َحلْقة الحكاية أو فن القول: نكبة أول الفنون السبعة !

َحلْقة الحكاية أو فن القول: نكبة أول الفنون السبعة !

- ‎فيفن و ثقافة
783
6

الحكواتي محمد باريز في احدى حلقاته بساحة جامع ألفنا

اعتماد سلام

يقف محمد باريز الحكواتي، وسط شبه دائرة بشرية، يرفع صولجانه الذهبي إلى الأعلى ثم يهوي به في الهواء معلنا بداية حكاية “نكبة ابن رشد”.

يسترسل قائلا: ”أب الوليد محمد، قاضي قرطبة المعروف بقاضي الحضرتين، لأنه عمل بالحضرة المراكشية والحضرة الأندلسية في زمن الموحدين وأواخر عهد المرابطين، كان يحب شرح كتب أريسطو ومن بينها كتاب الشعر الذي عثر فيه على كلمتي تراجيديا وكوميديا فحار في شرحهما، وبقي أبو الوليد محمد دون طعام أو نوم يفكر في كنه الكلمتين، بعد ذلك توضأ وقام إلى الصلاة وقرأ ما تيسر من القرآن ثم استغفر الله فظهر له المعنى .. وجده في كتاب الخطابة لأريسطو أيضا، التراجيديا هي أكثر الكلمات الموجودة في المدح والثناء والكلمة الحسنة، أما الكوميديا فوجدها في كلمات الهجاء والإهانة و السخرية.. ”.

اندهاش الجمهور المتحلق حول باريز الحكواتي لم يوقفه، بل زاده فضول السامعين استماتة من أجل إكمال الحكاية : ”بعد ذلك جاءت فترة النكبة مع أبي يعقوب يوسف فكان ما كان، حتى كتب له أن يموت في الحضرة المراكشية ويدفن في البلاد الأندلسية.. ”!

لسنا هنا بصدد الحديث عن قطعة مسرحية أو مشهد من أحد الأفلام أو المسلسلات، ولا بصدد قراءة نص “مبحث ابن رشد” الذي أورده الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، في كتابه ‘الألف’.. بل نحن أمام فن قائم بذاته يتخذ من الساحات مسرحا ومن العابرين جمهورا ومن الحكايات محتوى ومادة فنية تختلف حسب اختلاف موهبة الحكواتي وتمكنه وإتقانه لفن القول أو الحكاية الشعبية أو كما تسمى أيضا في المغرب “الحلقه”.

فن القول: أول الفنون السبعة

بالعودة إلى قواميس اللغة نجد أن معنى الحلقة، بتسكين اللام، هو كل شيء استدار وجمعها حَلْقات، وفي الدارجة المغربية تطلق كلمة “الَحلْقة” على كل تجمع بشري يسمع له صدى أو ضجيج، ولأن الجمهور المتابع للحكواتي أو “الحلايقي” ، يقف حوله متحلقا في شكل دائري، سمي هذا الفن بالحلقة، وهي أيضا شكل من أشكال المسرح الشعبي يقوم فيه الحلايقي/الحكواتي بسرد حكايات وقصص يبدع في طريقة حكيها ويرافق ذلك بتعبيرات وحركات جسدية تختلف حسب اختلاف موضوع الحكاية، وقد ارتبطت كلمة “الحلقة” بكتب التاريخ والفقه حيث وردت العبارة أيضا في سياق مجالس الإفتاء والقضاء ورواة الحديث.

