الدكاترة والمشروع الوطني للتحديث

الدكاترة والمشروع الوطني للتحديث

- ‎فيرأي
178
6

د. بن لحمام بوجمعة

تمهيد
يعد مشروع التحديث أحد أهم الأوراش الوطنية في الوقت الحالي ، والتي يراهن عليها المغرب لتجاوز تحديات أساسية قد تعرقل كل أهداف التنمية الشاملة التي ينشدها ، وكل مساعي الانفتاح المتوازن والقوي على الاقتصاد الدولي باشتراطاته وتحدياته المختلفة ، التي يفرضها تسارع واحتدام المنافسة في عالم اليوم. ويقع في القلب من هذا المشروع التحديثي ، كما تؤكد دراسات في الموضوع ، وكما تؤكد الحكومة أيضا ، إصلاح الوظيفة العمومية ، وتأهيل وتحديث الإدارة ، وتكريس الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ونحن ، في هذا المقال ، سنركز على نقطة محددة هي طبيعة الدور المفترض لفئة الدكاترة ، في إصلاح الوظيفة العمومية ، وفي تأهيل وتحديث الإدارة ، ومدى أهمية هذا الدور ، وكذا مقتضيات تهييئ الشروط اللازمة لإسهام ناجع وفعال للدكاترة ، إذا ثبت ضرورة الاعتماد والمراهنة على فئة هي الأقدر على استيعاب استراتيجيات وخطط وبرامج التحديث. أما العنصر الثالث المشار إليه ، وهو تكريس الديمقراطية وحقوق الإنسان ، فلن نكون معنيين بمعالجته والحديث عنه ، في هذا المقال ؛ وهو في كل الأحوال ، من الموضوعات المحسومة ، نظريا وواقعيا ، في الفكر الإنساني ؛ قديمه وحديثه ؛ والتي تكرست فيها مقولات نهائية ومطلقة ، تتلخص ، عامة ، في استحالة أي إصلاح حقيقي ، وأي استقرار مجتمعي، في غياب الديمقراطية وغياب حقوق الإنسان.
* * *
وزير التحديث وإقصاء الدكاترة
وحتى نكون أقرب إلى المعالجة الموضوعية للقضية التي طرحناها ، فإننا ننطلق من مقولات أساسية وردت في تدخل الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة ، المكلف بالوظيفة العمومية وتحديث القطاعات / الإدارة ، السيد محمد مبديع ، خلال لقاء تشاوري مع الكتاب العامين للوزارات ، بمراكش قبل فترة ، ونقلت أطواره ونتائجه وسائل إعلام مختلفة ؛ قال السيد الوزير : “إننا مقبلون على ورش كبير لإصلاح الوظيفة العمومية ، وتبني مقاربات تسهل التحكم في الرأسمال البشري ، باعتماد آليات قانونية تضمن نجاعة تدبير الموارد البشرية”. إن هذه القولة ، من مداخلة السيد الوزير ، تجعل نجاعة تدبير الموارد البشرية أحد أهم المداخل الأساسية لإصلاح الوظيفة العمومية. وفي واقع الأمر ، فإن الربط المتضمن يتوافق مع نتائج المقاربات والنظريات الحديثة في الموضوع ؛ إذ تنظر إلى التأهيل المعقلن للموارد البشرية باعتباره الشرط الأهم لتحقيق التنمية والتقدم. ولعل هذه النتيجة أن تكون أقرب إلى الحقيقة البديهية منها إلى الأطروحة التي تحتاج إلى تدليل. ويمكن تأمل التجارب الواقعية ، في هذا الإطار، بقصص دول ناجحة كاليابان والصين وعدد من الدول الغربية ، وغيرها كثير من دول العالم المعاصر.
وإذ نقرر هذه الحقيقة ، فإن سؤالا هاما يطرح نفسه في التجربة المغربية للتحديث ؛ يتصل بمدى الوعي بأسس هذه المقولة ، ومدى توفر الإرادة لوضع مقتضياتها الأساسية ، حقيقة ، موضع التنفيذ ؛ متى كان يجري ، في كل مرة مثلا ، إقصاء وتجاهل فئة هي الأعلى تكوينا ومستوى علميا وخبرة بحثية وإدارية ، ويصر على عدم الاستفادة من مؤهلاتها وطاقاتها.
