأن الاتحاد لم يعد له دور يلعبه، فإن ذلك يشكل تجنِّيا عليه وعلى الوطن في آن واحد. فما يزال هذا الحزب مترسخا في المتخيل الجماعي للشعب المغربي، ولا يمكن اختفاؤه إلا في حالة شلله لمدة طويلة وبزوغ طبيعي لمؤسسات حزبية تحمل حلما أكبر من حلمه ومشروعا أعمق من مشروعه…
خلاصة القول، يلزم اليوم أن يمتلك الزعيم الشجاعة الأدبية، ويعترف بفشله ويقدم استقالته لكي يتسنى للاتحاديين والاتحاديات إعادة بناء حزبهم. ويجب أن يعلم أن الفشل ظاهرة بشرية، وأن الاعتراف به فضيلة وشجاعة. وإذا اختار الزعيم نهج التضليل متوهما قدرته على تلميع صورته أو تبرير فشله، فسيكون محط سخرية، وسيجد نفسه في وضعية أكثر حرجا، إذ إن الآتي أسوأ…

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،