وفن الحلقة هو أقدم الفنون ممارسة بالمغرب وأبرز الموروثات الثقافية الشفهية في العالم، وحسب الدكتور محمد فخر الدين، الحاصل على دكتوراة الدولة في الحكاية الشعبية والباحث في مجال التراث والحلقه، فإن هذه الأخيرة جزء من الثقافة المغربية التي انتشرت عبر المدن والأسواق وخلدت الموروثات المغربية من حكم وألغاز وأمثال وغيرها، ويرى الدكتور فخر الدين أيضا، أن الحلقة هي شكل أولا بحيث يتحلق الجمهور في دائرة أو “خلخال” في تعبير الحكواتيين مدة ساعات، دون أن يجمعهما تعاقد أو التزام ( تذاكر مثلا) وهو أمر لا يحدث عادة، بل غير ممكن الحدوث حسب فخر الدين، لولا كون الحلايقي/الحكواتي يتمتع بثقافة موسوعية ومتنوعة تمكنه من امتلاك قلوب المتحلقين حوله لمدة طويلة جدا، وهذا ينسحب على الحلقة بمختلف أشكال الفرجة الشعبية التي توفرها، سواء تعلق الأمر بترويض الأفاعي أو القردة أو حلقات الرقص والغناء أو رواية الحكاية الشعبية، وهذا الشكل الأخير هو الذي نتعرض له بالأخص في هذا الموضوع، باعتبار أن فن القول هو أول الفنون السبعة كما يرسخ لذلك الحكواتيون جيلا بعد آخر.
الحكاية محور الحلقه:
الحلقة عالم كرنفالي بامتياز. وميخائيل باختين، أول من نظر لثقافة الكرنفال قال إنه احتفال يلغي التراتبية القائمة في المجتمع ولهذا تستعمل أحيانا الأقنعة في الكرنفال الذي يجمع هو الآخر بين الجد والهزل ويسخر من أشياء لا يمكن أن نسخر منها، ويتطرق لمواضيع تشكل طابوهات في مجتمعاتنا مثل الجنس والدين والسياسة، لذلك فالحلقه هي الأخرى فضاء تطغى عليه روح الكرنفال، وتنتهي فيه التراتبية ويصبح فيه الجميع متساوون أمام الفرجة.
والحلقة عرض مكشوف ومباشر وتفاعلي بين الحلايقي/الحكوتي والجمهور قد يمتد زمنه وقد يقصر حسب إبداعه وتأثيره على الجمهور، ومن ميزاتها أنها تخاطب فئات مختلفة وليس فئة معينة فقط، كما أنها تساهم في تجديد لغة الجمهور الذي يصير مشاركا فيها، فاعلا ومتفاعلا مع الحلايقي بما في ذلك منح المال له في ختام الحكاية.
و حتى إذا نظرنا إلى شكل الجمهور الذي يحضر الحلقة فإن الملاحظ أنه جمهور ينظم نفسه بنفسه، بحيث نجد الأطفال في الصفوف الأولى فالأشخاص الأطول وراءهم ثم الأكثر طولا في الخلف.

و تختلف مواضيع الحكايات باختلاف الحكواتي واهتماماته، فهي قد تكون قريبة من انشغالات الناس أو قد تبرز تمثلات ثقافية واجتماعية محلية، أو قد تنقل السامع إلى قصص تاريخية تعود إلى أزمنة غابرة وتستحضر أشخاصا رحلوا أو تسترجع بشكل جماعي الذاكرة والأصول البدوية والحنين إلى ماض ولى.

وحسب الدكتور محمد فخر الدين، فإنه في إطار السذاجة التي قد يصف البعض بها فن الحكاية الشعبية، توجد الكثير من الرسائل المهمة التي يتم بعثها بطريقة تجمع بين الهزل والجد، مثلا الراوي ينتقد ظواهر اجتماعية من قبيل الجشع والطمع و يدعو في نفس الآن إلى القناعة والتكافل من خلال حكاية هزلية أو نكث أو غيرهما، كما أنه لا يعتمد شكلا واحدا أو أسلوبا معينا لتمرير رسائله بطريقة فيها الكثير من الجمالية.