ويكشف واقع السياسات المتخذة في هذا الإطار ، أن ثمة خللا أساسيا سيكون من المستحيل معه أن يتحقق هذا الهدف الوطني في تحديث البلد ؛ في اقتصاده وإدارته وموارده البشرية وثقافته.. وغيرها من الجوانب. وهذا الخلل يتمثل في عدم المراهنة على البحث العلمي ، والمعرفة المطورة في الحقول المختلفة ، كأسس رئيسية في خطط التحديث. وهذا الأمر تؤكده النسبة المخصصة للبحث العلمي من الناتج الداخلي العام ، التي لا تتجاوز 0,8 بالمائة ؛ وهي نسبة ضعيفة جدا بمقياس المعايير الدولية ؛ إذ تعتبر معايير المنظمات الدولية مثل البنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة أن نسبة الإنفاق المثالي هي التي تكون أكثر من 2 بالمائة ، وتكون جيدة إذا كانت من 2 بالمائة إلى 1,6 بالمائة ، ومن 1,6 بالمائة إلى 1 تكون حرجة ، ودون ذلك هي ضعيفة جدا. وحتى على مستوى الاستراتيجية الوطنية للنهوض بالبحث العلمي ، فإنها وإلى حدود 2025 ، لا تراهن إلا على رفع بسيط لن تصل معه النسبة ، في الأجل المذكور ، سوى إلى 1 في المائة.
وعلى فرض أن ثمة إكراهات مالية – وهذا أمر ليس صحيحا على الأرجح – فإن على سياساتنا أن تكون أكثر حكمة ويقظة حيال الفرص المهمة التي لا تشكل ضغطا على الميزانية ، لكنها تعود بمردود تنموي وتحديثي عالي القيمة. ولعل فئة الدكاترة العاملين بالوظيفة العمومية أن تكون واحدة من أعظم هذه الفرص التي يمكن أن تكون غير مكلفة. والأمر ، هو على وجه اليقين ، كذلك ؛ فجميع هؤلاء لهم مناصب مالية ، ومعظمهم خارج السلم. فلماذا لا تستغل هذه الفرصة ؟ ولماذا يرفض مقترح القانون الأخير القاضي بإحداث هيئة خاصة بهذه الفئة ، يخرجها من حالة العطالة التي تفرض عليها الآن ، فتكون رافدا تنمويا تحديثيا مهما في البلد ، وبأقل تكلفة ؟
ويتحدث السيد الوزير عن نجاعة تدبير الموارد البشرية باعتبارها أساس الاستراتيجية الوطنية لتأهيل الإدارة. والواقع أن هذا الأمر لن يكون أكثر من كلام للاستهلاك الإعلامي ، وذلك لأن السيد الوزير يتخذ قرارات تتناقض ، أوضح التناقض ، مع هذه الدعاوى. فكيف يتسنى تأهيل الإدارة عندما يرفض الوزير استثمار الدكاترة في هذا التأهيل ؟ !! أم هل يكون التأهيل والتحديث بالجهل !!؟ ولقد طرح الدكاترة ، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه ، مشروع قانون كان ، ولمرة فريدة ، محل اتفاق من المعارضة والموالاة، فيما يخص أهميته وتكامله كحل لحالة الهدر والعطالة التي تفرض على هذه الفئة ، وتحرم البلد من طاقاتها وخبراتها ومستواها العلمي الأعلى ، التي لن يكون من أداة للتحديث خيرا منها . ثم إنه جرى رفض المقترح بتعليلات هي أبعد ما يكون عن القانون في حقيقته ، وعن الديمقراطية والمساواة ، المفترضة بين الفئات.
* * *
القانون ضد الدكاترة وضد التحديث
إن دولة تنشد بناء قواعد الانفتاح والحياة الديمقراطية والحداثة ، لا مناص لها من أن تمتلك إدارة مؤهلة ، تعمل على المعايير العالمية. ولقد أكد السيد الوزير هذا التلازم أمام الكتاب العامين للوزارات في اللقاء التشاوري المذكور ، والذي كان من أهدافه تدارس السبل والشروط الضرورية لإعداد استراتيجية وطنية وبرنامج عمل لمشاريع تحديثية لتأهيل الإدارة ، بالقول “في إطار دولة منفتحة وديمقراطية ، يتعين بناء إدارة فعالة وشفافة ومنفتحة ، تبسط المساطر ، وتكون قريبة من