في مدارسنا، مديرون من العهد البائد !

في مدارسنا، مديرون من العهد البائد !

- ‎فيرأي
296
6

اسماعيل الحلوتي

اسماعيل الحلوتي

ثلاث سنوات مضت على وضع دستور جديد، وتشكيل حكومة ما بعد ربيع الديمقراطية العربي، عرفت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني ثلاثة وزراء أحدهم منتدب، وهم السادة: محمد الوفا (النسخة الأولى للحكومة)، ثم رشيد بلمختار وعبد العظيم الكروج (النسخة الثانية). كنا نأمل أن يتم خلالها انبلاج فجر عهد جديد، يستكمل فيه بناء دولة الحق والقانون التي طالما حلمنا بإرساء دعائمها، تكريس الخيار الديمقراطي وتخليق الحياة العامة، تنزيل الحكامة الجيدة والتعجيل بإصلاح التعليم، للسير ببلادنا نحو إدراك الدول الصاعدة. بيد أن دار لقمان بقيت على حالها، ومازال بيننا أشخاص لم يستطيعوا التخلص من رواسب العهد البائد، بعدما استطابوا العيش في مستنقعات الفساد، عبر ممارسات دنيئة…
فالمتتبع للمشهد التعليمي بالمغرب، لا بد أن يندهش لتلك المظاهر السلبية، التي تعكس بجلاء انحطاط مستوى بعض المسؤولين، ممن أوكلت إليهم مهام الإشراف على تدبير وتسيير شؤون مؤسساتنا. إذ هناك من يشهد على فظاعاتهم نهب ميزانياتها وتبديد تجهيزاتها، وشيوع الفوضى والتسيب بداخلها. وهناك من حولوها إلى أسواق رائجة، تزدهر مع مطلع كل موسم دراسي جديد، ولكل خدمة ثمنها. فيما آخرون لا يتورعون عن فرض إرادتهم بالقوة، ممارسة الشطط في استعمال السلطة، وإهانة التلاميذ. فمتى كان حسن التدبير وبسط النظام مرادفين للابتزاز والتسلط ؟
وهنا تحضرني حالات ثلاثة “مديرين” يوحدهم سوء الإدارة والاستهتار بالمسؤولية، التي ائتمنوا عليها بغاية تطوير العمل التربوي والإداري: 1– فضلا عن غطرسته، يفرض إتاوة على رئيس جمعية الآباء قيمتها 20 ألف درهم من مداخيل الجمعية، توضع رهن إشارته مع بداية كل سنة دراسية جديدة، تحت “ضلع” مصاريف مستعجلة! 2- صاحب عقلية مخزنية صرفة، سريع الغضب والانفعال. انعدمت لديه لغة الحوار وحلت بدلها لغة الاستفسارات الكتابية بالنسبة للموظفين، وتوزيع اللعنات والركلات على المتعلمين من الجنسين. 3- ذو خيال واسع في الدهاء والغدر. قبل حتى إقراره في المنصب، استغل تكليفه المؤقت بإدارة مؤسسته الأصلية، وعلاقته بمديرها الرسمي الموجود في رخصة مرض آنذاك، واستطاع ب”تخطيطه” الاستيلاء على قدر من المال، لولا أن الصدفة وحدها كشفته، فاضطر إلى إعادة المبلغ بتكتم شديد. إذ بصفاقة امتدت يده إلى دفتر الشيكات الخاص بالجمعية الرياضية، سحب شيكا، وببيت “صاحبه” أوهمه بأن إحدى فرق المدرسة يلزمها للمشاركة في تظاهرة رياضية، مصاريف النقل والتغذية ما بين 1000 و1500 درهما، وكالمسحور لم يتردد في التوقيع له على بياض. وبمجرد مغادرته البيت عبأ الشيك بمبلغ 40 ألف درهم، وربط الاتصال بأمين مال الجمعية للمصادقة عليه، بدعوى إصلاح الملاعب الرياضية، وفق اتفاق صوري سابق مع أحد “المقاولين”. والأدهى والأمر، أنه مباشرة بعد الحادث، تم قبول طلب انتقاله لشغل منصب مدير مؤسسة بنفس النيابة، إثر مشاركته في الحركة الإدارية، علما أن بعض مصالحها على بينة من ملابسات الواقعة.
من خلال النماذج المدرجة وغيرها كثير في سائر الميادين، يتبين أن وعود رئيس الحكومة السيد بنكيران حول مكافحة الفساد، مجرد أكذوبة كبرى لم تعمر طويلا. إذ مازلنا نراوح مكاننا في وقت عرف العالم تحولات وثورات عارمة، وخاصة منها العلمية والمعرفية والتكنولوجية، وما رافقها من تفجر سكاني وحراك اجتماعي، ولم نستطع مواكبة المستجدات وما تقتضيه روح العصر من تحديث الوسائل، قصد مجاراة ركب التطورات المتلاحقة وتأهيل الفضاءات التربوية، والسمو بأداء العنصر البشري وتحسين مردوديته، ليستمر انتقاء مديري المؤسسات التعليمية خاضعا لشروط بالية ومعايير متجاوزة، ما يفسر غياب الإرادة الصادقة لدى الوزارة الوصية في اعتماد المتنورين وذوي الكفاءات المهنية، القادرين على إحداث التغيير المنشود، علما أن كسب رهان التنمية لن يتحقق إلا عبر مدرسة حديثة.