والمميز في فن القول أو الحكاية الشعبية هو أن الراوي قادر على نقل جمهور حلقته إلى عوالم تعد ضربا من الخيال، ويجعله يعيش لحظات واقعية بائدة على طريقته الحكائية، لذلك ليس مستغربا أن يجد السامع نفسه في قلب أقدم الملاحم العربية مواكبا لبطولات ”سيف ابن ذي يزن بطل اليمن” أو شاهدا على غزوات ”عنترة ابن شداد العبسي” أو مسافرا في سراديب التراث العربي القديم فيعيد اكتشاف ”حكايات ألف ليلة وليلة “وأسرار”علي شار مع الزمرد الحسناء ” ومغامرات السندباد و الشاطر حسن وغيرها من العوالم التي يحمل الحكواتي الجمهور إليها بطريقته الساحرة في الحكي و السرد و التخيل.

الحلايقي .. شروط وموهبة :

”الحكواتي كالطائر رزقه في لسانه” مقولة شعبية يوافق عليها جميع الحكواتيين ويؤكدونها لكونه يعتمد على صوته ويشترط في الحكواتي/الراوي أن يتمتع بمواهب وطاقات فنية واستعراضية خارقة، يملك الكثير من فن القول والحركة، بارعا في الحكي والإيماء والتشخيص والسخرية والإبهار وشد الجمهور، متصفا بسرعة البديهة و قادرا على التشويق والإضحاك والإثارة بقدر يجعل الجمهور كريما في عطاياه، ويجب أن يكون أيضا ماهرا في الإلقاء والحفظ والسرد والتخيل، قادرا على تغليف الحكايات بطابع غرائبي وعجائبي مثير.

وحسب الحكواتي محمد باريز، فإن هناك شروطا محددة لتكون راويا وحكواتيا، من توفرت فيه تكون لديه القدرة على الوقوف في الحلقة ومواجهة الجمهور في أكبر الساحات والمسارح و يرمز إليها في الدارجة المغربية، حسب باريز، بأربعة حروف أول حرف هو الثاء، أي “ثابت” القلب والجأش، وثانيها حرف الميم وتعني “المركا” أي ممنوع الاستحياء، الحرف الثالث هو الجيم ويشير إلى “الجبهة” ويقصد بها الجرأة والقدرة على مواجهة الناس ثم الحرف الرابع والأخير حرف القاف ومعناه “قباحة القول” و يشدد باريز على أن المراد من كلمة “قباحة” ليس قبح أو سوء الكلام ولكن جرأته.
و للحلايقي/الحكواتي أن يستعمل إن أراد بعض الأدوات أو العدة خلال حلقته وروايته للحكاية، ويطلق عليها بالدارجة المغربية “الدوزان” وحسب باريز فإنه ليس مهما توفر الحلايقي على الدوزان، لكن في أحيان كثيرة نجد أنه عبارة عن صولجان وزربية صغيرة يوضع عليها كتاب مفتوح وكرسي ليستريح الراوي ويأخذ نفسه عندما يتعب من الوقوف الطويل، ثم الدف و ”الطعريجة” أو ”النويقصات” و جميعها آلات موسيقية يدوية يستعملها الحلايقي كفاصل بين فقرة و فقرة أخرى من حكاياته.
الحلايقي يعاني:
الحلايقي/ الحكواتي هو في أغلب الحالات شخص وهب حياته لفن لم يجن من ورائه الكثير من المال و إن وهبه الكثير من التصفيقات في المقابل، وهي أغلى عند الحلايقي/الحكواتي من أي شيء آخر حتى ولو كانت وضعيته الاجتماعية صعبة، فالحلايقي مصدر رزقه هو الجمهور الذي تحضر عطاياه و تغيب و حتى إن حضرت فإنها لا تكفي، يقول الحكواتي عبد الرحيم الأزلية: ‘لا حول ولا قوة إلا بالله على وضعيتنا’ مضيفا أنه كانت هناك وعود سابقة بتخصيص رواتب شهرية للحلايقية لكنها لم تتحقق.
الأزلية يلقي باللوم أيضا على التكنولوجيا والإنترنت والفضائيات والسرعة التي أصبحت تطبع العصر، وكلها عوامل ساهمت برأيه في تراجع الاهتمام بحلقات الحكاية الشعبية وبالحكواتيين وصرفت اهتمام الجمهور بهذا الفن، مضيفا ”لم يعد الناس يتحملون الجلوس لأربع ساعات يستمعون للراوي، الجمهور الآن يقف خمسة أو سبعة دقائق وينصرف” يواصل الأزلية حديثه: ”بل ما يؤلم أكثر هو أن الناس ينتقصون من قيمة الحلقه التي تعد أول أشكال المسرح، حتى في دارجتنا المغربية هناك من يقول ”احنا دبا ماشي دايرين الحلقه” وهو ما يقصد به قدحيا أن الحلقة فوضى، في حين أن هناك طلبة وباحثين أوروبيين يأتون إلى المغرب ليكتبوا بشغف عن هذا الفن و يلتقوا رواده الحلايقية/ الحكواتيين !