المواطنين ، وفي مستوى طموحاتهم وطموحات المستثمرين”. إن هذا الأمر صحيح بكل تأكيد ؛ فليس أمام أي بلد أو مجتمع يسعى ، أساسا ، إلى جذب المستثمرين ، وإلى تقريب الإدارة من مواطنيه ، الذين هم أولى بالعناية والاهتمام من غيرهم ، إلا أن يؤهل إدارته التأهيل المطلوب. لكن صحيح أيضا ، وعلى نحو حصري ، أن هذا التأهيل والتحديث لن يتحقق مطلقا دون موارد بشرية مؤهلة تأهيلا عاليا ، وتمتلك مستويات تقنية عالية. وإني لأعتقد أن أحدا لا يجادل في هذا الأمر لأنه بمثابة البديهية التي لا يمكن إلا التسليم بها. لكن المفارقة أن السيد الوزير ، الذي ننطلق من أقواله في هذا المقال ، لا يتصرف وفق مقتضى هذه المقولة البديهية ؛ فالسيد وزير تحديث القطاعات يصر أن يكون التحديث بغير العلم والمعرفة !!- وهذا يمكن إضافته ، كعجيبة جديدة ، إلى عجائب الدنيا السبع – وهو بذلك لا ينفك يقصي الدكاترة ، ويرفض أي حل يمكن أن يجعلهم أساس التحديث ، بل الظاهر أنه يرفض أي إسهام لهم مهما يكن حجمه !! إن هذا الموقف يدفع إلى الاعتقاد أن السيد الوزير له مشكل مع الدكاترة خاصة ؛ فهل الأمر بسبب أنه لم يصل إلى مستوى هذه الشهادة ، فيحصل عليها؛ فهو بذلك لا يعرف قيمتها ، أم لأنه لا يملك القرار أصلا ؛ فهو يخضع لإرادة سياسية أعلى ، هي من يقرر ، وهي الآن لا ترى أن التحديث الحقيقي المؤسس على العلم والمعرفة والتخطيط والتكنولوجيا الدقيقة والحكامة والتنظيم والديمقراطية وحقوق الإنسان ، كما تذهب إلى ذلك وتقرره ، بشكل حاسم وإجماعي ، كل الدراسات والنظريات ، سواء في الشرق أو في الغرب ، التي تناولت مفهوم التحديث ، أقول هي لا ترى أنه قد آن أوانه ، وتريد فقط “تحديثا” على مقاسات ومعايير خاصة بها دون العالمين ، ولن يضير أبدا أنه يتأسس على الجهل والارتجالية والعشوائية ، ويتولاه أشباه المتعلمين والأميين..
إن هذا وضع غاية في الإيذاء للدكاترة ، وغاية في الظلم والاحتقار والإقصاء ؛ إن شيئا ما غير طبيعي يكتنف هذا الملف ، وموقف المسؤولين منه !! وإلا فإنه كان يجب أن لا يكون مطروحا ؛ حيث إن وضعية هذه الفئة تكون وضعية طبيعية كما يقتضيه الدستور والقوانين ، وكما هو حاصل في جميع بلدان العالم ، أو أنه يطرح لفترة قصيرة عابرة ينتبه فيها المسؤولون إلى فداحة الخطأ في أن يستمر الوضع غير الدستوري وغير القانوني في ملف الفئة ، فيصلحوه على عجل. أما الإبقاء على أسباب وشروط هذه الوضعية غير المعقولة ، وغير الدستورية تماما ؛ فهو ، بالقطع استخفاف ، بل احتقار وهو الأصدق ، للمواطنين ؛ وليس أي المواطنين ؛ ليس المجرمين أو اللصوص ، أو الجاهلين العاجزين ، أو الفاسدين المفسدين ؛ إنهم من بين خيرة أبناء هذا الشعب ومواطنيه ، وأنفعهم لبلدهم ، وأعلاهم مستوى علميا.. أقول إنه بالقطع احتقار واستخفاف بالناس وحقوقهم ، واعتداء بأبشع صورة يمكن أن يكون عليها الاعتداء على الناس وقهرهم بالسلطة والقوة الغاشمة ؛ إن هذا حقك.. صحيح.. لكن لن تنال هذا الحق بكل بساطة.. وأمامك البحر ، والجدار ، أو السماء فانفذ زهقا من أقطارها !! بل والأنكى أنه تجري إدارة مسرحية زائفة مكشوفة ، يراد من خلالها تسويق أن القرارات الحكومية ، ، تصدر وتسير وفق مقتضيات الدستور والقانون ؛ والحال أن ثمة من التناقضات والمفارقات ما يجعل أكثر الناس إيمانا وتفهما ووطنية يقطع أنه ليس هناك من دليل