خالي حماد( قصة قصيرة)

خالي حماد( قصة قصيرة)

- ‎فيفن و ثقافة
229
6

كان خالي حماد رجلا قد جاوز السبعين من عمره، كث اللحية والحاجبين، ستذهب جهودك سدى لو حاولت العثور على شعرة سوداء فيها، تضاريس وجهه غاية في التناسق، تكاد تظنها ماكياجا لرونقها وجمالها. وكنا نحن الصغار نتلهف للجلوس إليه والاستماع إلى حكاياته رغم إيماننا الشديد بأن معظمها مختلق و أن خالي حماد كثير الكذب، ولا يبدو عليه علامات الاضطراب رغم كونه كاذبا، كما أن كلامه مسترسل ببراعة لا تترك لك فسحة للتشكيك والتساؤل؛ وأكثر من ذلك تأخذك روعة الحكاية فتفرض على نفسك الإيمان بصدقها، خصوصا ونحن جميعا نعلم أن خالي حماد كان قوي البنية، فهذا ما يقوله الكبار ممن أدركوا شبابه، وشارك في الحرب العالمية الثانية مع الجيش الفرنسي.

يروي خالي حماد أنه تعاطف مع الألمان وفر إلى جيشهم، وهو من أنقذ هتلر من الموت المحقق مرتين، و أن هتلر علق له وساما ضيعه في الطريق، وربت على كتفه ذات مرة وقال له:”مراس أورد كيي إكوت تغلباغ فرنسا دالنكليز مشتان أيا”(لولاك أنت لهزمنا الفرنسيون و الإنجليز منذ مدة). تساءلنا جميعا: وبالأمازيغية قالها؟ أجاب: نعم! فتساءلنا من جديد: وهل يعرف الأمازيغية؟ انتفض في وجهنا وقال: إن أمه كانت أمازيغية مغربية، وكانت في علاقة مع يهودي مما أغضب قبيلتها فتبرأت منها وطردتها، أخذها اليهودي معه إلى ألمانيا، ولا يعرف هذه الحقيقة غيري أنا، لقد روى لي هتلر ذلك وهو يبكي بغزارة.
رغم كل تكذيبي اليوم لحكاية خالي حماد إلا أنه يحتمل أن تكون صادقة، فلا أحد يعرف أصل هتلر، وتنتاب الشكوك ذلك، حيث يقال إنه ابن سفاح من أب يهودي و أم لا يعرف أحد نسبها الحقيقي. فهل حكاية خالي حماد هي الأصدق تاريخيا؟ ربما.
نتردد كل مساء بعد أن نتعب من اللعب على حانوت الدوار، نلصق أجسادنا ببعض، ونلتف حول خالي حماد كما يلتف النمل على قطعة سكر؛ نلتهم حكاياته بشراهة، نضحك حينا ونقهقه، ويسرح خيالنا حينا آخر في عوالم المجهول. ولكم خبل خالي حماد عقولنا عندما روى لنا حكاية صراعه مع رجل قال إنه جاء من الفضاء، جاء من نجم حيث يعيش بشر آخرون، و أنه كان إنسانا ذئبا في الوقت نفسه. وأكثر ما خبل عقولنا هو بث التلفزة لحكاية الرجل الذئب في سلسلة “غرانديزر”، ثم بثها لحكاية “ماوكلي فتى الأدغال” بعد ذلك، فبعضنا قال بأن خالي حماد ربما صدق في كثير مما يقول، لكن أحدهم قال: إن ثمة شخصا يشتغل في التلفزة كان قد التقى خالي حماد في المدينة ذات يوم فأخذ منه حكاياته وحولها إلى سلسلات رسوم متحركة.
كثيرا ما اختلطت حكايات خالي حماد بأحلامنا سواء في اليقظة أو في المنام، وظلت كذلك حتى الآن، فأنا أستحضرها بالكثير من الإعجاب والتقدير.
استيقظنا ذات صباح على صراخ للا خدوج وعويلها، فتسابق الناس إلى بيتها، ولم تكن للا خدوج غير زوجة خالي حماد، إنها تصرخ معلنة موته، وتولول ناعية رحيله.
اجتمع أهل الدوار واجتمعنا معهم نحن الأطفال، و أذكر أن لا أحد منا التحق بالمدرسة ذلك اليوم، فقد شاركنا للا خدوج و أهل الدوار بكاءهم خالي حماد، وكان بكاؤنا أشد.
رحل خالي حماد لكن حكاياته بقيت تتردد في أذهاننا، نجلس في المكان حيث كنا نلتف حوله و يسود الصمت، فحينما سرنا في جنازته أحسسنا أننا نشيع شخصية عظيمة، نشيع عالما خصبا من التجارب والخيال، نشيع من كشف حقيقة هتلر، ومن كان له التأثير في الأحداث العالمية بإنقاذه له مرتين، إذ لولاه لانتهت الحرب في سنتها الأولى ولما خلفت ملايين القتلى والمعطوبين، وربما لولاه ما ألقيت القنبلتين على هيروشيما ونكازاكي.
مضت أيام لا حديث لنا إلا عن خالي حماد والشوق يمزق أكبادنا الصغيرة إليه وإلى حكاياته، كلما مررنا بجانب المقبرة رددنا جميعا.” أك يرحم ربي أخالي حماد إسوسعو فلاك”.
بعد أسابيع انبرى حسن من بيننا وقال: لنعوض حكايات خالي حماد الجميلة بلعبة ما! اقترح يوسف لعبة “قاقا عراب زيد الكدام”.
صارت الحكايات “قاقا عراب زيد الكدام” نلعبها كل يوم حتى كبر بعضنا، وبقي الآخرون يلعبونها مع من هم أصغر منهم إلى أن كبروا بدورهم، ثم سيطر التلفاز على الأطفال فماتت الحكاية وماتت اللعبة، وسوي قبر خالي حماد بالأرض بفعل الفيضان ومعه قبور أخرى.
من حين لآخر نصادف في بعض الأفلام حكاية من حكايات خالي حماد أو جزءا منها فينتابنا الشك بأن صاحب الفيلم قد اقتبسها من خالي حماد…

إبراهيم الفتاحي

 

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،