وبالإضافة إلى ماسبق، لا يتمتع الحلايقي بأي امتيازات اجتماعية تذكر أو نقابية و لا يوجد تأطير قانوني لهذه المهنة التي بفضلها اعترفت منظمة اليونسكو بساحة جامع لفنا تراثا شفهيا مشتركا للإنسانية بعد جهود كبيرة بذلها المفكر الإسباني الكبير خوان غويتيصلو، الذي أغرم بهذه الساحة وعمل جاهدا من أجل تكريمها وتكريم الحلايقية وفنهم في كتاباته أيضا ومن بينها روايته ”المقبرة”.

من جانبه يؤكد الحكواتي محمد باريز، أنه كان يعيش في السنين الماضية من عائد الحلقة ”أما في السنين الأخيرة فتأكد لي أنه لا يمكن أن يعيش الراوي من رواية الحكايات” خصوصا أنه هناك غيابا شبه كامل لأي اهتمام رسمي بفن الحكاية ووضعية الحكواتيين ويضيف: ”ثقافة الحكاية الشعبية في المغرب عشوائية، ورغم اعتراف منظمة اليونسكو بساحة جامع الفنا وبالحلقة فإن الرواة لم يستفيدوا شيئا بدليل أنهم لا يتوفرون على بطاقة فنان مثلا، ولا على بطاقة المساعدة الطبية راميد ولا على أي امتياز أو اعتراف”.. و يأسف باريز على سنوات السبعينيات و الثمانينيات و حتى التسعينيات باعتبارها شهدت أوج الحلقة والحكواتيين .. يقول: “وقتها كانت جامع لفنا جنة لكن الآن “قتلنا المسؤولون” وزاد الطين بلة عندما رخص المجلس الجماعي لمراكش لأشخاص آخرين يستغلون الساحة بطرق مختلفة فلم يتبقى لنا مكان نقف فيه”.

السؤال المؤلم.. هل من خلف؟

أمام عزوف الجيل الجديد عن التعاطي لهذا الفن يطرح سؤال يراه عدد من الحلايقية/الحكواتيين ملحا ومؤلما في آن، وهو هل من خلف يواصل حمل مشعل فن الحكاية ويحافظ على استمرارها واستمرار حلقاتها وإن توافرت شروط الاندثار والاحتضار؟ يجيب محمد باريز بكل أسف بالنفي، مضيفا ”الحكاية موهبة تتطلب قوة الحفظ، وجيل اليوم لا يحفظ حتى درس المدرسة فما أدراك بحفظ الحكايات، وحتى لو حفظوها هل لديهم القدرة على أن يقيموا الحلقة؟ والحلقة كما يشاع عيب لا يقترفه إلا زنديق كما كان يقول لي والداي الذين كانا يضربانني عندما كنت في صغري أرمي محفظتي المدرسية وأسرع إلى ساحة جامع لفنا”.. ويؤكد باريز أنه قرر منع ابنيه ”لقمان” و”عبد الغفور” من تعلم فن الحكاية الشعبية بصفة نهائية رغم أن أحد أبنائه أصبح يتقن ببراعة حرفة والده، ويبرر باريز هذا المنع بالقول: ”هل 35 أو 45 درهما التي يجنيها الحكواتي في اليوم ستؤمن مستقبلهما؟” قبل أن يضيف بصرامة ”لا أريد لهما ذلك”.