إن أمثال هؤلاء “المديرين” كثيرا ما يلتبس عليهم الأمر، وتخدعهم أبصارهم وبصائرهم، فيعتقدون أنهم قواد مقاطعات إدارية أو أرباب ضيعات فلاحية، ومن تم يسيئون ليس فقط إلى أنفسهم والمنصب المسند إليهم، بل إلى نبل الرسالة الملقاة على عاتقهم وصورة القطاع التعليمي برمته، لأنهم يجهلون مقاصد ومرامي الإدارة التربوية، ويغيب عن أذهانهم أنها أحد أحدث العلوم الإنسانية القائمة، التي تساهم في إدارة شؤون المدرسة واستثمار إمكاناتها المادية والبشرية بشكل فعال، ووسيلة مثلى لتحقيق أهداف المنظومة التربوية، عبر تنمية شخصية المتعلم جسديا وعقليا ووجدانيا وروحيا، باعتباره محور العملية التعليمية- التعلمية…
فالمدخل الأساسي للنهوض بمستوى إدارتنا التربوية، هو تحديث ودمقرطة أساليبها وانفتاحها على الآخر. لذلك يجدر بالمسؤولين في إطار الاستعدادات الجارية لإصلاح المنظومة التربوية، إيلاء اختيار شخصية المدير أهمية بالغة، بناء على مقاييس حديثة تعتمد مجموعة من المؤهلات المهنية والتواصلية، بشكل يتوافق مع متطلبات العصر، ويكشف عن مدى قدرة واستعداد المترشح لتحمل المسؤولية، وضع إطار خاص بالمنصب، إخضاع المقبولين إلى تكوين متطور لمدة معقولة، تقوية آليات التتبع والرقابة، تحديد نظام متكامل للحوافز وربط المسؤولية بالمحاسبة. من هنا، يتحتم ترسيخ ثقافة مدرسية جديدة، ترقى إلى مستوى ابتكار أساليب تعليمية متقدمة، تساعد على تعزيز المواظبة والتفاني في خدمة المتعلمين، تهييء شروط الانضباط والتحصيل، وتكريس روح المواطنة والقيم الكونية والمبادئ الفاضلة، بعيدا عن الأساليب المتعارضة مع إقامة مشروع مجتمعي حداثي وديمقراطي. فالإدارة فن راق ومسؤولية جسيمة، لا يمكنها إنتاج الجودة المطلوبة دون قيادة تشاركية وتوفر مشروع محكم للمؤسسة، ولا تستطيع الاضطلاع بأدوارها بغير تضافر جهود جميع الفاعلين التربويين…
مدرستنا اليوم، فضلا عما تكابده من اختلالات هيكلية وبنيوية، وما تصبو إليه من تغيير، لم تعد مكاتبها تتسع إلى المعطوبة ضمائرهم، الذين يتخذون أسلوب البيروقراطية منهجا للتعامل، ويعتمدون التسلط والاستفزاز للتغطية عن ضعفهم الفكري وبلاهتهم المهنية، ولا إلى من يبحثون عن مآرب ذاتية، وإنما هي في حاجة إلى قيادات حكيمة ومرنة، شابة ومتجددة، تحسن التدبير والتفكير بحكمة وتبصر، وتجيد البرمجة والتخطيط الإيجابيين، من الذين يرتكزون على التوافق والفعالية، ومنهجية الإشراك والتشارك في بناء القرارات وحل المشكلات، ودعم الأنشطة التربوية والثقافية، الملمين بمهامهم والمؤمنين بالتطورات التكنولوجية والعلمية، المعتزين بانتمائهم للوطن، الشغوفين بمهنتهم والمحافظين على شرفها، المتصفين بالاستقامة والنزاهة، الثقة بالنفس وقوة الإقناع، صون الأمانة، احترام العلاقات الإنسانية وأساسيات التواصل المثمر، المتسمين بالطموح، الإنصاف وحسن تدبير الاختلاف…
نافلة القول، لست أبدا متحاملا على فئة المديرين، مادام هناك أناس كثر من المخلصين والشرفاء، الذين يستحقون كل التنويه بما يبذلونه من جهود محمودة ونكران الذات، يضحون بأوقات فراغهم وعطل أبنائهم، وينفقون من مالهم الخاص خدمة للصالح العام ورفعة الوطن، ولكني أردت فقط لفت الانتباه إلى أن بيننا عينة مندسة، تسللت إلى إدارات مدارسنا وعاثت فيها فسادا…
اسماعيل الحلوتي

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،