أبدا أن القانون يطبق فعلا ؛ بل تنشأ قناعة راسخة أنه يطبق بطريقة فيها ، على الأرجح ، احتيال وحيف وغياب للعدل والديمقراطية ؛ ويطبق فقط بما يجعله وسيلة لتمرير مقترحات القوانين ، ومجمل القرارات السياسية ، التي تتوافق مع أهداف مرجوة عند أصحابها ؛ أو على الأقل أنهم يرون فيها مصلحة لهم. وإني لن آسف أبدا أنني انزلق إلى هذه اللغة ، وإلى هذا المنطق التحليلي الذي لا يخلو من اتهام ؛ وأحمل المسؤولية لكل من كان وراء هذه السياسات التمييزية الظالمة ؛ وأي موقف يمكن أن يقفه المرء أمام سياسة ترى في دكاترة وزارة الثقافة مثلا مواطنين مميزين فئة ومواطنة ، ولربما أشياء أخرى نحن لا ندركها !! فتمنحهم إطارا خاصا ، بينما تحشر دكاترة التربية الوطنية ، بل وباقي دكاترة الوظيفة العمومية ، في إطار يجعلهم أقل من نظرائهم هؤلاء بالضعف ؛ بل وبما يزيد في كل شيء. وإني أسأل المتسبب في هذه التفرقة عما جعله يقدم عليها ؟.. على أنه يمكن أن نرجح مبدئيا أنه كان يستخف بسلطة القانون ، ولا يقيم وزنا لأحد ، حتى يقدم على مثل هذا القرار غير الدستوري وغير القانوني. وإني لأعتقد اعتقادا جازما أن الأمر كان كذلك ؛ بل حقيقة الموقف أنه مارس ميزا تجاوز به كل فظائع الميز العنصري الذي مورس في مناطق من العالم كجنوب افريقيا ، وذلك لأنه كانت له الجرأة ليمارسه في دولة ذات سيادة ودستور وقانون ، وعلى مواطنين هم سواء في المواطنة والانتماء ، وليسوا عنصرا أجنبيا غريبا عن البلد. إني أريد مسؤولا واحدا تكون لديه الشجاعة والجرأة والحجة المبينة ليؤكد أن الدكاترة مخطؤون في استنكار هذا التمييز ، الذي يرونه عبثيا. وإذا لم يستطع فلتكن له الجرأة والشجاعة ليستنكر ويشجب هذا الوضع الفاقد لأي شرعية دستورية وقانونية وأخلاقية. إن حكومات ومسؤولين ينتهجون مثل هذه السياسات ، لن يسيئوا إلى سمعة المغرب ، الذي يطمح إلى ترسيخ مبادئ دولة الحق والقانون فحسب ، بل إنهم يتناقضون مع الأهداف العليا التي أرادها جلالة الملك نصره الله ، أن تكون السيماء المميزة لسياسة البلد ؛ وهي عدم الظلم والإنصاف والمساواة والديمقراطية.. وحقوق الإنسان والحكامة.. وما في قبيلها.
* * *
أزمة بدل الإسهام في التحديث
إن الوضعية الحقوقية والقانونية والإنسانية لدكاترة الوظيفة العمومية بالمغرب ، هي وضعية شديدة التأزم والمفارقة ، وطالت فوق ما يمكن أن تحتمله فئة كانت أهلت نفسها لحياة كريمة مستغنية – بحسب ما ترسمه وتضمنه قوانين البلد ودستورها الأعلى ، وكما ضمن لفئات أخرى هي أقل من الدكاترة شهادة ومستوى – بذلت من أجلها كل غال ونفيس ، وضحت أكبر التضحيات ، لتجد نفسها بدلا عن ذلك ضائعة في وطن تنكر منه أكثر مما تعرف ؛ وقد خذلها الدستور والقانون ، وتنكر لها المسؤولون ؛ وطن لا نجد فيه التقدير ولا الحقوق ولا الكرامة ، ولا تجد فيه من يسمع صوتها أو يصغي لشكاتها ، ولا من يأبه لمعاناتها وضياعها ؛ وأين هو هدفها الأسمى ، وأملها الغالي المعزي ، أنها تكون تلك الفئة المكرسة للعلم والمعرفة ، والتي تحتاجها بلدها ومواطنوها ؟ !! لقد ذهب كل هذا أدراج الرياح.. كان أملا وتلاشى ؛ وحلما غاليا مع الوطن ، لم يستمر للأسف. إن أحدا من الدكاترة الآن لم يعد يؤمن بهذا الأمر ؛ بل إنهم الآن طوحت بهم إكراهات العيش في مسارات بعيدة بمسافات عن حلمهم الذي ودعوه ، بل ولم يعودوا يصدقوه..
