(من سيرة الصبا: اليتامى لا سقف لهم)

(من سيرة الصبا: اليتامى لا سقف لهم)

- ‎فيفن و ثقافة
177
6

سعيد منتسب

 

لم يكن موت والدي خيانة مرتبة بعناية.. سعل ورحل. زحف المعزون، ثم سرعان ما تراجعوا وتركوا أمي مغطاة بريش أبيض. وفي ركن قصي، كنت أهتز للعويل وأتضرج بالألم وألوذ بذعري. مرأى أمي وهي تتحول إلى بحيرة مالحة، وأخواتي وهن يذبلن ويتراكمن على بعضهن.. يصفعني بلا رحمة..

من هنا أشرق الجرح، صنع لنفسه أفواها واستمر في شق ثوبي. تنامى حتى تحول إلى لوح ثلج. كل المعاطف برد. كل الساعات برد. كل الشموس برد. كل القلوب برد. كل الأحلام برد.
لقد أوعزت إحدى القريبات لأمي بإدخالي إلى “خيرية عين الشق”. اليتامى لا سقف لهم، وأنا ما زلت صغيرا وطريا وأحتاج إلى لجام.. وأذعنت أمي لإلحاح القريبة، وبدأ الحرج يتسع بيني وبينها، الدموع تهاجمني وأدافع عن أقدامي بركل الكرة وتحريك ضمائر شقيقاتي الأكبر، وإحراجهن بكل السبل..
كانت والدتي، حينذاك، تنزل وتصعد.. تصعد وتنزل وتطرق الأبواب لإرغام مسؤولي “الخيرية”، ولو بـ”التزاويك”، على قبولي.. فهي أرملة وفقيرة وتعول ثمانية أفواه. ولما رق عطفهم، كانت أمي فرحة ومتدفقة كملكة ظفرت بعرش جديد. كانت أرخبيلا من الأحاسيس الجميلة، وكنت كأن عقلي ليس لي.. أحترق وأترمد، والابتسامة تفر مذعورة من وجهي.. “هل سأغادر أشقائي وأصدقائي وحومتي ومدرستي ورسومي وكتبي المصورة…؟”. لم تتراجع أمام توسلاتي وسرت إلى جوارها لا ألوي على شيء.. لا شيء أمامي سوى أن أفر لأعلم العصافير كيف تحط على يدي.. ولتذهب القريبة والخيرية والأرض والسماء إلى الجحيم!
مرت السماء فوق رأسي، كأنها جدار، وكأنني هزيمة أو زلزال. اقتحمنا معا بوابة المبنى: أطفال بلباس متماثل يركلون الكرة ويتصايحون في الساحة. آخرون منضدون في صف طويل كأم الأربع وأربعين. التصقت بأمي أكثر، كانت تطمئنني وتفتح أبواب الجنة في وجهي. توميء إلى الأطفال وتضحك. استقبلنا المدير الأكرش بما يليق بالفقراء من استخفاف ولامبالاة، كان السيد ونحن العبيد. نظرته كانت تعلقني كخرقة على غصن، كان يسددها بإحكام، وكنت أنكمش وأنكمش وأنكمش حتى صرت كحبة حمص ناشفة.
– اسمك؟
– سعيد..
– سنك؟
– تسع سنوات.
– مستواك الدراسي؟
– الابتدائي الأول.
– اذهب إلى هناك وانتظر!
الخيرية ليست جوازا إلى الحب لأنتظر.. تمنيت في تلك اللحظة أن أتجرد من كل الجنسيات.. من أمي وأبي والمدير والفقر والموت. كان المدير يحدث والدتي ويقلب أوراقا ويلقي في وجهها مدنا من الوصايا والإرشادات، وأنا من مكاني أتنقل من عنوان إلى عنوان لأستوعب ما يقع، كنت مغدورا ومطرودا ومقتولا.
– دابا هو ولد المخزن!
– انتوما ذبحوا وأنا نسلخ!
– ياك آ لواليدا!
هل أتباهى وأترك المخزن يطير بعمري واسمي وأصلي؟.. امتلأت بالغيظ، فأنا ابن أبي الذي رحل، وهؤلاء الذين تركتهم بالمنزل أشقائي وشقيقاتي.. وعمي عامل في فرنسا، والآخر إمام مسجد، وأبناؤهم أخوالي وخالاتي.. كل هؤلاء سأغادرهم بلا عودة!
قبلتني أمي وأغرقتني في الدموع، وأنا أرتجف وأتبدد، وهي كالحجلة المذبوحة تكاد تتضرج في عويل غير منقطع• آنذاك انتابني الصراخ والقصص والحكايات وقبضة “أمبراكس” و”زامبلا” و”لاون وولف” و”بليك لو روك” وتحول المبنى إلى فيافي جرداء. لم أعد أرى مديرا أو أطفالا أو سقفا أو فقرا، لا أرى سوى وردة حمراء قانية قد التصقت بعيني. كنت مستعدا للعراك مع الشياطين والملائكة والأولياء لأنتزع تذكرة إياب إلى أرضي.
نهرني المدير وأمر والدتي بالمغادرة، نكست رأسها وامتثلت صاغرة.. وأنا أكاد أجن، والقلب كله مسامير وشظايا زجاج. ولما غابت والدتي استعدت هدوئي شيئا فشيئا وتظاهرت بالاستسلام والابتسام والمسكنة.. وما إن لمحت الثغرة (وقد أتت بأسرع مما كنت أتوقع!) حتى عدوت بكل قوتي تجاه البوابة، باغتت نفسي والمدير والموظفين والحارس. لم أتصور أن الأمر سهل، وأنني في أرض أخرى غير أرض الخيرية. لم أتوقف، ظللت أعدو وأعدو. لم يكن التعب حقيبة.. إلى أن لمحت إحدى الحافلات تستعد للإقلاع فقفزت داخلها بخفة قرد وفزت. لم يكن يهمني رقم الحافلة. المهم أن تأخدني بعيدا بعيدا لأنجو..
كنت أتصبب فرحا بإنجازي الدافئ، وسعدت أكثر لما رأيت الحافلة تتوقف قريبا من ملعب حينا “لاجونيس”.. هنا منزلي وأصدقائي ومدرستي وأحلامي. نزلت من الحافلة وقصدت المنزل، كنت ضمآنا وجائعا.. لم أعثر على أمي. لم تكن قد وصلت بعد، وعلى وجه شقيقاتي كانت قد انتشرت مناحة..
– على سلامتك أخويا.. ما قبلوكش؟
-لا. هربت..
– فين امي؟
– جيت بوحدي..
ثم دخلت أمي، ولما رأتني، وعرفت الذي كان مني، امتلأت بالضحك والصلاة والدموع وأنامتني في حضنها..
منذ ذلك الحين، استمر الجرح ولم تتسلل الفراشات إلى قلبي.
منذ ذلك الحين، ظلت كل أغراسي البيتية زهر صبار.. وظل ذلك الطفل يقفز في أوردتي ولا يغادرني إلا حين تلمع الأوقات وتزدهر الأغاني.. وما أندرها!

من صفحة الفيس بوك للكاتب

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،