أما الحكواتي عبد الرحيم الأزلية، فأجاب على هذا السؤال بالقول: ”جيلنا كانت عنده النشوة والهواية، والناس مولوعة بالحكاية، أما شباب اليوم فلا” ويضيف الأزلية أنه هو الآخر حاول تعليم ابنه “زهير” إتقان فن القول وتشجيعه على المشاركة في حلقة الحكاية قبل أن يصيبه مرض مازال يتعالج منه.
ورغم التذمر الموجود لدى الحلايقية/ الحكواتيين واستيائهم من عدم الاهتمام بهم وبحلقات الحكاية الشعبية إلا أن منهم من يصر على تعليم هذا الفن لأجيال جديدة تحفظه وتعتني به ومن بينهم الراوي أحمد السرغيني، الذي يقدم دروسا في فن الحلقة بأحد ”الرياضات” بالمدينة القديمة لمراكش.
لماذا لا تهتم الأجيال الشابة بتعلم فن الحكاية الشعبية؟ يجيب الدكتور محمد فخر الدين، على هذا السؤال بالقول إن هذا العصر هو عصر ثقافة الصورة، والحكاية تعتمد على الأذن والسمع، ويلفت فخر الدين الانتباه إلى أن الشباب ينبغي أن تقدم إليهم الأمور بطريقة علمية تواكب تطورهم، في حين يتساءل الحكواتي عبد الرحيم الأزلية: “كيف نطلب من أجيال جديدة أن تمارس حرفة تتطلب جهدا ووقتا كبيرين ولا تدر سوى دريهمات يجود بها المتفرجون عندما يصلون إلى حالة الرضا التام عن الحكواتي و حكايته؟ !”.
رواد الحلقة:

للحلقة فرسانها الذين تميزوا عبر السنوات و تركوا بصمتهم لدى الجمهور، ومنهم من أسس لهذا الفن ومن طوره وأبدع فيه أكثر، وفي كتابه “جامع الفنا الصورة وظلالها” يصنف الشاعر الكبير عبد الرفيع الجواهري، رواد الحلقة إلى قسمين، الجيل القديم ويمثله ثلاث رواة وهم ”أحمد التمعيشة” راوي الحكايات الشعبية و”مولاي أحمد الفطين” المداح الذي اشتهر بحكي القصص مستعينا بالموسيقى ثم ”سي محمد الجابري” راوي القصص والغزوات.

أما الجيل الجديد فيرى الجواهري أن أبرز نجومه هما ”عبد الرحيم الأزلية” و ”محمد باريز” والذين ساعدهما تعلمهما على تطوير الحلقة وجعلها تنفتح على نصوص جديدة.

وبالنسبة للدكتور محمد فخر الدين، فإن هذا التصنيف فيه اعتبار للرواد الذين حافظوا على هذا التراث الشعبي، لكنه يضيف أن هناك أسماء أعطت الكثير لفن الحلقة لم يتم تخليدها أو الإشارة إليها، وهنا يتساءل الدكتور عن أسباب غياب دراسات حول كيفية الحفاظ على الحكاية مستقبلا وضمان خلف لهؤلاء الحكواتيين الذين يحملون تراث الحلقة ويعدون بمثابة كنوز بشرية حية !