وإنه ، وإن كان البعض يتحدى نفسه وواقعه ، ويحاول أن يعيش الحلم ، ولو على مستوى شخصي ، فإن الغالبية من الدكاترة والدكتورات تغرق في واقعها اليومي ، تضيع أيامها ، بل أعمارها ، سدى بعيدا عن أحلامها المولية في أن تكون في المختبرات ؛ في أروقتها وأشغالها وبين أدواتها ، أو تكون بين أكداس الكتب في المكتبات ؛ تنتج وتبدع وتخدم بلدها في تنميته وتقدمه. فمنها من يغرق في الديون مع صاحب الدكان ومع الصيدلي ، ومع صاحب المكتبة.. وأما إذا منعه كبرياؤه عن أن يذل في هذه الأوضاع، فإنه لاشك سيكون مثقلا بما يستدينه من معارفه من الدكاترة والأساتذة ، أو ما يستدينه من عائلته وأقاربه.. وكيف لدكتور الوظيفة العمومية براتبه الهزيل أن ينفلت من مثل هذا الواقع المزري ، إذا كان عليه أن يعيش في حال لا تجعله ينفضح بين عموم الناس ، ويستمر بصورة أقرب إلى حال الموظف ؛ بل الموظف الذي هو حاصل ، في عيون المجتمع والمحيطين ، على أعلى شهادة في البلد ، ويجب أن يكون في يسر من العيش.. أقول كيف له أن ينجو ، ويستمر صامدا في واقعه ، إذا كان يدفع في الكراء ، وفي الحد الأدنى ، ما يناهز ثلث راتبه ، ليبقى على الكفاف مع المرض ومصروف الأبناء والزوجة.. و.. و.. وما أكثر ما يسقط الدكتور والدكتورة في الأزمة !!
هذا وليبقى نظيره في وزارة التعليم العالي ، أو في وزارة الثقافة مثلا ، وبغير وجه حق ، يحصل على ضعف راتبه في الحد الأدنى ، بل على أضعاف ثلاثة !! وأربعة !!
وإن كان طائفة من الدكاترة نجت ، نسبيا ، من الأزمة المادية وضغوطها ، فإنها تسقط بين عقابيل الفراغ والانكماش الذاتي، وعيش الحياة بأهداف بسيطة ، بل وتافهة أحيانا ، من الدرجة الثانية ، أو من الدرجة الثالثة.. أو الرابعة.. أو الخامسة .. إلخ.. حتى لا يبقى من الدكتور وحلمه ، الا إنسان محبط ، شارد ومحطم القوى ، جراء ما خاض من حرب – داخلية وخارجية – خاسرة.. وهذه هي حال الدكاترة على الأرجح ؛ وهي حال وأحوال ليس فيها حال تـناسب شهادتهم ومستواهم العلمي ، أو ترضى أحلامهم وآمالهم..
إنه يوشك أن يكون الدكاترة في حالة من الأزمة واليأس التي تمزق في دواخلهم كل جميل ؛ من شعور بالوطنية ، وثقة بالمسؤولين ، وقدرة على الحضور المتألق المميز بين الناس في مجتمعهم ، ومن حماس طبيعي محفز للحياة.. وليتول الحكم العدل ، جل وعلا ، مظلمتهم وحقهم المشروع الضائع..
وكم كان قاسيا ، بل وبمثابة الجريمة ، أنه عندما لاحت بارقة أمل يمكن أن تصلح الوضع ، مع مقترح القانون الأخير بإحداث هيأة ونظام أساسي لهذه الفئة ، على غرار عدد من الفئات الأخرى ، أقل منها في الغالب مستوى علميا ، وشهادة ، جرى إحباطها برفض المقترح لأسباب ليس أكثر منها تهافتا وظلما..
مطلب الدكاترة
والدكاترة عندما يناضلون ، وعندما يطالبون بحقوقهم ، فليس ذلك أبدا كي يضمنوا ، بحكم شهادتهم ، حياة مرفهة بامتيازات يغنمونها دون الآخرين ، بل يريدون أساسا العدل والمساواة مع نظرائهم بلا ظلم ، وبلا حيف في حقهم ، بل هم على استعداد – ونقول هذا بكل مسؤولية – أن يقبلوا بأقل من الراتب المخصص إذا كان الكل سيطبق عليه نفس الأمر ، وإذا كان هذا يخدم سياسة وطنية نزيهة تفرضها ظروف قاهرة على البلد.. اليوم يتحدث ساسة شرفاء سواء في المعارضة أو في الحكومة عن الفساد الذي يستشري في البلد ، وعن الأزمات والإخفاقات التنموية التي تراكمت عن الحكومات السابقة ، ويدفع ثمنها الآن الاقتصاد والتنمية والمجتمع ، وخاصة فئات المعطلين ، وفئات الموظفين في الإدارات ككتلة فائضة غير مخطط لها. إن مثل هذه الأوضاع والسياسات الخاطئة هي ما يتسبب اليوم في الوضع المزري لدكاترة الوظيفة