الزعيم الأرعن

الزعيم الأرعن

- ‎فيرأي
191
6

محمد بوبكري

عرف تاريخ الأحزاب لحظات فاصلة يرتج فيها كيانها نتيجة تراكم سطو زعاماتها عليها لحد أنها لم تعد تمثلها إطلاقا. فهي زعامات تنتهج سياسات إقصائية وتخريبية تضعها في صف خصوم أحزابها، إذ يكفي أنها تحقق لهؤلاء أهدافهم الإستراتيجية الرامية إلى زرع الشعور بالهزيمة في نفوس أعضاء الحزب عبر ردعهم وكسرهم وتفتيتهم…
تقوم هذه الزعامات الحزبية بإخضاع أعضاء الحزب لحكم الزعيم الفردي الذي يتشبث بالزعامة حتى الموت، ولا يقبل أن يشاركه فيها أحد، إذ يؤمن بعقيدة إقصاء من يختلف معه أو لا يواليه، بل إنه يعتبره عدوا يحق له إبعاده وتصفيته سياسيا وتنظيميا.
يُماهي الزعيم نفسه مع الحزب، فيتوهم أنَّ من حقه تحويله إلى ملكية فردية، فيغيِّبُ معايير الاختيار الحر، ويقصي أعضاء الحزب وأجهزته، ويجعل الحزب غنيمة لفتوحاته وفريسة لنزواته. ويعود ذلك إلى انغلاق فكره الذي يرى أن من لا يطيعه ينبغي إقصاؤه وعدم الاعتراف بحقه في الوجود داخل الحزب.
يراقب الزعيم في بلادنا جسدك وفكرك وروحك، كما أنه يعمل على سلب عقلك. وإذا كانت العلاقة بين قائد الحزب ومناضليه في البلدان الديمقراطية علاقة ديناميكية تتطور في اتجاه ترسيخ قيم الحرية وحقوق الإنسان بشكل مستمر، فإن الزعيم عندنا يعمل على تكبيل عقل الفرد ووجدانه. فهو يملي الأجوبة ويصدر التعليمات والأوامر، ويرفض أن تُطرح عليه الأسئلة، وذلك ما يجعله يعتقد أنه يجسد المطلق أمام أعضاء حزبه، رغم أنه ليس سوى دمية في يد أسياده…
لذلك فهو يسعى إلى جلب الشعور بالهزيمة النفسية لأعضاء حزبه، بسبب مصادرته حق الإنسان الطبيعي في حرية الرأي، والتعبير، والاختيار، والتقرير وتداول السلطة…
وتحدث الهزيمة النفسية لأعضاء الحزب نتيجة للتعارض بين خصائص الإنسان باعتباره كائنا عاقلاً، له خصوصياته وفرادته التي تشكل مصدر تنمية المجتمع وتقدمه، وبين زعامات غابت عنها هذه الحقيقة أو غيَّبتها عمدا، فقامت باستبدالها بتصورات ناجمة عن انعزالها عن مجتمعها الحزبي خصوصا، ومجتمعها المحلي والعالمي عموما. وهذا ما جعلها تغلق على نفسها في أوهام لا علاقة لها بالواقع وتحولاته، وتحاول أن تفرض تصوراتها قسرا على الحزب بأكمله، مع أنها تبقى مجرد كائن غريب وشاذ، يرفضه الجسم الإنساني والسياسي والحزبي رفضا تاما.
لا ينهض فكر هذه الزعامات على حركة المجتمع التي تمثل روحه وضميره، وتنبع منها أحلامه وتطلعاته ومطالبه في فترة معينة، ما ينتج عنه عجز تلك الزعامات عن مواجهة كل التحديات التي تواجه أحزابها ومجتمعها ووطنها في كافة المجالات.
يرتبط وجود هذه الزعامات بهدم بنية الحزب والمجتمع والوطن. فهي تستهل مشروعها بمحاربة قيم الاستنارة، وهو ما نراها تمارسه اليوم، حيث إن الذين وضعوها على رأس الحزب من خارجه قد اختاروها بخلفية معارضة الثقافة والفكر وتطلعات المجتمع وطموحاته…