و بالإضافة إلى الأسماء التي سبق ذكرها, يتذكر عبد الرحيم الأزلية مجموعة من رفاق الدرب منهم من جايله ومنهم من تعلم على يده ومنهم من رحل إلى دار البقاء ومنهم من مازال على قيد الحياة، ويقول إن كثيرين منهم أدركهم الهرم أو أتعبتهم الظروف مثل ”العياشي” الذي انقطع عن الحكاية نهائيا و”الصاروخ” و”البقشيش” و”أبو شامة” و ”مول الحمام” و”مول البشكليت” وغيرهم.
كيف نحمي الحلقة؟

رغم شهرتها التي بلغت الآفاق فإن الحلقة مازالت فنا لا يعترف به بنظر الحلايقية، بل إن هناك منهم من يعتبر أن هذا الفن يتم تجاهله مع سبق الإصرار والترصد كما يتم تجاهل رواته، والوضع هكذا فإن الحلقة في طريقها إلى الاندثار، وما فراغ عدة ساحات من الحلايقية وجماهيرهم إلا دليل على ذلك، وهنا يطرح سؤال آخر حول سبل تحصين هذا الفن وحماية مضامينه التي يتناقلها الرواة شفهيا أو حكائيا فقط دون أن تجد طريقها نحو التدوين أو تصبح مطبوعة ضمن كتب تضمن استمراريتها وتحفظها من العاديات، بالنسبة للحكواتي محمد باريز فإن كتابة الحكايات معناها نهاية الحكواتيين، يقول: “إذا كتبتها فهل سيأتي الجمهور إلى حلقتي بعدها؟ سيقرأ الكتب وكفى “.

رأي عبد الرحيم الأزلية مخالف لرأي باريز، بخصوص كتابة الحكايات الشعبية، فهو يرى أنه من الواجب كتابة الحكايات التي تناقلها الرواة والحكواتيون شفهيا على مر السنين، مشيرا إلى أنه في فترة سابقة و بإشراف من المفكر الإسباني خوان غويتيصلو، كان يتم توزيع الحكواتيين على المدارس التعليمية في مراكش ليعلموا الأطفال فن الحكاية وفي نهاية الموسم الدراسي يتم منح جوائز للمتفوقين منهم كما يتم تكريم الحكواتيين وهي عادة حميدة لم يكتب لها الاستمرار للأسف.
وبدل كتابة الحكاية الشعبية، انبرى الراوي محمد باريز إلى تسجيل حوالي 45 شريطا يتضمن عروضا من سرده للحكاية الشعبية، مدة كل شريط ساعة واحدة، وقال إنه يحتفظ بها عنده رغم أنه يتساءل دوما لمن سيتركها؟.. يضيف وقد ظهر طيف دمعتين وراء زجاج نظارته: ” ماعندي لمن نخلي ولمن نكتب وخير ليا ندي معايا داكشي، آش دارو مع الحكواتيين الأولين للي كيموتو قدامنا؟”

والحال هذه فإن على الجهات المعنية بالأمر وعلى رأسها وزارة الثقافة ووزارة السياحة أيضا أن تفكر في مستقبل هذا الفن الذي يعتبر جزءا من الهوية المغربية والذاكرة الشعبية للمغاربة، وفي هذا الإطار قامت وزارة الثقافة بدعم مجموعة من المهرجانات التي تنظم بمدن مختلفة من بينها فاس والراشيدية ومراكش والتي تستدعي رواة الحكاية الشعبية و تخلق لهم منبرا للقاء الجمهور ولو مؤقتا، كما تحرص الوزارة على توجيه الدعوة إلى الحكواتيين المغاربة بشكل دوري للمشاركة في ملتقيات ومهرجانات دولية.