العمومية- ولغيرهم كثير من أبناء البلد – الذين باتوا مجرد كتلة بشرية معطلة ، في الوزارات المختلفة بعيدا عما كان يمكن أن ينظمهم من قانون وخطط تنموية وتحديثية يكونون فيها ، حتما ، القاطرة التي تحرك وتقود البلد نحو هدفه الأسمى والمقدس في التقدم والنهضة والتنوير ، والخروج من التخلف والتبعية. والأمل ، الآن ، أن الحكومة الراهنة ، وقد باشرت إصلاحا حقيقيا ، ضمن شروط موضوعية واعدة في الميزانية والاقتصاد والسياسة ، هي من أوجدتها حقيقة ، بحكم قرارات حكيمة وجذرية مارستها في ملفات لم تجرؤ الحكومات قبلها أن تباشرها ، وعلى رأسها نظام المقاصة. أقول ، الأمل الآن أن هذه الحكومة تمضي في حكمتها ونزاهتها ؛ فتقرر أن ملف الدكاترة لم يعد من الممكن تأجيل حله ، وأن الإصلاح والتحديث ، في المجتمع والإدارة ، والاقتصاد بجوانبه المختلفة ؛ من فلاحة وبيئة ، ومن تصنيع خاصة – باعتباره رهانها الأكبر في نهضة البلد وتنميته الحقيقية – ستلعب فيه الفئات المتعلمة تعليما عاليا ، وعلى رأسها الدكاترة بتخصصاتهم المختلفة ، الدور الأكبر ، والذي لا غنى عنه. وإلا فإنه في الحد الأدنى ، قرار غير واع ، وخسارة محققة للبلد ، أن يجري إهدار هذه الثروة الثمينة من الموارد البشرية ، التي لم تتم تنمية وتقدم ، في بلد من بلدان العالم ، إلا على أكتافها ؛ فهي مناط البحث العلمي وركيزته الأساسية.
* * *
دور الدكاترة في التحديث
إننا وقد ركزنا على هذه التفاصيل المأساوية من واقع الدكاترة ، فذلك لنجعل هذه الصورة ، المؤشرة على الهدر ، في المقابل مما نريد أن نلفت إليه عناية مسؤولينا من الصورة القانونية الواجبة والمفترضة ، التي سيكون فيها الدكاترة رافدا أساسيا للتنمية في البلد ، بكل وجوهها. وأيضا لنحمل هؤلاء المسؤولين المسؤولية على الوضعية المتأزمة لهذه الفئة ، وما تتعرض له من إهدار وتعطيل ، ونحن سنعتمد في تقديم هذه الصورة على وثيقة رسمية – هي مقترح القانون الذي أشرنا إليه في أكثر من موضع في هذا المقال – قدمها الدكاترة إلى الحكومة والبرلمان ، حول وضعيتهم ودورهم المفترض.
لقد أفردنا هذه الوثيقة / المقترح بمقال سابق ، تحت عنوان “الدكاترة في البرلمان” ، أدرجنا فيه مجمل تفاصيلها ؛ ولا نرى بأسا أن نعتمد فقرات من هذه الوثيقة ، مرة أخرى ، ضمن مقالنا الحالي ، لما لها من الأهمية في توضيح الإسهام المفترض لهذه الفئة ضمن مشروع التحديث الذي يراهن عليه المغرب ، والذي نجعله موضوع هذا المقال ، وأيضا لصياغتها المفصلة الدقيقة والوافية ، التي تعبر عن موقف الدكاترة في أعم ملامحه.
وندرج في البداية جملة المسوغات التي طرحها الدكاترة لتأكيد ضرورة وأهمية إسهامهم في تغيير وإصلاح كثير من الأوضاع السلبية التي تعوق التحديث ، كما تعوق إسهامهم فيه ، بسبب عدم تسوية وضعيتهم ، وبسبب عدم إتاحة الشروط الموضوعية لهذا الإسهام ، ومن ذلك :
– كون وضعية دكاترة الإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة متأزمة ، بالنظر إلى الأوضاع المعنوية والمادية التي تعيشها هذه الفئة ، وتفوت عليها عدة مناسبات لتحقيق تقدم في ملفها المشروع والعادل ، كان آخرها تكوين لجنة وزارية منتصف مايو 2011 بأمر من الوزير الأول السابق السيد عباس الفاسي ، الذي أكد خلال مجموعة من الاتفاقيات القطاعية على حل مشكل الدكاترة بشكل أفقي ، نظرا لتواجدهم بجميع القطاعات.
– كون فئة الدكاترة حائزة على أعلى شهادة جامعية ، متوجة لمسار أكاديمي قوامه البحث والإنتاج ، وبذلت فيه جهودا مهمة وسنوات عدة أفنت فيها زهرة شبابها ؛ حيث كانت لها مساهمات قيمة في مجال البحث العلمي على المستوى الوطني والدولي.
