الشباب و السياسة: “بين حانا و مانا ضاعت لحانا”

الشباب و السياسة: “بين حانا و مانا ضاعت لحانا”

- ‎فيرأي
214
6

 

ابراهيم الفتاحي

روى الميداني رحمه الله في كتابه “مجمع الأمثال” أن أعرابيا تزوج امرأة اسمها “حانا” و بعد سنين من ذلك الزواج و اشتعال اللحية شيبا قرر الأعرابي الزواج من ثانية في مقتبل العمر اسمها “مانا”، فكان إذا اختلا بالصغرى تنتف الشعيرات البيضاء من لحيته حتى يبدو شابا مناسبا لها، بينما إن اختلا بالكبرى تنتف الشعيرات السوداء من لحيته حتى يبدو أكثر كهولة بما يناسب سنها أيضا، و مضت الأيام و الأعرابي على حاله حتى نتفتا لحيته عن آخرها، فقال قولته الشهيرة “بين حانا و مانا ضاعت لحانا”، و صارت مثلا يضرب عند العرب للدلالة على من ضاع بين أمرين اثنين متعارضين. و إني أرى هذا المثل أنسب لحال فئتنا من الشباب ممن بين الثلاثين و الأربعين، فقد ارتيضينا المشاركة السياسية منذ أن كثر الحديث عنها و اشتد القول فيها و في ضرورتها مع العهد الجديد باعتلاء الملك محمد السادس عرش المملكة، و انخرطنا في الأحزاب السياسية، و كانت لنا طموحاتنا المشروعة في التأطير السياسي و التكوين استعدادا للمسئوليات و المشاركة في تدبير الشأن العام، و بعد مضي أزيد من عقد من الزمن على تحزبنا و اقترابنا من مغادرة نادي الشباب مازلنا على حالنا نواجه عراقيل سدنة الهيكل في أحزابنا، فالذين وجدناهم أمامنا مازالوا في تسلطهم علينا و تشبثهم بقيادتنا و الحجر علينا، فهم ينزعون جزيئات التمرس من أذهاننا قهرا حتى نبقى صغارا نأتمر بأمرهم و نتبع نهجهم و نسير في خطاهم سير القدة بالقدة، بينما امتلأت أحزابنا بشباب في العشرينات من أعمارهم ممن يروننا كبارا و آن أوان زحزحتنا عن قيادة الشباب و الالتحاق بنادي الكبار إخلاء لأمكنة يرونها حقا لهم، فيقتلعون جزيئات الإحساس بالشباب من أفئدتنا. و بين الكبار و الصغار نجد آمالنا مهددة و أحلامنا منتكسة. فمتى سيفهم القياديون تغير الأزمنة و تحولها، خصوصا و أن بعضهم مجرد قيادات كرتونية لا يملكون قواعد و لا سواعد و لا أفكار، يبحثون عن الشرعية في أقدمية متهالكة بدعوى أنهم مؤسسون، و إن منهم من لم تتجاوز مهمته إبان التأسيس حمل حقيبة الزعيم أو “السخرة” للسادة، و حين غادر من تزعموا إلى دار البقاء انقضوا على الزعامة مستثمرين أشياء لا تمت إلى السياسة النبيلة بصلة و استغلوا خدمات قدموها لمن عاثوا في السياسة فسادا، و كان من حظهم في ذلك الزمان رهاب الناس من السياسة نظرا لموروث سنوات الرصاص، و لم تكن المعلومة زمنئذ متوفرة كما هي اليوم، و لا كانت القوانين تحمي حقوق المناضلين، ما يهم أن تلك أمة قد خلت لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت، و لسنا نتحدث هنا من باب كلما دخلت أمة لعنت أختها، فالتاريخ له معنى في نظرنا، و مقتضيات الأحوال متغيرة و لسنا نلعنها أو نبخسها حقها، معاذ الله أن نكون كذلك، و لكننا نبتغي حقنا بما ناضلنا و اصطبرنا في أن نقرر داخل المؤسسات الحزبية، و أن نسيرها، رافضين النظرة الدكتاتورية المتسلطة و للقيادات الكرتونية البائسة التي بات الشرخ بينها و بين الواقع واضحا، و أضحت لا تعي المتغيرات و لا تفهم التحولات، قيادات تعيش الحاضر بأجسادها أما أذهانها فقابعة هناك في ماض لن يعود أبدا، قيادات في آذانها وقر و بينها و بين دنيانا حجاب.
يجهل كثير من القياديين أو يتجاهلون عنوة أنه لو دامت لغيرهم ما وصلت إليهم، و أنه لا ولات حين مناص، و أن اللبيب من تحسس أسباب النزول عند الصعود حتى لا يهوي، و أن من قدم خيرا فالتاريخ يذكره بخير حتى إن تنحى، و أن من يملك حكمة يبقى مرجعا تهفوا إليه الأفئدة حتى إن تنازل و استراح بعدما بلغ من الكبر عتيا، و يتجاهلون أن الفاسد فاسد حتى و إن تمسأل و توزر و سير، و أن البنان له مشير و اللعنة تتبعه أنى حل و ارتحل، و أنه سيهوي حتى و إن أطال المكوث في السطوح، و كما يقول المثل الإسباني “القردة تبقى قردة حتى و إن ألبستها الحرير” (la mona queda mona aunque vestida de seda).
لقد خرج الشباب إلى الشوارع مطالبين بإسقاط الفساد، لكن كثيرا منهم فهم أن العمل من داخل المؤسسات أفضل، و أن المغرب تجربة مختلفة، و حفظ الاستقرار نعمة كبيرة في وطننا، و ثمنوا الاستجابة الملكية لمطالبهم، و استمرت السياسة الملكية راشدة تقودنا نحو الأفضل، لكن من جبلوا على مص الدماء أحنوا رؤوسهم للعاصفة، و سرعان ما عادوا إلى سابق عهدهم و تمترسوا بأحزابهم يقصون أولئك الشباب و يصرون على تهميشهم و استبعادهم و يريدونهم خدما لمصالحهم الضيقة و حطبا لشرعية صورية مزعومة، و يحبكون قوانين الأحزاب و أنظمتها بما يمكنهم من الاستمرار في التسلط، و حتى في اللوائح التي كان منتظرا أن تحمل شبابا كفؤا إلى قبة البرلمان ممن ناضلوا و تمرسوا سياسيا فقد جاءت بعكس ذلك إلا من رحم ربك، فقد وضعوا أبناءهم و أقرباءهم على رؤوسها مستغلين تسلطهم في قيادة الحزب، رغم أن أبناءعم لا ينتمون إلى الأحزاب إلا ببنوتهم و قربهم من المتسلطين فيها على رقاب الناس و ليس بنضالهم، حتى وجدنا الأب الذي شاب في الغرفة الثانية يضع ابنه البار على رأس اللائحة الوطنية فصار جاره في الغرفة الأولى، رغم أن الابن لم يعرف يوما إلى النضال سبيلا، و ولد وسط أكوام من الأموال و هو أبعد الناس عن هموم الشعب يعيش البذخ و الترف و لا يحسن تركيب جملة مفيدة ناهيك عن صياغة مشروع أو تهييء مقترح يعني قطاعا من القطاعات. أما نحن أبناء الشعب المناضلين، الذين ضحينا بقوت يومنا لنتأطر و نتكون و نتنقل، و ما لبثنا ندعوا و نستقطب و نفكر و ننظر و ننشط و نقنع و نحشد، فلا مقام لنا سوى أن ننجز المهمات خلف الستار و ننزوي بعيدا عن الأضواء، نصفق و نهلل، لأن سحننا سمجة و وجوهنا عليها غبرة، لا نصلح للظهور مهما تعلمنا و أنجزنا، و القباب ليست لنا و لا حقا لنا، و كيف يمكن ذلك لمثلي و أنا أقول هأنذا، و لم أقل يوما كان أبي، رغم أن أبي كان رجلا عظيما، أعظم من كل أولئك القياديين، و أخلص منهم لله و الوطن و الملك، فقد كان بناء يشيد المباني العظيمة و كوخه خرب، لكنه أطعمني حلالا و علمني حلالا، علمني القرآن و الصلاة، و كان مسلما مغربيا وسطيا بحق، لا يمكن أن تشتم منه رائحة تعصب أو تطرف، و ما سمعته يوما يذكر الملك دون إرفاق ذكره بتعابير الاحترام و الإجلال، فكان يذكره إما بعبارة “سيدنا” أو عبارة “أكليد ناغ” أي ملكنا، لم تكن هناك كاميرات و لا مراقبة و لا رجال سلطة، في عزلته بينه و بين ابنه يتحدث عن الملك باحترام و تبجيل، و يعلمنا ذلك باستمرار، يسكت الدنيا كي ينصت لنشرات الأخبار المفصلة حول الأنشطة الملكية في المذياع، قد يسكت الذباب عن الطنين ليستمع إلى الخطاب الملكي، و كان يؤكد رؤيته للمغفور له محمد الخامس في القمر، و لا يقبل أي جدال في تلك الحقيقة، و حين أبصر المغفور له الحسن الثاني على مقربة عشرات الأمتار ذات عيد عرش، جاءنا مزهوا محبورا بفضل رؤيته للملك عن قرب و حدثنا عن هالة من نور في وجه الملك، كان يقول ذلك بيقين تام و هو يسبح لله تعالى، و كان يدعو له بالنصر و التمكين سرا و علانية، حب حقيقي دون زيف أو نفاق أو تملق لنيل منصب، فقد كان راضيا بما قسمه الله حامدا شاكرا لربه على نعمة المواطنة في المغرب، لم يكن أحد يعرفه لكنني أنا و روح هذا الوطن نعرفه حقا، و ما هو إلا مثال لآلاف الآباء في وطني.