ويعلق الدكتور محمد فخر الدين، على الجهود المبذولة من طرف الجهات المسؤولة عن الثقافة بالقول إنه في دول أخرى يلاحظ وجود معاهد للحفاظ على التراث وهو ما لا يتوفر في المغرب، فكما أن الجامعات برأي الدكتور فخر الدين لم تهتم كثيرا بهذه الموروثات التاريخية ولم تعتبرها جديرة بالدراسة العلمية الجادة، ويؤكد أنه آن الأوان لتشجيع الباحثين ودراسة الحفاظ على التراث كما نجد في عدة بلدان حول العالم، وأعطى مثلا بكندا التي توجد فيها وزارة للتراث تُعرًف التراث على أنه يُمكًن الكنديين على اختلافهم من العيش بشكل مشترك وإنتاج ثقافة مشتركة، كما أن هناك يوما للتراث الأوروب، ويتابع فخر الدين مؤكدا ما قاله الحكواتي عبد الرحيم الأزلية، حول وجود نظرة دونية للتراث الشعبي لدى عدد من المغاربة، ما يتسبب برأيه في فقد الكثير من الموروثات خاصة على مستوى القيم، لأن النصوص الشعبية والحكايات بما فيها حكايات الجدات تحمل قيما مهمة يجب توظيفها وتثمينها يؤكد الدكتور فخر الدين.

باريز والأزلية أيقونتا الحلقه:

يعتبر محمد باريز وعبد الرحيم الأزلية أيقونتا حلقة الحكاية الشعبية في المغرب بدون منازع، محمد باريز استطاع بموهبته الخاصة وذكائه الكبير أن ينتقل بهذا الفن من الاكتفاء بسرد المغامرات الغريبة و العجيبة والأرشيف الشفهي المتناقل، إلى الانفتاح على الأدب العالمي، فأعاد إنتاج نصوص خورخي لويس بورخيص وإدمون عمران المالح وخوان غويتيصلو.. أعاد إنتاجها حكايات ذات طابع شعبي أبهر بها الجماهير الغفيرة التي تتحلق حوله في كل مرة يمتطي فيها هذا الفارس صهوة الحكاية .

و أقام باريز، حلقته أيضا في كبريات المعارض والمهرجانات ومن بينها مهرجان مراكش الدولي للفيلم، كما استدعي لإقامة الحلقة بجامعة “سيام 3” الباريسية خلال احتفالها بذكرى ابن رشد في العام 1998 وهي خطوة مميزة في مشواره المهني كما يقول.

و قد بدأ باريز، تعلم فن القول وهو في الثامنة من عمره في العام 1968 وفي العاشرة من عمره أصبح راويا محترفا يقارع كبار الرواة والحكواتيين الذين لهم باع طويل في المجال كما يقول، يشارف باريز على إنهاء الستين من العمر, حوالي خمسة عقود وهبها للحكاية.. بعد كل هذا العمر يقول: “لم تعطني هي سوى تهمة لم أكن أتصورها قط، بعد دعوى قضائية اتهمت فيها بالاختلاس منذ 2010 وقد تم البت فيها مؤخرا من طرف المحكمة التي حكمت ببراءتي”.
أما عبد الرحيم الأزلية، والذي لقبه الجمهور بالأزلية لأنها عنوان أول حكاية اشتهر بحكايتها، فقد بدأ يرتاد ساحة جامع الفنا في العام 1968 وكان وقتها يحكي ”العنترية” بمجلداتها السبع على مدار سنة كاملة على شكل مسلسل متتابع الحلقات، وفي العام 1972 بدأ يروي الحكايات الشعبية على اختلافها بشكل حرفي وهو العمل الذي مكنه من تكوين أسرة وتربية أبنائه كما يقول.
ووثق عبد الرحيم الأزلية للحكاية ومساره معها من خلال شريط وثائقي أنتجته قناة ألمانية، دام الإشتغال عليه أربع سنوات وحمل عنوان ”الحلقة في دائرة الحكواتيين”.

فضاءات الحلقة.. تضيق!

ارتبطت الحلقة بمفهوم الساحة العمومية التي ارتبط ظهورها بالمدينة اليونانية فكان إحداث ساحات عمومية مفتوحة للجميع أمرا لابد منه لتكون مكانا للنقاش العام وتحتضن احتفالات الآلهة “بوخوس” والاحتفالات بالانتصار وهو ما أدى إلى ظهور الحلقة لاحقا، وفي المغرب ارتبط ظهور الحلقة بالمدن الرومانية مثل شالة ووليلي وليكسوس، كما ارتبط ظهورها أيضا بالأسواق السنوية مثل سوق ”إملشيل” والأسواق الأسبوعية أو أسواق المواسم الدينية.