– كون تشغيل وتوظيف هذه الفئة جرى وفق مقاربة حكومية تغيب عنها الرؤية التنموية والوطنية ؛ إذ تم توزيع الدكاترة رغما عنهم على القطاعات العمومية ، والجماعات الترابية ، والمؤسسات العامة ، دون مراعاة الإطار الذي يناسب شهاداتهم وتأهيلهم العلمي ، وذلك بإقحامهم في إطارات مختلفة كمتصرفين ، ومساعدين طبيين ، ومفتشي شغل ، وأساتذة للتعليم الثانوي والإعدادي.. والأنكى من ذلك ، كون هذه المقاربة حكمت برؤية طبقية تعكس واقعا مريرا ومحبطا ، ليتأزم واقع الدكاترة بالإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة ، بالنظر إلى المهام التي أوكلت إليهم ، والتي لا تعدو أن تكون ذات طبيعية روتينية وجد ثانوية ، بدل أن تناط إليهم أدوار التأطير والبحث والتكوين ، والدراسات والتحليل والتقييم ، والخبرة ، حتى يساهموا بدورهم في الرقي بالمرفق العمومي ، الذي يشكل محركا أساسيا للاقتصاد الوطني وللرقي الاجتماعي.
– كون هذه الفئة غيبت ، وما تزال مغيبة ، في مشاريع الإصلاح الإداري ، التي ترسم لنفسها كهدف :
أ – تطوير الخدمة العمومية بناء على العنصر البشري ، والذي يشكل قطب رحاها ، باعتبار أن أهم محاورها ، حسب الخطاب الرسمي ، هو تطوير منظومة الأجور في الوظيفة العمومية والقطاعات التي تعمل وفق قوانين الوظيفة العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة..
ب – تأهيل الموارد البشرية وتطوير أساليب تدبيرها..
من هذا المنطلق ، لا يمكن تجاهل أو تغييب الدكاترة باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من الجسم المكون لموظفي الإدارات العمومية كباقي موظفي الدولة ، وذلك من حيث مستوى الشهادات والكفاءات المكتسبة ، والمساهمة الفعلية والبناءة في أوراس التحديث ، والتأهيل ، بحيث لا يمكن أن تستقيم هذه المنظومة إلا باحترام الوضع الاعتباري للدكاترة معنويا وماديا.
– ضرورة تبني الدولة رؤية إيجابية غايتها تحرير الدكاترة من كل مظاهر الإقصاء والتهميش ، والارتقاء بأوضاعهم الاجتماعية ، لأن من شأن تمتعهم بإطارهم القانوني الدستوري أن يشكل رافعة أساسية للبحث العلمي ببلادنا ، وحلقة وصل بين الجامعة والقطاع العام والجماعات الترابية والمؤسسات العامة ، وذلك وفق رؤية منسجمة لجامعة وطنية منفتحة ، وفاعلة على جميع المستويات..
– كون المقترح ثمرة نقاش بين جميع دكاترة الإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة ، ويترجم تطلعات هذه الفئة لواقع أفضل. ومن ثمة فإن إقرار نظام يقضي بإحداث الهيئة المنظمة للدكاترة الموظفين بالإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة ؛ كبوثقة تنصهر فيه هذه التطلعات التي ترمي إلى تحقيقها هذه الفئة منذ ولوجها الإدارة التي تشكل الأداة والآلية التي تدير النشاطات والتوجيهات الحكومية ، والتي تهدف إلى تنفيذ السياسات العامة للدولة بأساليب علمية ، من شأنه رفع الكفاية الإنتاجية في الأجهزة الحكومية، وفق التزام أخلاقي يقضي باحترام الصالح العام ، ومراعاة تطبيق العدالة في معاملة العاملين لديها ، والمساواة بين المرتفقين لتحقيق المسؤولية الاجتماعية.
– كون التوجه المشار إليه لا يمكنه أن يستجيب لطموحات الإدارة المغربية إلا إذا كان مبنيا على بحوث ودراسات علمية تخطيطا وتنظيما وتوجيها وقيادة وتنسيقا ورقابة ، وتنمية لمجهودات ومهارات العاملين لديها ، لخدمة المواطنين وإشباع حاجياتهم. ومما يؤسف له في هذا السياق أن إدارتنا ، التي لازالت تنهج سياسة إقصائية وتهميشية إزاء نخبها ، تعتمد على مكاتب دراسات خارجية خاصة ، بل وحتى أجنبية لإجراء دراسات ، كلما تعلق الأمر بإشكالية تخصها..
– ضرورة اعتماد البحوث والدراسات والمناهج العلمية من لدن الإدارة العامة ، باعتبارها – أي هذه الإدارة – هي الحاضنة والموجهة والمشرفة على كل التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والدينية والرياضية.. ، في علاقاتها الإقليمية والدولية ؛ إذ إن هذه البحوث والدراسات والمناهج ، تضمن نجاح قراراتها الآنية والاستشراقية ، سواء من خلال التشريع أو العمل الميداني ، لتحقيق التعاون بين مختلف السلطات السياسية والاجتماعية.
