واخُبْزَتَاهْ !!

واخُبْزَتَاهْ !!

- ‎فيرأي
889
6

tarous محمد طروس

ينتهي جينيريك بداية نشرة أخبار الثامنة المسائية. أخبار قناة الخير والنماء، في دولة خُبزسْتان. يطل مقدم النشرة بوجه شاحب. يبدو وكأنه أضاع ابتسامته المعتادة في غرفة الماكياج. يقاوم برودة أعضاء وجهه. تتمطط شفتاه. تستمر عيناه الحائرتان في دوران أبله، بحثا عن النص في السبورة الإلكترونية. يجده. يهدأ قليلا. يبتلع ما تبقى من ريقه. يَخرج صوته محشرجا: ” طاب مساؤكم مستمعي الكرام. لا أخبار سعيدة هذا اليوم. سأبدأ بأسوأ الأخبار. المفاوضات الجارية بين الحكومة وأرباب المخابز تنتهي إلى الفشل. أمام تعنت أرباب المخابز، وتشبت الحكومة الموقرة بالدفاع عن القدرة الشرائية للشعب الخبزستاني، يعلن الخبازون عن إضراب مفتوح.. التفاصيل من موفدنا من عين المكان “.

 يُكيَّف الخبر. يشيع في أرجاء المدينة السعيدة. ينتشر الرعب. يسود الهلع. تفتح الأبواب. يهرع السكان بحثا عما تبقى من الخبز في نقط البيع. تغلق الدكاكين التقليدية. تُوصد المخابز. تنطفئ أضواء الفضاءات التجارية الكبرى. تعجز السوق السوداء النشيطة عن الاستجابة للطلب المجنون، بالرغم من الأثمنة الصاروخية. يستولي اليأس على المحرومين. تصيح الأبواق. تتعالى الهتافات. تتصاعد الاحتجاجات. يدوي صوت الشارع: ” الخبز مقطوع.. نريد الخبز.. الخبز مقطوع..”. تتجمع الفلول: أطفال، شبان، نساء، شيوخ. راكبون، راجلون، متسلقون. يملؤون الشوارع. يتزاحمون. يتدافعون. تصب الشوارع أمواج البشر الهائجة في الساحة الكبرى. تُستنفر القوات العمومية. تخرج السيارات المصفحة. يدجج أفراد القوات المُستنفَرة بالهروات، بالقنابل المسيلة للدموع، بالذروع.. بالقليل من الحماس والاقتناع. طبعا. الخبز قضية الجميع في دولة خبزستان.

تُغلق المطارات. تُشوش وسائل الاتصال. تشتغل آليات التعتيم. تُسد كل الشوارع المؤدية إلى الساحة الثائرة. حصار كامل. تتحرك الأطراف المتعددة لتطويق المسألة. المسألة محلية بامتياز. يستمر الصراخ. يشتد الهتاف. توظف آليات التسخير الجماهيري:تضئ الشاشات العملاقة المبثوثة في أرجاء الساحة العمومية. تنشد إليها العيون والآذان. يستمر اللغط. تتناسل الأسئلة والتعليقات. ترفع اللافتات. يطل رئيس حكومة خبزستان. يُجلس أمامه صحافيين مرموقين مشهورين. يبتسمان تشجيعا وامتنانا. يصطف خلفه أصحاب وصاحبات الحقائب الملونة مُؤازِرين، مُعضِّدِين، مباركين. تقترب الكاميرا من السيد الرئيس. تركز على بعض التفاصيل الدالة: ربطة عنق زرقاء مربوطة بإحكام. نظرة منزعجة. أطلال لِحيةٍ. تنفتح الشفتان المعتادتان على الكلام. يأتي الخطاب مبحوحا، بدون بسملة، بدون حمدلة، بدون حوقلة: ” أنصتوا رحمكم الله. اسمعوني. افهموني وافهموني. أعرف أنكم لن تصدقوني. أعرف أنكم مللتم انتظار وعودي الانتخابية القديمة. صدقوني. لم أكن أعرف أن بين الحلم وبين الإنجاز مسافة ضوئية. لم أكن أعرف أن التماسيح والأشباح وكائنات أخرى، لا قِبل لكم بإدراكها، تتربص في الظلام. كنت أعتقد أن أصوات نسبة منكم كافية لأنفذ وعودي. لم أكن أتصور أن يصل الإخفاق إلى هذا الحد. الخبز؟ وَاهْ؟. اسمعوني. افهموني. صدقوني لآخر مرة. ستقُصُّ الحكومة من مداخيلها، من استثماراتها، من ديونها المكدسة، ما يمكنها من توفير خبزة لكل واحد منكم. نعم خبزة واحدة لكل واحد .. يوميا. هذا ليس وعدا انتخابيا. هذا التزام حقيقي. لا أدعي أني سأستقيل إن لم أنفذه. الأمر خارج عن إرادتي. طبعا توفير الخبز في ظل الإكراهات صعبة. لكن لا بد من القصّْ والقصاص والاقتصاص. ” ينتهي الخطاب. يبادر الصحافيان إلى الابتسام مهنئيْن، مباركيْن. يقف أصحاب وصاحبات الحقائب مصفقين مهللين. يشعرون بزهو الانتصار في الشوط الاول من معركة الخبز. لكن. لا تسير الأمور كما شِيءَ لها. تزداد الاحتجاجات حِدةً واحتقانا. تلجأ الشاشات العملاقة إلى الإغراء. تبث شريطا من الإشهارات الغذائية المتتالية. حلويات. فطائر. أسماك. شرائح لحوم خيالية. ماركات متنوعة من الجبن، من الحليب. مشروبات غازية. حلويات. فطائر. فطائر، حلويات. الجماهير لاتبالي. يستمر الهتاف: “الخبزْ. الخبزْ. الخبز الخبز الخبزْ. نحن نريد .. الخبز”. تفشل الشاشات العملاقة في إسكات هدير الأمواج البشرية. ينتهي الإرسال. تُطفأ الأنوار. يسود الظلام. تبتلع الحناجر هتافاتها في حالة من الترقب. تتكتل الأجساد احتماء مما سيأتي من مجهول. تمر الدقائق بطيئة.

