قوة القانون وقانون القوة

قوة القانون وقانون القوة

- ‎فيرأي
186
6

محمد بوبكري
هناك إجماع اليوم على أن دولة القانون والمؤسسات هي أهم معيار للاندماج سياسيا في روح العصر، إذ ينبغي تحويلها إلى مؤسسة غير مُشَخصَنَة وإكسابها طابعا قانونيا مجرداً… لذلك فالفرق الجوهري بين الدولة القديمة والدولة الحديثة هو أن هذه الأخيرة هي دولة قانون، بينما يشكل الحكام بصفتهم الشخصية المرجع الوحيد للدولة القديمة، وبالتالي فعندما لا تنهض الدولة في أعلى مستوياتها على مبدإ المؤسسة، فإنها تكون عاجزة عن تطبيق المبدإ نفسه على مستوياتها الدنيا. وهذا ما يفضي إلى استشراء الفساد بشتى أنواعه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا…
تقوم الدولة الحديثة على مبدإ المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، بما في ذلك علاقتهم بالحكام، لأنها تقتضي خضوع الجميع للقانون. لكن بمعاينة ما يجري في منطقتنا، نجد أن غياب المأسسة الفعلية قد أدى إلى غياب العلاقات الموضوعية بين المواطنين فيما بينهم من جهة، وبين المواطنين والحكام من جهة أخرى، إذ تقوم هذه الصِّلات على الطائفية والقَبَلِية… وما إلى ذلك، كما تتعارض كليا مع مبدأ المساواة أمام القانون.
لقد كرّس المفكرون الغربيون منذ العصر الحديث دراسات عديدة لفهم طبيعة الدولة قديما وحديثا، فاتفقوا على ضرورتها لتطور البشرية وتقدمها. وثار الجدل وتشعَّب النقاش فطُرِحَت أسئلة عديدة حول علاقة الدولة بالطبقة المسيطرة اقتصاديا ووسائل سيطرة الدولة، وامتدَّ إلى هيمنتها الأيديولوجية ووسائلها، ثمَّ إلى إمكانية تحول الدولة إلى جهاز لكل طبقات المجتمع وفئاته، كما تمَّ التفكير في إمكانية التمييز بين السلطة السياسية للدولة وبين مؤسساتها…
يرى أغلب الدارسين أن الدولة- المؤسسة تنعدم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما يقتضي التمييز بين السلطة من جانب، والدولة من جانب آخر، حيث هناك جماعات تمارس السلطة بواسطة أدواتها وأجهزتها الرَّدعية والأيديولوجية التي تمكنها من ذلك. ومعنى ذلك أن الدولة في هذه المنطقة لم تأخذ من الدولة الحديثة سوى مظاهرها الشكلية، واستعملتها بشكل غير سليم، ما أدى إلى تقوية ذوي السلطة على الأفراد والمجتمع وتحكمهم فيهما، بينما تقتضي الدولة الحديثة وجود ضوابط للحيلولة دون الشطط في استعمال السلطة، وذلك بتخليص الفرد من قيود الروابط العائلية أو القبلية أو الإقليمية أو الطائفية. ولذلك فإذا كانت الدولة في الغرب وسيلة لتحرير المواطن، فهي في منطقتنا أداة للسيطرة عليه وتهميشه… وقد نجم عن ذلك غياب “المجتمع المدني” وسيادة التقاليد السلطوية المتجذِّرة في العصر الجاهلي، حسب بعض الباحثين.
يختلف الفكر السياسي الغربي عن الفكر السياسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في كون الأول يضبط السلطة لتُمارس سلطاتها دون أن تعتدي على حقوق المواطن. وقد استطاع اليونانيون القدامى إدخال مفهوم القانون إلى مجتمعهم، وتمكنوا عمليا من بناء “مجتمع مدني” مناسب لعصرهم… كما أدرك الرومان في بعض عهودهم أن الحقوق السياسية تحول دون الانفراد بالسلطة وممارسة التعسف. وذلك ما جعلهم يعطون صلاحيات واسعة لما كانوا يسمونه بـ “مجلس النبلاء”. ثم جاء مونتسيكو بفكرة الفصل بين السلط التنفيذية والتشريعية والقضائية، اعتمادا على مبدإ أن السلطة توقف السلطة وتحول دون إساءة استعمالها، إذ يرى أن كل من له سلطة يميل إلى إساءة استعمالها، لأن ذلك من أمراض الطبيعة البشرية. تبعا لذلك، وجب إيجاد نظام يذهب إلى أقصى الحدود في وضع ضوابط على الحكام للحيلولة دون تسلُّطهم على الأفراد والمجتمع.
لقد ارتكبت الثورات التي عرفها الغرب استبدادا باسم قيَّم التحرر، لكن كان هناك حس ديمقراطي تجسد في امتلاك الفرد قيمة، ووجوب الحيلولة دون تسلط الحكام عليه، وضرورة استقلاله عنهم… وهذا ما شكل خلفية لـ “سيادة مبدأ الدستور” التي نشاهدها اليوم في البلاد الغربية…
لكن إذا كان العالم “العربي الإسلامي” لم يعرف هذا المبدأ لأسباب عديدة، لا يتسعُ المقامُ لعرضها، فالمؤكد هو أنَّ السلطة في هذا العالم تتحكم في الًأفراد والمجتمع، بمعنى أنَّ الإنسان لا يتمتع بوجود فردي ولا بحماية بصفته شخصا مستقلا عن الدولة “العربية الإسلامية”، مما يفسر غياب معارضات منظمة وقوية في تاريخنا، لأن النظم السياسية في منطقتنا لا تقبل بوجودها أصلا.
ثمَّ إنَّ تاريخ الدولة في منطقتنا هو تاريخ الحكام. أما تاريخها في الغرب منذ عهد النهضة، فهو تاريخ “المجتمع المدني”؛ هي في الغرب شخص معنوي، وذلك ما يشكل أساس الفكر السياسي الغربي، بينما نجد أن تراث الدولة في منطقتنا هو تراث الحكام، كما أن أغلب القواعد التي تقوم عليها الدولة عندنا هي “الأحكام السلطانية” التي تحكم بمقتضى رغبات الحكام وتخدم سلطتهم، دون اعتبار لحقوق أفراد المجتمع، ودون السماح بوجود مؤسسات أخرى تدافع عنها وتحميها. لذلك فالدولة عندنا تظل تابعة للحكام، لأنها ليست شخصا قانونيا.

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،