أما على صعيد طبيعة إسهام الدكاترة في التحديث ، فتقترح الوثيقة أنه يتكون من أدوار محددة هي :
– وضع لبنات دراسات وبحوث استشرافية بكل الإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة.
– تمكين المسؤولين على كل المستويات ، من معطيات علمية تساعدهم على اتخاذ القرارات الصائبة المرتبطة بالأهداف الجيوسياسية والاسترااتيجية للدولة.
– تمكين السياسات العمومية من آليات المتابعة والتعبير والفحص المستمر ، وقياس تأثيرها ومدى فعاليتها.
– قياس مدى فعالية وكفاية الخدمات العمومية.
– تحيين المعلومات في أفق التغلب على الصعوبات التي تواجهها الإدارة سواء كانت سياسية أو اقتصادية ، أو اجتماعية أو صحية ، أو بيئية أو تعليمية أو تربوية..
– القيام بالمسح الميداني عن طريق جمع المعلومات والبيانات ، وحفظها ووصفها وتصنيفها وتحليلها في صور صالحة للاستخدام في المؤسسات والوحدات الإدارية.
– دراسة الظواهر المجتمعية من خلال ربط الفكر النظري بالواقع العملي.
– اعتماد الموضوعية ، واستخدام الطرق الصحيحة والهادفة من خلال الاعتماد على القواعد العلمية التي تتوخى تحقيق التراكم والتنظيم والدقة والتجريد ، والبحث عن الشمولية واليقين ، والانفتاح الفكري ، والابتعاد عن الأحكام الجاهزة والنهائية.
– القيام بدراسات مقارنة واستشرافية في مجال جودة الخدمات الإدارية.
– التعريف بالمبادرات الناجحة والترويج لها وتقييمها.
– الاشتغال على مؤشرات الجودة لتحسين الخدمات العمومية.
– العمل بطرق وآليات متقدمة في ترشيد النفقات العمومية”.
ويمكن أن نلمس نوعا من التركيز – في هذه البحوث والدراسات العلمية – على متطلبات ترشيد وحكامة العمل الإداري ، والذي يعد ، في واقع الأمر ، أحد الأسس التي لا غنى عنها ، بحال ، في أي مشروع تنموي تحديثي ناجح ، لكن الأفق المفترض للبحث العلمي ، الذي تكون فئة الدكاترة نواته القوية ، هو أوسع حتما ، وكما يعيه هؤلاء ، بما يجعله يشمل جوانب الحياة المختلفة ؛ لا يشذ في ذلك شيء. وهذا الذي نقصده –بالمناسبة – منذ بدء حديثنا في هذه المقالة.
* * *
خيارالتحكيم الملكي
إن الخطوة الراهنة ، التي تجسد موقف الدكاترة الحالي ، تتمثل في معاودة تقديم مقترح القانون القاضي بإحداث هيأة خاصة لدكاترة الوظيفة العمومية ونظام أساسي مناسب وخاص ، بعد تجاوز كل ما دفعت به الحكومة من ملاحظات أو نقائص قانونية – وهي لا تقنع أحدا لأنها تؤول في النهاية إلى حيف وإقصاء يمارس ضد هذه الفئة مقارنة بفئات أخرى نالت حقوقها بهذا القانون-.
لكن ، وإن كانت الجبهة الأولى ترفض الاستسلام واليأس وتحاول، مرة أخرى ، أن تطرق باب المؤسسات الرسمية ، فإن نقاشا ما يفتأ يتـنامى في صفوف الدكاترة ، لن يطول به الأمد كيما يتبلور قرارا لا محيد عنه عندما – لا قدر الله – تخفق هذه المحاولة الأخيرة الجارية ، بالتوجه إلى طرق باب هو الأمل الأخير لهذه الفئة من أبناء الوطن.
إن الدكاترة باتوا يعتقدون أن كل الأبواب قد انسدت في وجوههم ، ما دام أن أحدا من المسؤولين لا يريد أن يتحمل مسؤوليته القانونية في حل ملفهم ؛ ولم يبق لهم إلا باب واحد لن ينسد أمامهم هو باب التحكيم الملكي .. إن هذه الفئة، وبرغم ما عانت من الإقصاء والظلم والقهر، لم تعدم العدل والإنصاف والحق لتجدها في وطنها ، وذلك لسبب وحيد هو أن هناك إمكانية اللجوء ، بعد ضياع الحق مع الجهات الأخرى ، إلى التحكيم الملكي..

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،