قصة قصيرة .THE END

قصة قصيرة .THE END

- ‎فيفن و ثقافة
256
6

 

خرجت كعادتي أتحسس مرورها لعل هذا اللظى المضطرم في قلبي يخف بعض الشيء، فأنا على يقين أن نومي سيعسر كلما لم ترمقها عيناي ولو من بعيد، و أنا على يقين أن النوم سيتغنج ويتدلل و أهداب عيني تستجديه، وما هي ببالغة إياه إلا والفجر يغازل ظلمة الليل ويتشبب برحيلها، سيمارس النوم على عيني كل أشكال الاضطهاد، ستدخل راحتي زنزانة الويلات، ولن تضمد جراحها؛ ووحدها تلك النظرة الخاطفة ستبعث السكينة في القلب ليصدر أمره لعيني لكي تعانقا فردوس الأحلام.
لا يفهم أحد هذا الجنون غير قلبي المعذب، فهو بلادة وطيش كما يزعمون، فسالة كما يقولون، هوس الصبية وعنجهية المراهقة كما يصفون؛ لكن كلما استفسرت هذا القلب اللعين والضعيف الذي يسكنني إلا وسخر مني قائلا:” لا تسألني يا صاحبي عن أشياء لم أتعلمها بل فطرت عليها، ولا تسألني فأنا لا أعرف غير الحب والنبض باسمها، فذكرها أمني وسلامتي، إنها سكينتي المرجوة”.
حتى عيناي اللتان احترمت نظرتهما الثاقبة خانتاني هذه المرة، وحينما استعتبتهما أجهشتا بالبكاء قائلتان بصوت تخنقه العبرة:” لا نملك غير البكاء كلما غاب فردوس جمالها عن مرآنا، ولا نملك غير هذه العبرات المنفلوطية كلما أحسسنا بفراق يلوح في الأفق، فلا تسألنا ما لا طاقة لنا به؛ إننا أعجز من ذلك القلب الذي يحرك جسدك، وحري به أن يتوقف عن النبض ليريح نفسه ويريحنا من هذا العذاب، وربما يريحها هي أيضا ويجعلها حرة طليقة في عالم الغرام، بدل غرامك المعوج أسير العكازتين، فأنت لست بطلا على أي حال! وستقرر يوما ما أن تتركك وترتمي في حضن بطل، فأنت أديب شاعر و متغزل جهبذ، وعارف محترم بالنساء، ولكن تصلح كثيرا أن يستأجر أحد الأبطال لسانك وقلمك ليستميل حبيبته ويقتنص قلبها، ما أجمل عباراتك أيها الشويعر الصغير في عالم غاب فيه التعبير الحسن، وما أعظم مشاعرك في زمن ندرت فيه المشاعر الطيبة، لكن كن على يقين ياخليفة قيس ووريث امرئ القيس أن نهايتك أوشكت! ولا ريب أنك ستموت وحيدا، سيهجرك الحصان وتهجرك كل النساء اللواتي عربدت في حضرتهن، وكم سيشفق عليك الزمن وتتقطع جوارحه من أجلك، لأن امرأ القيس على الأقل وجد قبر حبيبته في آخر لحظاته ومات وهو يعانقه، وعند رأسه تقف العجوز الراعية التي دمعت عيناها من أجله، أما أنت فبئس الحال ذاك الذي سينهي وجودك!”.
طلبت من عيني هذه المرة أن تدمعا بغزارة من أجلي، فعندما خرجت وقعتا على رونق بهائها يلوح في ظلمة الليل المكسرة بمصابيح الحي الخافتة، لم تكن لوحدها بل كانت ترافق غريمي المحترم، فاحتلت ذهني صورة سمعية لجملة طالما رددتها على مسامعي:” أنت تتربع على قلبي، أنت وحدك فيه”، لا أشك في صدقها على أي حال ولكنني ضعفت، و أحسست أن سكرات الموت تدب في جسدي، وهي تماما كما يقال، تبدأ من أصابع القدمين وتسري في باقي الجسد منبئة بانتهاء الأجل المسمى في علم الله.
أسندت جسدي المنهد إلى الحائط و هي تدير ظهرها غير آبهة بوجودي ناهيك عن مشهد موتي، فمشت الهوينى بخطاها المنمقة وهي تدبر في الظلام بينما أدبر أنا عن الوجود وعن الرومانسية التي أهدتني إياها كل هذا الوقت، عن جنة الخلد التي أسكنتني بحبها، حتى صرت أجاري النبيين والصديقين والشهداء في مجالسهم وفي مقاماتهم العلى، فحاولت بكل معارفي وكل عقلانيتي أن أفهم وأن أفسر؛ لكن شيئا من هذا لم ينجدني فاستسلمت لغيرتي و تدافعت جزيئات الدمع في عيني اللتين رفضتا إنجادي وردتا هذا الدمع بمرارة حتى لا أكون أضحوكة كما تزعمان.