لكن. يحدث امر غريب. تنطلق في الأجواء أضواء وأشكال غريبة. تُخطف الأبصار. تخفق القلوب. تشرئب الأعناق نحو السماء. تزداد الأضواء لمعانا. تزداد الأشكال تكتلا. تتحد الأضواء بالكتل. تتخذ شكل دائرة مضيئة. تكبر الدائرة. تتضح معالمها. يشع لونها القمحي في قلب الظلام. تُحبس الأنفاس. يصاب القوم بالذهول. ترتفع أصوات الأطفال: ” إنها خبزة. خبزة آتية من السماء. كم هي فاتنة وشهية. السماء تستجيب. اشكروا السماء!!“. ينبهر القوم. يخرون سُجَّدا. ترتفع الاصوات خاشعة بالتراتيل والتسابيح. تحط القوات العمومية أسلحتها. تنزع خوذاتها وأحذيتها الثقيلة. تنخرط في الدعاء: ” واخبزتاه. أيتها الخبزة المقدسة. انزلي. اقتربي. أشعي نورك. أدفئي بطون عبادك الجائعة. كوني لنا عيدا لأولنا وآخرنا، وآية من السماء”. تنشرح القلوب. تطمئن البطون. تذوب الأصوات في تراتيلها الخاشعة. تتحد الأجساد في جذبة صوفية روحانية. يسود جو من الطهر والإيمان. تستمر الصلوات.

ينتهي الهزيع الأخير من الليل. ينفصل الخيط الأبيض عن الخيط الأسود. ينبلج الصبح. تأتي الموجة الأولى من أشعة الشمس. يلملم الليل آخر سواده. تأخذ الخبزة المقدسة في الانكماش. يأخذ لونها القمحي في الشحوب. تضمر. تتضاءل. تصير نقطة صغيرة. دقيقة. تضمحل. تتبخر في فضاء النهار. يستحوذ الذهول من جديد على العقول والألباب. الأعناق مشرئبة نحو السماء. الأفواه فاغرة، مشدوهة. الحناجر مكلَّسة. تتلاشى الأصوات. تتوقف الابتهالات. تستعيد القوات العمومية خوذاتها، أسلحتها وأحذيتها الثقيلة. تتحرك الأجساد بطيئة، متراخية نحو حلم جديد. تستمر القلوب معلقة في الفضاء. تستعيد الساحة هدوءها. تخلو. يمكث وسط الساحة طفل صغير.. صغير جدا. يوزع النظر بين الشاشات العملاقة وبين السماء الفسيحة. ينتظر جوابا. يتوقف عن النظر فجأة. يُغمض عينيه القمحيتين. يستجمع ما تبقى من قواه. يصيح بصوت عنيد:” وا خبزتاه! وا خبزتاه!..” تردد صدى صوته فلولُ المنسحبين من شعب خبزستان .. في صمت كئيب.

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،