لقد نحتنا وجودنا من الصخر، و لم نسند ظهورنا إلى عائلة عريقة، أو أسرة مترفة، لكننا تعلمنا من أسرنا المسكينة و آبائنا الفقراء الولاء للوطن و الملك، تعلمنا منهم الصدق في حبنا، و إن كان لنا من وميض فهو وميض مجهودنا و تربيتهم، اقتناعا منا بهذا الوطن و بحقنا فيه، و أنه لا يميز بين ابن فلان و ابن علان، و أن المرجع هو المواطنة المغربية لا الانتماءات العائلية، و عازمون على مواجهة سدنة الفساد، عازمون على اقتلاع الأوليغارشية من المؤسسات، لسنا ضد أحد أو كارهين لأحد، و لكننا نبتغي الكفاءة النضالية و التكوينية فيصلا و ميزانا، لا الامكانات المالية أو البنوة لهذا أو ذاك.
فليعلم المتسلطون أننا لن نحتج في الشوارع، لأننا نفهم فهما عميقا أن المشكلة في الهيئات السياسية التي تمدهم بالشرعية، و إن اقتضى الحال فسنحول تلك الهيئات إلى شوارع نصدح فيها بأصواتنا و مطالبنا، و تعلو هتافات حناجرنا بضرورة احترام القانون، و بضرورة المساواة، و القطع مع الأساليب الفاسدة المفسدة في تدبير الهيئات، و هذا هو الرهان.. أجل هذا هو الرهان…

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،