و إن اعتبر البعض أن حلقات الحكاية الشعبية أضحت فنا تتجاوزه أذواق الأجيال الجديدة، فإن هناك من يرى أن الفضاءات التي شكلت على امتداد الزمن ركحا للحلايقية لاستعراض مواهبهم الحكائية هي الأخرى ضاقت بالحلقة، وعلى قائمة هذه الفضاءات ساحة جامع الفنا الشهيرة بمراكش التي فتنت المفكر الإسباني خوان غويتيصلو وقال عنها :”كل قرارات الإدارة في العالم عاجزة عن خلق ساحة مثل ساحة جامع الفنا لأنها ساحة ولدها التاريخ وليس قرار إداري”.

إلا أن هذه الساحة الشهيرة التي غزاها بائعو الأكل والعصائر والبخور لم تعد تتسع للحكواتيين وحلقاتهم كما في السابق، ويقول محمد باريز إنه يأتي إلى الساحة يتجول فيها منذ الصباح وحتى المساء وهو يتأسف عليها لأنها تغيرت ولم تعد فيها أي فرجة، يضيف باريز”الساحة كانت شبيهة ببستان يجد فيه الوافد عليها الياسمين والقيقلان والورد والزهر أما الآن فقد أصبحت مثل جنان مليء بالشوك والطلح” مشيرا إلى أن الضجيج أصبح يغلب على الساحة التي ” تحولت إلى بحر من الغوات/الصراخ” على حد تعبيره.

و يؤكد الدكتور محمد فخر الدين أن تقلص الساحات العمومية هو ما ساهم في أفول هذا الفن الذي زاحمته أشكال فرجوية أخرى، حيث غلبت مثلا ثقافة الأكل على ثقافة الحكاية في ساحة جامع الفنا، وهي نقطة يتقاسمها معه الحكواتي عبد الرحيم الأزلية، الذي قال إنه يتذكر دائما قولا لصديقه الفنان الكبير ”محمد حسن الجندي” مفاده: ”جامع الفنا كانت تغذي العقل وأصبحت تغذي البطن”.

و بالإضافة إلى الساحتين التوأم، ساحة جامع الفنا بمراكش وساحة لهديم بمكناس، فإن هناك ساحات أخرى احتضنت فيما خلا من الزمن حلقات الحكاية الشعبية، لكنها أصبحت جزءا من الماضي بالنسبة لها اليوم, و من بينها ساحة سيدي عبد الوهاب بوجدة وساحتا باب فتوح و باب عسيجة بفاس وساحة الحرية ببني ملال وغيرها.

قد يصلح كثيرا أن نصف ما تعيشه حلقة الحكاية الشعبية حاليا بالنكبة أيضا، ففيها كثير من الشجن الذي يشبه ذاك الذي يتحدث عنه محمد باريز في حكاية “نكبة ابن رشد” وإن اختلف مظهر ومكان وزمان النكبتين.. باريز الذي يواصل حكيه ويصل بجمهوره إلى نهاية الحكاية قائلا:” بعد موته جاء بنو عمه من قرطبة ومعهم محيي الدين ابن عربي الذي تتلمذ على يده، وضعوا رفات الإمام في صندوق ووضعوا كتبه في صندوق آخر على ظهر دابة يقصدون الحضرة الأندلسية، فلما وجدوا أن حمل الصندوقين متساويين قال ابن عربي: هذا الإمام و هذي أعماله يا ليت شعري هل أتت آماله؟”

انتهت الحكاية !

صفق الجمهور، جمع باريز الدراهم.. و انفضت الحلقه.

 

بشراكة  مع موقع راديو أصوات

 

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،