وإذا كان الحكم إشراكا للمجتمع في تطوير المشاريع وتدبيرها وتنفيذها وتقويمها، فهذا الصنف من الزعامات الحزبية لا يمتلك فكرا ولا مشروعا، ولا يفكر إلا في شهواته ونزواته ومصالحه، كما يعمل على شلِّ حركة أعضاء حزبه والمجتمع في آن واحد، حيث يجمد طاقاتهم الفعالة ويهمشها، ما يجعله مستبدا يسطو على الحزب، ويهمش إرادة أعضائه… وبذلك ترمي كل تصرفات هذا النوع من الأشخاص فقط إلى تلبية رغباتهم الذاتية وليس إلى العمل من أجل الوطن والمواطن، الأمر الذي جعل المواطنين يكتشفون أنهم لا يمتلكون أي مبادئ ولا قيم…
غالبا ما يتم الوصول إلى قمة الهرم الحزبي في بلدان العالم الثالث بأسلوب غير مشروع، ولذلك يكون الزعيم قلقا وخائفا، حيث يعتقد أن ما فعله بغيره قد يفعله به غيره. وهذا ما يدفعه إلى اتخاذ إجراءات وقائية تروم إقصاء كل من تشتم فيهم رائحة الاستقلال عنه، ورفض ما يمارسه من ظلم، وعدم الامتثال لرغباته الجامحة. ومن ثم، فهو يقوم بقمع الفكر وإبعاد المثقفين والأطر المنتجة للأفكار والمشاريع والقادرة على التأطير… نتيجة ذلك، يتراكم رفض “الزعيم الديكتاتور” في نفوس أعضاء الحزب والمجتمع في السر أو العلن. ويتغذى هذا الرفض من التآمر والتزوير اللذين يمارسهما الزعيم باستمرار، وذلك ما يؤدي بدوره إلى أن ما يستولي على اهتمام هذا الأخير هو ضمان حماية سلطته واستمرار نفوذه. فما يمارسه من إقصاء ضدا على غيره يجعله بدوره يعاني من الخوف على مصيره…
نتيجة ذلك، يمارس الزعيم الخائف أقسى أنواع الإقصاء والتهميش ليحول دون تسرب الخوف الكامن فيه إلى علم محيطه. فهو يريد استمرار حكمه، ولأجل ذلك يعمل على إرساء دعائم التخويف والترهيب بطريقة تذكر بتعاليم “ماكيافلي” للطاغية كي يحافظ على حكمه وسلطته، إذ يقوم الزعيم الحزبي عندنا بتدمير روح أعضاء حزبه وزرع الشك في صفوفهم وانعدام الثقة في ما بينهم، وجعلهم عاجزين عن عمل أي شيء، لتعويدهم على الخسة والضعة على نحو يُسهِّل عليهم قبول الذل والهوان والاعتياد عليهما… كما يعمل على القضاء على البارزين من مناضلي الحزب ومناضلاته. أضف إلى ذلك أنه يحظر الاجتماعات الحزبية التي لا يترأسها، أو تنعقد بدون تصريح منه. ونظرا لعدم امتلاكه لأي مشروع وكراهيته للفنون والثقافة والمثقفين، فهو يكره تأطير أعضاء الحزب، إذ يريد أن يكونوا على صورته حتى لا تظهر منهم أي حركة من شأنها التشكيك في مؤهلاته أو تهديد زعامته. فوق ذلك، فهو يعمل على إغراء أعضاء الحزب وشرائهم بمكافأة من يشي منهم بغيره…
لذلك كان من الطبيعي أن ينتفض المناضلون والمجتمع ضد هذا النوع من الزعامات التي يرون أنها لا تملك شرعية تمثيلهم، وترتب لعلاقات ضد مصالح الحزب والوطن. وهذا ما نراه اليوم في مجتمعنا المغربي، حيث لم يعد الزعيم مرفوضا بإجماع أعضاء حزبه فحسب، بل وكذلك من قِبَل المجتمع بكامله.

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،