كل العالم لا يساوي شيئا أمام بهاء ابتسامتها، أمام طمأنينة تنبعث لمرآها، أمام سكينة تمتد كظلال السنديان على فؤادي المدلج صوب ملكوت الغرام، والسائر على الرمضاء لما يدركه قيظ ابتسامتها لغيري ودلال أردته دوما لي وحدي؛ لكنه لم يكن، فقد اقتربت منه كثيرا وهي تكلمه، ووددت لو أني ملكت القوة لأدفعها و أصفعها بشدة بالغة حتى أرى رسم أصابعي في خدها، ثم أعود فأقبلها و أعانقها وتبكي على ذراعي حتى تبتل ملابسي بدموعها الغجرية، و أسمع نحيبها طويلا قبل أن يمتد إليها لساني ليرتل عليها قرآن الحب ويسمعها ترانيم الغرام الذي يكويني، ويقربها من فتيل النار الذي يشويني ويحصد ضحكتي العميقة من الدنيا.
لم أشأ في البداية أن أحدثها عن الأمر، لكنني عجزت، فالاختناق باد في كلامي، وباحت الفهاهة والعي في لساني بما يضمره فؤادي الكسير، و أمام إصرارها بحت بالأمر، وماذا بعد البوح؟ علمتني الفلسفة العقلانية والتجريبية في آن واحد، واستحضرت أطروحات الفلاسفة في التملك و الحكم المسبق من أرسطو حتى دريدا مرورا بديكارت و كانط، ثم ولت كلامها شطر الفلسفة الواقعية والمادية، وهي على أي حال لم تنس الفرويدية، وكان مصطلحا الوهم و اللاشعور حاضرين بقوة، وختمت تعاليمها المقدسة بأطروحة موت الواقع لجون بودريار.
أمام هذا السيل العرمرم من الأفكار لم أجد أمامي سوى التعاليم المسيحية لألوذ بها، فأدرت لها خدي الأيمن بعدما صفعت الأيسر، فعلت ذلك ظنا مني أنها ستحنو كعادتها لكنها لم تفعل، و أيقظتني على صراخ قلبي: أحبها!أحبها!أحب…
لن أنسى يوما أنها جعلت مني أديبا ناشئا، و بدأت أكبر في عالم الشعر بوقفي إياه عليها، فحينما أسكنتني بلاطها وقبلتني شاعرها زينت اللفظ في لساني، وقوت العبارة في قريضي، وتعالت قهقهة القوافي من بين أناملي. ثم صار الحكي أنشودتي، فشكرا لها على أي حال ولولاها ما كنت أنا الآن، ولا كنت ذلك الذي كان. ولا أنسى أنني كرهت عالم الإبداع من دونها، فأقسمت جهد اليمين أن أجعل منها أديبة بارعة، و إنني لأملك ذلك، لا يعلم هذا السر سواي، فالحقيقة أنني وحدي من يعرف من أكون بعدما توارى عبد الحليم صديقي المجنون والمحبوب. شكرا لهذه السكينة التي سكنت قلبي فأكرمته، ثم جرحته فأعظمته، و إن كنت أخشى أن تحرق أشعاري و تنعى للعالمين رحيلي حتى قبل أن أستسلم لرياح الموت. هكذا كلمتها وبقيت أنتظر أن تسمع كلامي، وكل ما أخافه أن ترد علي

بهكذا تكلم زرادشت.
لملمت أذيال خيبتي و أنا أقضم أناملي من الغيظ حينا ومن العشق أحيانا، من الغيرة ثم من الذكرى التي تسكنني، فيجثم على صدري غناؤها و بكاؤها و حنانها و قسوتها، ثم خوفها و أمنها، اهتمامها وجفاؤها، فقبولها و رفضها، شوقها و عتابها…
يبرز كل شيء دفعة واحدة ثم يغيب كل شيء في لحظة واحدة، و أنا مسمر أمام فيلم هندي لم أفهم منه شيئا إلا أنني وددت لو كنت البطل الذي يسعد كثيرا مع حبيبته وهو يعانقها بعد أن أنقذها وقضى على أعدائه قبل أن تغطي الشاشة عبارة THE END.

إبراهيم الفتاحي

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،